مقالاتمقالات المنتدى

الوسطية في الإسلام وتجلياتها في فكر الدكتور يوسف القرضاوي

الوسطية في الإسلام وتجلياتها في فكر الدكتور يوسف القرضاوي

 

بقلم رانية نصر / باحثة وكاتبة “عضو هيئة علماء فلسطين” (خاص بالمنتدى)

 

ليست الوسطيّة شعارات تُردد، ولا كلمات يتغنّى بها من يتصدّر الدفاع عن الشريعة الإسلامية؛ إنما الوسطية منهج قويم وقواعد ناظمة، رُسِّخت أركانُها بيدٍ إلهية حكيمة راشدة، لا يعتريها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، يدٍ ضابطة للموازين بحساب دقيق وبتقدير عميق، عاذرة عجز البشر وضعفهم عن بلوغ مرام الكمال والمثال.

مُستند المنهج الوسطي

كثيرة هي الاستدلالات الشرعية والقواعد الفقهية التي أرشدت لمراعاة منهج الوسطيّة سواء على مستوى العقائد أو العبادات أو المعاملات، قال تعالى: ﴿فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ ۚإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ البقرة: ١٧٣، واستنبط العلماء من هذه الآية وغيرها قاعدة “الضرورات تبيح المحظورات” وفيها دليل واضح على مشروعيّة الأخذ بالرّخص حال الضرورة؛ غير أنّ في الآية نفسها ضابط لهذه القاعدة هي: “غير باغ ولا عاد” فالضّرورة تقدّر بقدرها، وهي مقيّدة وليست على إطلاقها؛ وهنا تبرز أهمية وضع هذه الضرورة في ميزان التّوسط والاعتدال؛ فالرّخص مباحة بقدر رفع الحرج، ولم يأتِ الإسلام ليشق على الناس إنما ليرفع عنهم الحرج.

وفي السُّنة أمثلة جليّة على إقرار منهج الوسطية؛ فقد رُوي عن سيدنا أنس بن مالك في الحديث المشهور أن رهطاً من الصحابة تقالّوا عبادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- عندما أُخبروا بها، فكان أحدهم يصوم الدهر أبداً، والثاني يقوم الليل أبداً، والثالث يعتزل النساء أبداً، فلما بلغ ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم- ساءه ذلك، وبيّن لهم خطأهم وقال: “إنما أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له ولكني أقوم وأنام وأصوم وأفطر وأتزوج النساء فمن رغب عن سُنتي فليس مني”، فهذا مستند صحيح وصريح على وجوب اتباع السّنة بالتزام منهج الوسطيّة وعدم المغالاة وإن كانت في العبادات.

الوسطية هي الأفضلية

تقاربت أقوال المفسّرين في المراد من الوسط في قوله تعالى:﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ البقرة 143، فقال الزمخشري: الوسط؛ العدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض، وذهب ابن كثير إلى أنّ الوسط هو الخيار الأجود، وقال القرطبي الوسط يعني: العدل، وأصل هذا أنّ أَحْمَدَ الأشياء أوسطها، والمعاني تتّحد في أن الوسط المحمود ما كان مجانباً للغلو والتقصير، والمعنى العام للآية أن هذه الأمة لم تَغلُ غلو النصارى، ولا تُقصّر تقصير اليهود، فالأفضلية للوسطية التي امتازت بها شريعة الله، وللقوة التي تكمن في الوسط وهي الميزان العادل التي توزن به الأشياء، فالأمة الإسلامية أمة تصدّرت الأمم وفُضِّلت على غيرها بمنهج الوسطيّة القويم والصراط المستقيم.

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: “ليس من العقل أن يعلم الخير من الشّر فقط، بل يجب أن يعلم خير الخيرين وشرّ الشرين، ويُعلم أن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها، وتعطيل المفاسد وتقليلها، وإلا فمن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة والمفسدة الشرعيتان؛ فقد يدع واجبات ويفعل محرمات”، فالمجتهد الذي مَلَك أدواته الأصولية هو القادر على إتقان هذه الصّنعة الثقيلة والدقيقة وأدائها بحقها وعلى وجهها، فالمقايسة ما بين المصالح والمفاسد أو المصالح نفسها أو المفاسد نفسها هو جوهر إعمال ميزان الوسطية في الحكم على المسائل عند من عرّفها بــ “الأفضلية”، وهذا لا ينفعك عن اعتبار الحال والمآل وتقديم الأولى فالأولى، وإنزال النص في مكانه الصحيح، مع مراعاة مقتضيات الواقع والنّظر في السياقات والمواقع ووجوب الحفاظ على الأصول؛ فالوسطية كما عرّفها العالم الجليل الدكتور يوسف القرضاوي -رحمه الله تعالى- تعني العدل والتوازن بلا جنوح إلى الغلو ولا إلى التقصير، وتعني الاستقامة والبعد عن الميل والانحراف، والوسطية دليل الخيرية والأمان ودليل القوة ومركز الوحدة.

 

تطبيقات معاصرة على منهج الوسطية

إن النّظام العالمي الجديد بمكوناته المتنوعة يحتّم على المجتهد اليوم أن يُعيد النظر في بعض المسائل الاجتهادية ويُعيد تفكيكها وتكييفها بما يتناسب وفقه الحال والمآل وفقه التغيير وبما يرفع الحرج عن الناس مُطبّق منهج الوسطية من خلال تعميق النظر في المستجدات بمسبار الأصولي العالم بمقاصد الشريعة مُحققاً لمصالح الناس، مُيسِّراً عليهم غير مفرطٍ في الثوابت والأصول، فلا يستطيع المسلون اليوم العيش بمعزل عن مستجدات الواقع ومقتضياته، وكان للشيخ الجليل القرضاوي -رحمه الله- اليد الطولى في هذا المجال، فلا يكاد يذكر منهج الوسطية إلا ويتجلى أمامنا فكره وفقهه المعتدل، وقد أبدع أيّما إبداع في فقه المقاصد ورد الجزئيات للكليات والفروع للأصول وراعى المتغيرات والثوابت والمتشابهات والمحكمات، فتَحَرّك في مساحات الاجتهاد مستمسكاً بالأصول مُثبتاً مرونة الدّين في الفروع وصلابته في الجذور، ولا تُغفل اجتهاداته المُتفرّدة في مجال الاقتصاد الإسلامي؛ وفتاواه النوعيّة في عالم التّعامل مع المصارف فلم يحرّمها بالكلية؛ إنما وضع ضوابط شرعية للتعامل معها، وأوجب وجود رقابة شرعية قراراتها مُلزمة واجبة التنفيذ، فهذه الوسطية الرّاشدة المحافِظة على الأصالة والقابلة للتجديد في آنٍ واحد بما يخدم مصالح البلاد والعباد، وكما قال العلماء إن الشريعة جاءت لتحقيق مصالح العباد عاجلاً وآجلاً، والوسطية التي تُعين على الاستمرار وبلوغ الغايات هي أقوَم أسلوب وأنجع وسيلة لتحقيق هذه الغايات، فرحم الله فقيد الأمة الشيخ القرضاوي وجزاه عن أمّته خير الجزاء بما قدّم لهذا الدين، خاصة في باب الوسطية الذي أفنى عمره في التأصيل والتأسيس له وتعليمه للناس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى