مقالاتمقالات المنتدى

(الوسطية منهج قرآني أصيل) .. وسطية القرآن الكريم في العبادة (1)

(الوسطية منهج قرآني أصيل)

وسطية القرآن الكريم في العبادة (1)

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

قرر القرآن الكريم منهج الوسطيَّة في العبادة في آيات كثيرة، تنتظم فيما يلي:

أولاً: الآيات التي تبين انحراف أولئك الذين صرفوا العبادة عن وجهها الصحيح، وذلك مثل:

قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرِ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ *}

وقوله: {وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ *}[النمل:43 ].

وقوله: {قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا}[المائدة: 76].

وقوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}[الزمر: 3].

ومثل ذلك قوله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ *}[الحج: 11].

فهذه الآيات وأمثالها ترسم منهج الوسطيَّة في العبادة ببيان انحراف طريق هؤلاء الذين قلبوا العبادة عن وجهها الصحيح.

قال ابن كثير في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ}: (قال مجاهد، وقتادة، وغيرهما: (على حرف): على شك. وقال غيرهم: على طرف، ومنه حرف الحبل، أي: طرفه، أي: دخل في الدين على طرف، فإن وجد ما يحبه؛ استقر، وإلا؛ انشمر). (تفسير ابن كثير (3/ 209)

وانظر: إلى قول القرطبي، حيث إن كلامه نصٌّ في محل الشاهد. قال: (على حرف) على شك، قاله مجاهد، وغيره، وحقيقته: أنه على ضعف في عبادته، كضعف القائم على حرف مضطرب فيه، وحرف كل شيء: طرفه، وشفيره، وحدُّه، ومنه: حرف الجبل، وهو أعلاه المحدد. وقيل: (على حرف) أي: على وجه واحد، وهو أن يعبده على السراء دون الضراء، ولو عبدوا الله على الشكر في السراء، والصبر على الضراء؛ لما عبدوا الله على حرف. وقيل: (على حرف): على شرط. (تفسير القرطبي 12/ 17).

وقال ابن كثير في قوله تعالى {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3]: أي: ليشفعوا لنا، ويقربونا عنده منزلة، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهليتهم: لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك، تملكه وما ملك. وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر، وحديثه، جاءتهم الرسل ـ صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ـ بردِّها، والنهي عنها، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم، لم يأذن الله فيه، ولا رضي به، بل أبغضه، ونهى عنه. (تفسير ابن كثير (4/ 54)

ثانياً: الآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده، وتصف عبادته بالاستقامة، وبأن عبادته هي الكلمة السواء، وغير ذلك مما يدلُّ على أن عبادته هي الطريق الوسط السالم من الانحراف، والضلال: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64].

وقال في أكثر من موضع: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ *}[آل عمران: 51]. وقال: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ *}[الحجر:99].

والآيات التي جاءت تأمر بعبادة الله وحده كثيرة جدّاً، فما من نبيٍّ إلا قال لقومه: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَاقَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ *}[الأعراف: 59].

قال الطبري في قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ} [آل عمران: 64] يعني بذلك ـ جل ثناؤه ـ: قل يا محمد لأهل الكتاب ـ وهم أهل التوراة، والإنجيل ـ: تعالوا هلموا إلى كلمة سواء؛ يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، والكلمة العدل هي أن نوحد الله، فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، { وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا } [آل عمران: 64]. (تفسير الطبري (3/ 301)

وقال ابن كثير في الآيةنفسها: {سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}أي: عدل، ونَصَف، نستوي نحن وأنتم فيها، ثم فسرها بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [آل عمران: 64] لاوثناً، ولا صليباً، ولا صنماً، ولا طاغوتاً ولا ناراً، ولا شيئاً، بل نفرد العبادة لله {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ}[النحل:36].

وقال رشيد رضا: قال الأستاذ الإمام في قوله تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} نكلوا دعاهم إلى أمر آخر، هو أصل الدين وروحه الذي اتفقت عليه دعوة الأنبياء، وهو سواء بين الفريقين، أي: عدل، ووسط، لا يرجح فيه طرف على اخر، وقد فسره بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ} الآية.

وبهذا يتضح لنا: أن هذه الآية نصٌّ في الوسطيَّة في العبادة، وهي عبادة لله وحده.

أما قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ *} [آل عمران: 51] فقد قال الطبري في معناها: ذلك هو الطريق القويم، والهدى المتين الذي لا اعوجاج فيه.

وقال في آية مريم: {وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ *} [مريم: 36] يقول: هذا الذي أوصيتكم به، وأخبرتكم أن الله أمرني به هو الطريق المستقيم، الذي من سلكه نجا، ومن ركبه اهتدى؛ لأنه دين الله الذي أمر به أنبياءه. (تفسير الطبري (3/ 283)

وقال القاسمي: في قوله تعالى: {فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ *} [مريم: 36]: (أي: قويم، من تبعه، رشد، وهُدي، ومن خالفه؛ ضل، وغوى).

وقد سبق أن أوضحت: أن الوسطيَّة تعني الاستقامة، وأن قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ *}[الفاتحة: 6] من أقوى الأدلة على منهج الوسطية، كما يقرِّره القرآن الكريم.

ملاحظة استفاد المقال مادته من كتاب: “ الوسطية في القرآن الكريم”، للدكتور علي محمد الصلابي.

المراجع:

  • تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، أبو الفداء إسماعيل بن كثير، تحقيق: عبد العزيز غنيم، وحمد أحمد عاشور، ومحمد إبراهيم البناء، مطبعة الشعب القاهرة.
  • تفسير القاسمي، محمد جمال الدين القاسمي، راجعه محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر، بيروت، الطبعة الثانية، 1398 هـ/ 1978م.
  • تفسير المنار، محمد رشيد رضا، دار المعرفة، الطبعة الثانية، بيروت.
  • الوسطية في القرآن الكريم، د. علي محمد الصلابي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى