بقلم د. عامر الهوشان
لا شك أن للمصائب التي تنزل بالمسلم في هذه الحياة الدنيا بإذن الله آلام وأحزان , فمن ابتلي بذهاب بعض ماله أو جله بعد غنى سيتأثر ويحزن , ومن أصيب بمرض في جسده فأوجعه وأقعده بعد صحة وقوة وحركة سيتألم ويتكدر , ومن فُجع بموت فلذة كبده أو عزيز على نفسه وروحه سيتملكه الحزن والألم ….
إلا أن الحقيقة التي قد يغفل عنها كثير من المسلمين , أن ما سبق ليس إلا وجه واحد للمصيبة والابتلاء , وأنه لا يجوز بحال من الأحوال الاعتقاد بأن هذا الوجه هو الوحيد من نزول المحن والمصائب كما قد يُظن , فهناك وجه آخر هو في الحقيقة خير كبير يختفي وراء ذلك الشر الظاهر .
وقبل أن أسوق الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على أن الوجه الآخر للمصائب هو خير للمسلم في نهاية المطاف , لا بد أن يعلم القارئ الكريم ويوقن بأن الله تعالى لا يصدر عنه شر محض أبدا , وأن ما يصيب الإنسان من سوء وكرب ومصيبة ومحنة وبلاء …. إنما هو في الظاهر كذلك , ولكنه في الواقع والحقيقة منحة وعطاء , وتكفير للذنوب والسيئات , وفرصة ذهبية للإنسان الغافل عن الله ليتذكر , وللشارد عن منهج الله ليعود ويرجع .
جاء في شرح العقيدة الطحاوية للحوالي : ( فإنه سبحانه لم يخلق شراً محضاً من جميع الوجوه والاعتبارات) وهذا هو وجه تنزيه الله عن كون الشر ليس إليه، ( فإن حكمته تأبى ذلك) أي أن الله تَعَالَى حكيم، وحكمته تأبى أن يخلق شراً محضاً لا خير فيه بوجه من الوجوه، وإنما يخلق شراً وفيه جوانب من الخير، ويحقق به حكماً ومصالح ، ( فلا يمكن في جناب الحق تَعَالَى أن يريد شيئاً يكون فساداً من كل وجه لا مصلحة في خلقه بوجه ما، هذا من أبين المحال) أي: محال عن ذي العزة والجلال المتصف بصفات الكمال، أن يكون هذا من شأنه ( فإنه سبحانه الخير كله بيديه، والشر ليس إليه) وهذا معنى نفي الشر عن الله وتنزيهه عنه .
وليس معنى عبارة ( والشر ليس إليه ) عند أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ أن الله لم يخلق أفعال العباد كما تقول المعتزلة , بل تعني : أن الله تعالى منزه أن يخلق أو يريد أو يشاء شراً، لا خير فيه بوجه من الوجوه . ص1524
إن من يتمعن في قوله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } السجدة/21 , يمكنه أن يكتشف الوجه الآخر حتى من إنزال الله تعالى عقابه وعذابه الأدنى على بعض عباده الفاسقين .
قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } قال ابن عباس و أبي بن كعب، وأبي العالية، والحسن، وإبراهيم النَّخَعِي، والضحاك، وعلقمة، وعطية، ومجاهد، وقتادة : يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها، وما يحل بأهلها مما يبتلي الله به عباده ليتوبوا إليه. 6/369
إذن فمصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها ما هي في الحقيقة إلا وسيلة لمنح الشاردين عن الله تعالى وصراطه المستقيم فرصة أخرى ليعودوا ويتوبوا ويقبلوا على ربهم سبحانه قبل فوات الأوان , وهل هناك خير أعظم من أن يُمنح الإنسان فرصة قبل الموت والفوات ليستدرك ما فاته , ويخلص نفسه وينجيها من عذاب أليم ؟! وإن كانت تلك الفرصة مغلفة بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات .
إن واقع الحياة التي نعيشها يؤكد أن هناك صنف من الناس قد أغرته نعم الله التي يتقلب فيها ليل نهار عن إدراك مصدرها الحقيقي , فاستخدمها في غير ما أحل الله وأباح , وأسرف على نفسه بسببها حتى أضحت حجابا له عن طاعة الله والالتزام بأوامره , فكان لا بد لخروجه من تلك الحالة من هزة وصدمة , قد يتمثل بخسارته لشيء من ماله أو موت عزيز على نفسه أو …. فتوقظه من غفلته , وتكون سببا في عودته إلى الله تعالى .
ولعل المتدبر لقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } الأنعام/42 يستطيع أن يستخلص بسهولة الوجه الآخر لابتلاء الله تعالى عباده من الأمم السابقة بالأمراض والأسقام والفقر وضيق العيش …. فالغاية واضحة ومعلنة : { لعلهم يتضرعون } .
قال ابن كثير رحمه الله : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ } يعني : الفقر والضيق في العيش { وَالضَّرَّاءِ } وهي الأمراض والأسقام والآلام { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } أي: يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون .
وتُظهر آيات أخرى من كتاب الله تعالى الوجه الآخر للمصائب , ففي قوله تعالى : { …….وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } الأعراف/168 كشف لهذا الوجه , وفي قوله تعالى : { وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } الزخرف/48 تأكيد لهذه الحقيقة .
قال الطبري : وقوله:( لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) يقول: ليرجعوا عن كفرهم بالله إلى توحيده وطاعته، والتوبة مما هم عليه مقيمون من معاصيهم , قال قتادة : ( وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ) أي يتوبون، أو يذكرون . 21/615
وإذا كان الوجه الآخر للمصائب التي تنزل بعباد الله المسرفين على أنفسهم بالموبقات والمعاصي هو إتاحة الفرصة لهم للعودة والرجوع والإنابة إلى الله قبل فوات الأوان , ففي السنة النبوية ما يشير إلى وجه آخر للمصائب التي تنزل بعباد الله المؤمنين .
ففي الحديث عَنْ أَبِى سَعِيدٍ وَأَبِى هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلاَ نَصَبٍ وَلاَ سَقَمٍ وَلاَ حَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلاَّ كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ ) صحيح مسلم برقم/6733
وفي رواية أخرى عن عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : ( مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً ) صحيح مسلم برقم/6727
وفي حديث آخر عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا يَزَالُ البَلاَءُ بِالمُؤْمِنِ وَالمُؤْمِنَةِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) سنن الترمذي برقم/2399 وقال : هذا حديث حسن صحيح .
فهلّا أدركنا بعد هذا البيان الخير الذي أراده الله تعالى بنا حتى في ابتلائنا بالمصائب أحيانا ؟! وهلّا استقبلنا ابتلاءات الله تعالى بعد الآن بالصبر والاحتساب أولا , وباغتنام الفرصة للرجوع والعودة إليه قبل الفوات ثانيا ؟!
المصدر: موقع المسلم.