مقالاتمقالات مختارة

الهجرة .. ومنهج البحث عن حل

بقلم أ. محمد إلهامي

يكاد القرار العُمَري الذي اتخذ الهجرة حدثا للتاريخ الإسلامي أن يكون وحيا، ولا عجب؛ فذلك العقل العُمَري بلغ من الشفافية والعبقرية أن قد نزل الوحي ليوافقه في أكثر من رأي، ومن ثم كان قرار التأريخ بالهجرة ثمرة من ثمار ذلك العقل الألمعي الجبار فاقتضى أن يتوقف المسلمون أمامه في كل عام، وهي وقفات لا تزال تمدهم بالجديد والضروري لمسيرتهم في التاريخ.

في هذه السطور سنرى أن الهجرة تقدم للمسلمين منهجا في بحثهم عن الحلول للمشاكل القائمة، وسنرى كيف أن الإخفاقات التي يشهدها واقع الأمة راجعة إلى اعتماد حلول “ناقصة” لم تدرك بعض الحقائق التي كان ينبغي استلهامها من حادث الهجرة.

***

طبيعة المشكلة

كان قيام الدولة الإسلامية ضرورة شرعية وضرورة تاريخية، فعلى المستوى الشرعي كان لابد للرسالة الخاتمة أن تستكمل فصولها فتخبر الناس كيف يديرون حياتهم في دولة، وكيف ينظمون لأنفسهم طرق السياسة والإدارة والحرب والقانون. فكان لابد من وجود صورة للدولة الإسلامية تظل بمثابة النموذج الذي يُلهم الناس ويُرشدهم. وهي صورة لا يستفيد منها المسلمون وحدهم بل هي كذلك من وسائل الدعوة لكل العالمين، فإن تحقيق الفكرة للنجاح على الأرض يدفع ويُغري من لم يقتنع بالفكرة ذاتها إلى أن يقتنع بها حين يرى آثارها وثمارها.

وذلك قانون تاريخي لا يُجادل فيه، فكل فكرة في التاريخ لم تستطع صناعة دولة -تتمثل بها في واقع الحياة- ماتت في مهدها أو في صباها، أو ظلت –في أحسن الأحوال- حلما يراود الخيال، وينفر منه الواقعيون، ويطرحه السياسيون والقادة وصناع التاريخ.

فكان لابد للرسالة الخاتمة أن تُنشيء الدولة لتحقق ثمرة الفكرة، ولتثبت الفكرة أنها عملية قادرة على الحياة وقابلة للتطبيق، بل هي النموذج الأمثل والأنجح من بين كل الأفكار. هذا على مستوى الضرورة الشرعية.

وأما على مستوى الضرورة التاريخية، فيبدو الأمر واضحا لو حاولنا تخيل مسار التاريخ الإنساني بدون الرسالة الإسلامية، إن الصورة تبدو كارثية بكل الوجوه، فإن القفزة الحضارية التي صنعها المسلمون وضعت بصمتها على كل التاريخ الإنساني وعلى مختلف أنشطة السلوك الإنساني حتى ليبدو المفكر الإنجليزي الكبير مونتجمري وات مذهولا إذ يقول “إننا لنجد شيئًا لا يكاد العقل يصدقه، وبالتالي فهو أمر يخلب اللبَّ، حين نقرأ عن كيف تحوَّلت الحضارات القديمة في الشرق الأوسط إلى حضارة إسلامية”[2]، هذا مع اعتراف المستشرق الإنجليزي الشهير ألفريد جيوم بأن تأثير الحضارة الإسلامية لم تدرك أبعاده بشكل كامل إلى الآن، يقول: “وعندما ترى ضوءَ النهار جميعُ الموادِّ النفيسة المختزنة في مكتبات أوربا، فسيتضح لنا أن التأثير العربي الباقي في الحضارة الوسيطة لهو أعظم بكثير مما عُرِفَ عنه حتى الآن”[3].

إلا أن المشكلة العويصة التي عاناها النبي (صلى الله عليه وسلم) في قريش أن أحدا من ساداتها وصناع القرار فيها لم يقتنع بأن هذه الفكرة إن اعتنقوها وآمنوا بها سادوا العرب والعجم وملكوا الأبيض والأحمر، بل كان نظرهم قاصرا وكانت قلوبهم مستكبرة فلم ينظروا فيها إلا إلى تسفيهها عقول آبائهم ورفع شأن العبيد إلى مرتبة السادة والقضاء على عبادة الأوثان التي كان وجودها “ضرورة اقتصادية” لتجارتهم بما تدره عليهم من أموال.

ورغم كل المجهود المبذول لإقناعهم بصحة الرسالة وبفوائدها لهم إلا أنهم صدوا واستكبروا بل وانهالوا على المؤمنين يعذبونهم ويفتنونهم عن دينهم حتى تآمروا لقتل صاحب الرسالة نفسه.

كان لابد للرسالة أن تجد أرضا تستقل بها فتحقق فيها الفكرة، ولكن أين الأرض؟ ومن ذا الذي يقبل أن يغامر؟.. ذلك هو صلب المشكلة التي تبحث عن حل.

***

(1) الحل موجود

هذه هي المنهجية الأولى في البحث عن حل، وهي الإيمان بأن الحل موجود للمشكلة القائمة، وأن الله تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها، وهو –من ثَمَّ- لا يكلف الأمة ما لا تطيق وما ليس لها إليه من سبيل، إلا أن هذا الحل قد يخفى فلابد إذن من السعي للبحث عنه، وهو سعيٌ يؤمن بأنه يبحث عن شيء موجود.

ثلاثة عشر عاما قضاها النبي (صلى الله عليه وسلم) قبل أن يتوصل إلى الحل، لكن المهم في هذه الأعوام أنه لم يفتر ولم يسكت ولم ييأس أبدا، كانت كل المحاولات التي تنتهي بنتائج غير مرضية تزيد من عزمه (صلى الله عليه وسلم)، فتبدأ بعدها محاولة أخرى.

وإني لأحاول أن أتصوره (صلى الله عليه وسلم) يجلس وهو في عمر الخمسين، بعد عشر سنوات من الجهاد والأذى يستعرض كيف قام بالدعوة منذ سنين وكيف أوذي وكيف عذب هو وأصحابه، وكيف حوصر في شعب أبي طالب حتى كادوا أن يهلكوا من الجوع، ثم كيف ذهب إلى الطائف وعاد منها مُهانا، ثم كيف يعرض نفسه على القبائل فترده القبائل كلها كأنما دبروا هذا بليل.

ثم أتصوره وهو عازم لم يثنه كل هذا، وما يزال يحاول ويجاهد، ويبحث عن أرض تقله وعن بشر يحمونه، حتى يُظفره الله بنفر الأنصار الذين كانوا بداية النصر والتأييد (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) [الأنفال : 62].

إن لكل مشكلة حل، لكن لا يصل إلى هذا الحل إلا من أخذ في البحث والتقصي واجتهد، قد يتعثر مرة ومرات لكنه سيجده. وصحيحٌ أنه قد يكون صعبا، وهي صعوبة تبلغ أن يقف النبي ناظرا خلفه إلى مكة التي يعانقها الليل فيقول دامعا “والله إنك لخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله ولولا أني أخرجت منك ما خرجت”[4]. بل تبلغ أن يتذكر -بعد السنين والجهاد الطويل- أصعب يوم مَرَّ عليه وقد كان يوم الطائف.

(2) اكتب “جدول الأعمال”

الإيمان بوجود الحل يثمر وضع “جدول الأعمال” أو “خطط التشغيل”، ولقد كان لدى النبي (صلى الله عليه وسلم) “جدول أعمال” هذا: سنجرب هذا الطريق ونبذل فيه كل ما نستطيع، فإن لم ينجح فهذا، فإن لم ينجح فهذا ثم هذا ثم هذا… وهكذا حتى يصل بنا أحد هذه الطرق إلى الحل المطلوب.

إن الضرورة الشرعية والتاريخية التي تحتم قيام الدولة الإسلامية تجعلنا ننظر إلى الفترة المكية على أنها سيرة رجل يبحث عن القلوب ليهديها إلى الدين، ثم هو أيضا يبحث عن إقامة الدولة التي تتحقق بها الفكرة، وبهذا نفهم خطة السير أو “جدول الأعمال” الذي اعتمده النبي (صلى الله عليه وسلم) في هذه الفترة، ونستطيع أن نرى بوضوح ثلاثة بنود في هذا الجدول الذي يهدف إلى إقامة الدولة الإسلامية.

البند الأول: محاولة إقناع سادة قريش وكبرائها، وكان حرصه (صلى الله عليه وسلم) على هذا عظيما إلى الحد الذي عوتب فيه بقرآن يصفه بأنه “يقتل نفسه” من الغم لعدم إيمانهم (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا) [الكهف:6] (لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء:3]، ثم عوتب حين عبس لأعمى شغله عن جلسة مع كبار القوم، فنزل القرآن (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) [عبس:5 – 10]، بل تروى بعض الآثار –وفيها ضعف- أنه (صلى الله عليه وسلم) هَمَّ بالاستجابة لطلب سادات قريش بأن يجعل لهم مجلسا غير مجلس العبيد لئلا تسقط بينهم المقامات، فنزل قول الله تعالى (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ) [الأنعام : 52].

ولكن اللافت للنظر، والجدير بالتأمل والاعتبار، أنه (صلى الله عليه وسلم) وقد رأى إصرارهم لم يقعد جالسا منتظرا أن يحول الله قلب أحدهم إلى الإيمان، أو منتظرا تغير الظروف والأحوال، وموازين القوى في مكة، بل انتقل إلى البند الثاني بعدما بدا أن الأحوال في مكة لا تبشر بخير في المدى المنظور.

البند الثاني: خرج النبي إلى الطائف –وهي القوة المنافسة لقريش في الجزيرة- باحثا عن الأرض التي يقيم عليها الدولة في حماية سادات الطائف، وحين وُوجه هناك بأقسى مما توقع فأُوذي وأُهين وهو الكريم النسب والخلق فإنه أيضا لم يقعد ولم ينتظر.

البند الثالث: وسع (صلى الله عليه وسلم) دائرة البحث حتى كان يعرض نفسه (وكم توحي هذه العبارة بالإصرار على الهدف، كما توحي بالهوان على الناس) على القبائل في موسم الحج. وكان شعار هذه الفترة معبرا عن طبيعة الهدف “ألا رجل يحملني إلى قومه؟ فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي”[5]، وذكر أصحاب السِيَر أسماء خمس عشرة قبيلة كلها رفض دعوته، حتى أعثره الله في آخر الأمر على النفر الستة من يثرب، فأيده الله بهم.

وأخيرا تحقق الهدف، ووجدت الأرض التي تستعد لإقامة دولة الفكرة، دولة الإسلام.

السير بلا رؤية ولا تخطيط أحد المشكلات التي تتسم بها حركة كثير من الإصلاحيين، كذلك الجمود على طريق وطريقة مشكلة أخرى تعاني منها كثير من الحركات والتيارات الإصلاحية.. كلاهما مشكلتان أنتجهما غياب منهج “جدول الأعمال”.

(3) وضوح الحد الأدنى المقبول

هذه المنهجية مع التي تليها أصلان لا غنى عنهما لكل من يتحرك بفكرة أو قناعة أو عقيدة في واقع يناهضها، فلابد من الوضوح الذي يُعرف به ما هو الحل المقبول وما هو الحد الأدنى الذي يُرضى به ولا يُقبل بما هو أدنى من ذلك.

لقد قبل النبي (صلى الله عليه وسلم) بالحد الأدنى من شروط إقامة الدولة في المدينة، وقبل بأدنى درجات الحماية والنصرة، وهي الحماية داخل المدينة فقط[6]، ففي بيعة العقبة الثانية كان النص يقول “وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم وتمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم”[7]. فعبّر عن الحماية داخل المدينة بلفظ “تمنعوني”.

ومن ثَمَّ فحين خرج (صلى الله عليه وسلم) لاعتراض عير قريش في بدر فأفلت العير وصارت الثلة القليلة أمام جيش قريش وعن غير استعداد، احتاج النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى ما نستطيع أن نسميه “بيعة جديدة” تشمل بند “القتال والنصرة خارج المدينة” وهو ما وافق عليه الأنصار على لسان سيدهم سعد بن معاذ.

إن هذا دليل آخر يثبت ضعف رواية تفاوض النبي (صلى الله عليه وسلم) مع بني شيبان والتي تقول بأنهم قَبِلوا حمايته فيما يخص جهة العرب فحسب لا من جهة الفرس، وأن النبي (صلى الله عليه وسلم) رفض الحماية المنقوصة واشترط الحماية الشاملة وقال:”إن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه”[8].

ما كان النبي ليترك قوما يريدون حمايته من جهة العرب ويعجزون عن جهة الفرس، فيبقى في قوم لا يحمونه حتى من جهة أنفسهم، بل يعذبونه وأصحابه حتى يضطرونهم إلى كلمة الكفر!! ثم إنه قَبِل بمن سيحمونه داخل مدينتهم فقط!!

(4) رفض العروض التلفيقية والتخديرية

إن الهجرة، أيضا، درس في البحث عن الحل الجوهري، وترك الحلول الجزئية التوفيقية أو التلفيقية التي تعطل المسيرة الإصلاحية وتمتص حماستها وزخمها وتعمل على حصارها أو تخديرها أو تنويمها.

يبدو هذا الدرس عظيما في كل العصور وأمام كل المشكلات، إلا أنه في “عصر المفاوضات” يبدو أشد عظمة وأكثر إبهارا، فكم من الثورات التي قامت بها الشعوب العربية والإسلامية دخلت في نفق الحلول التوفيقية، فوضعت على طاولة المفاوضات حتى انتهت وتلاشت. إن المرء ليتذكر كثيرا من هذه الثورات بحسرة، كما يتذكر وبحسرة أشد كثيرا من الخِدَع التي انطلت على مجاهدين وثائرين وإصلاحيين حتى اغتالت أحلامهم وأحلام شعوبهم وأتباعهم، والأمثلة كثيرة ولا أشك أن من يتأمل التاريخ والواقع سيخرج بالكثير من هذه الأمثلة.

إن سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) تخبر أنه لم يرض أبدا بحل توفيقي طوال مرحلة الاستضعاف، لكنه ربما فاوض وبحث عن حلول وسطى في المرحلة المدنية، وذلك بالرغم من أن هذه الحلول التوفيقية كانت تتسع يوما بعد يوم، ويزيد فيها الإغراء بعد كل نجاح إسلامي يتحقق؛ فلقد بدأت منذ أن عُرض عليه أن يعبد إلههم عاما ويعبدون إلهه عاما، ولئن كان هذا عرضا مرفوضا في وجدان قارئ هذه السطور الآن، فإن العروض تطورت حتى وصلت إلى ذروتها مع عتبة بن أبي ربيعة: “يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت من هذا القول مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تريد شرفا شرفناك علينا حتى لا نقطع أمرا دونك وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك رئي تراه ولا تستطيع أن ترده عن نفسك طلبنا لك الطبيب وبذلنا فيه أموالنا حتى يبرئك منه… “[9]. والحقيقة أن هذا العرض بالملك والنفوذ والسيادة لا يزال يبدو مغريا بعد 1431 سنة، فقط إذا وضع القاريء نفسه مكان النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) المستضعف في مكة، الحريص على إيمان السادة والكبراء، الباحث عن حماية ونصرة.

غير أنه (صلى الله عليه وسلم) رفض كل حل يخمد حماسة المؤمنين أو ينتهك صميم الإيمان، وظل يجاهد ويُؤْذَى ثم يجاهد ويؤذى، حتى أقام الدولة الحق بالحق. ولو أن هذا الدرس وعاه أبناء الأمة لما وجدنا واحدا يكتب رحلة حياته -التي فشلت- في مذكرات بعنوان “الحياة مفاوضات”.

(5) البحث عن الحل لا تحميل المسؤولية

كثيرا ما يبدو الغضب والانزعاج على العلماء والدعاة والقائمون بالإصلاح تجاه وقوع تقصير من الأفراد في الأوراد التعبدية أو في السنن والنوافل، أو باتجاه ارتكاب بعض الذنوب وجلها من الصغائر، وكثيرا ما نسمع خطابا يُحمّل الذي يسمع الأغاني أو المتبرجة أو المتعلق بالكرة أو غير المقيم على تلاوة القرآن مسؤولية ما صارت إليه الأمة من الضعف والهوان.

ونرى أن هذا من تحميل الأمور فوق طاقتها، وفي سيرة النبي (صلى الله عليه وسلم) وطوال المرحلة المكية لم نر أسلوبا كهذا، وقد انهار الأوائل الذين اسلموا: عمار بن ياسر وأمه سمية وصهيب والمقداد (رم) تحت التعذيب الشديد فنطقوا بكلمة الكفر، كما في حديث ابن مسعود قال: “كان أول من أظهر إسلامه سبعة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد. فأما رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فمنعه الله بعمه أبي طالب. وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه. وأما سائرهم فأخذهم المشركون وألبسوهم أدراع الحديد وصهروهم في الشمس. فما منهم من أحد إلا وقد واتاهم على ما أرادوا إلا بلال”[10]. وأتى عمار للنبي حزينا يقول: “ما تُرِكْت حتى نلت منك وذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان قال: إن عادوا فعد”[11]، ثم نزل فيه قول الله عز وجل يستثنيه من العذاب (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ -إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا- فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النحل : 106]

لم ير النبي (صلى الله عليه وسلم) في أزمة الإسلام وقتها أن هذا بسبب أن بعض من أصحابه –كخباب وعمار والمقداد و… و….- لم ينجح في اختبار الثبات والصمود، وبالتالي فتلك الفئة ما زالت في حاجة لمزيد من التربية والاحتضان والتوعية، ولمزيد من الإيمان. لم يعتمد النبي هذا التفسير، ولم يعتبر أن هذا هو سبب تأخر النصر والتمكين، بل استمر (صلى الله عليه وسلم) في مسيرته لمعالجة سبب الأزمة الحقيقية وهو عدم “الاستقلال” في أرض تعيش عليها الفكرة الإسلامية في أمان، وفيها تثمر.

في الحقيقة فإن المتبرجات والتافهين والمفرطين في الطاعات بل حتى المتعاطين للمخدرات وغيرهم إنما هم ضحايا أفرزها ابتعاد المجتمعات الإسلامية عن الإسلام وما صنعته الحكومات من تولية المفسدين مناصب الإعلام والتوجيه والتأثير، وهؤلاء أولى أن ينظر إليهم بعين الرحمة والرعاية قبل أن ينظر إليهم باعتبارهم سبب نكبة الأمة ونكستها. ومن الهروب أن يُصَبَّ السَبُّ على هؤلاء ولا يصب على من أوردوهم هذه المهالك. وأحرى بالعلماء والدعاة والحركات الإصلاحية أن تواجه الحقائق وأن تحارب أكابر المجرمين لا أن تُحَمِّل الضحايا مالم يفعلوه ولا يستطيعون!

ولو أن النبي (صلى الله عليه وسلم) عامل أصحابه كما يعامل الدعاة جمهورهم اليوم فلربما لم يكن ليفكر في الهجرة أبدا، بل عاش طوال عمره يغرس مزيدا من الإيمان ومزيدا من التربية ومزيدا من التثبيت…

(6) الحل العملي الذي يتحدي التشويش الإعلامي

وأخيرا، فما أحوجنا إلى هذه المنهجية.. إن الهجرة درس في البحث عن الحل العملي الذي يهتم بتغيير الواقع أكثر مما يهتم بـ “الاتهامات الإعلامية” التي تستطيع التشويش وإثارة المشكلات لمن يهتم لها كثيرا، وأكاد أتخيل أن الهجرة النبوية لو تسلط عليها إعلام مثل إعلام العصر الحالي، فسيستطيع رميها بكل نقيصة، وحينها ستتحول إلى “الهروب الكبير” و “التخلي عن مشكلات الوطن” و “لقد ترك محمد المسلمين الضعاف في مكة يعذبون وذهب ليعيش ملكا منعما في المدينة” ولقد ذهب “يمارس من المدينة جهاد الميكروفونات والمستضعفون في مكة يعذبون”. إن “الهروب إلى المدينة دليل على الفشل في مواجهة المشكلات الداخلية” وهو كذلك “استعانة بالدول الأجنبية”… إلخ.

ستتحول الهجرة المجيدة إلى “خيانة عظمى” لو تسلط عليها مثل إعلام العصر الحالي، الذي يُدار معظمه -سرا أو علنا- من القوى التي تعادي الأمة وتفترسها وتريدها عاجزة ضعيفة بلا جهاد ولا مقاومة ولا ذاتية ولا هوية. والواقع أنه لابد أن يمتلك العلماء والمجاهدون حسن التصرف والتعامل مع الإعلام، ومن أسفٍ أن هذا الجانب يحتوي خللا كبيرا، فلا يكاد يمهر في هذا الجانب من بين الحركات الإسلامية الحالية إلا حركة حماس وفصيلين لا أكثر من حركات المقاومة في العراق، وحزب الله في لبنان. ولا أكاد أَعُدُّ عشرة من العلماء يجيدون التعامل مع المناورات الإعلامية وأساليب الصحافة الملتوية.

غير أن الأهم من المهارة الإعلامية لدى حركات المقاومة والإصلاح ألا تعيش تحت “القصف الإعلامي المتواصل” لخطواتها وحركاتها ومشاريعها، خصوصا وأن رضا الناس غاية لا تدرك، فكيف لو كان هؤلاء الناس (الإعلام) –في معظمهم- لا يرضون عن المجاهدين ولا المصلحين إلا أن يتبعوا ملتهم، وهي غربية أو أمريكية أو إسرائيلية؟

لقد كان الواجب العملي والحل الواقعي أن يهاجر النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى المدينة ثم يعود بجيش يحرر المستضعفين من المسلمين في مكة، لا أن تتوقف الحياة في سبيل “الواجب الأخلاقي الذي يقتضي –على الأقل- مشاركة القائد للمستضعفين الذين يعذبون بسببه في المحنة لا تركهم في الأسر والبحث عن نعيم الملك في المدينة”.

***

هذه منهجيات ستة تلقيها إلينا الهجرة، وهي منهجيات تشتبك بواقعنا الحالي وتعالجه بحيث لا تترك شكا في أن حياة النبي (صلى الله عليه وسلم) بجميع مراحلها كانت معدة ومهيأة لتكون قدوة للأمة في جميع عصورها اللاحقة. ورحمة الله على الفاروق عمر فكأنما كان يُوحى إليه حين اختار الهجرة بداية لتاريخ الإسلام!

(المصدر: رابطة علماء أهل السنة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى