الهجرة من فكرة المشروع إلى مشروع الفكرة
بقلم د. محمد فتحي الشوك (خاص بالمنتدى)
غيّرت الهجرة النّبويّة المباركة مجرى التّاريخ و أضافت صفحات مشرقة للإنسانية جمعاء ، هي نقطة تحوّل كبرى صارت للأسف تمرّ كذكرى دون أن نستوعب دروسها أو نستخلص منها العبرة. تمضي سنة لتلوح أخرى و حالنا يزداد تدهورا ، تشتّتا ، تيها و فرقة ، فمتى ترانا نستفيق و متى نبادر بتشخيص و معالجة ما نعيشه من أزمة؟
دروس مباشرة للهجرة النّبويّة الشّريفة:
منذ1443سنة قمرية أي سنة 622 ميلادية و بعد ثلاثة عشرة سنة من الدّعوة إلى الله في مكّة أُذن للرّسول الأكرم صلّى الله عليه و سلّم بالهجرة بعد أن سُمح للمسلمين بذلك خوفا على عقيدتهم مع اشتداد حملات التّضييق و الحصار و المطاردة الّتي طالتهم فكانت موجات الهجرة الأولى إلى الحبشة ثمّ إلى يثرب.
حينما صارت الدّعوة علنيّة و بدأت تنتشر و تجد لها قبولا واسعا في مكّة تجنّد لها أعداؤها ممّن استشعروا تهديدا لمصالحهم فكانت الملاحقات و ممارسات التّضييق و التّعذيب و كان الحصار لتبوء جميع محاولات إطفاء شعلة دين سكن الصّدور بالفشل و يقرّروا في النّهاية بالتخلّص من صاحب الرّسالة فكان اجتماع دار النّدوة الّذي اثبت في الحقيقة أنّ جاهليّتهم أفضل من جاهليتنا المعاصرة فقد رفضوا حينها أن يداهموا منزل الرّسول احتراما لحرمة من فيه واصطفّوا يحرسونه و يراقبون مداخله انتظارا لخروج المطلوب تصفيّته في حين أنّ زوّار الفجر عندنا لا تهمّهم مثل هذه التّفاصيل.
دروس الهجرة الشّريفة عديدة و لا تنتهي و ذات أثر لا ينقطع اذ تجلّت في لحظاتها كلّ معاني التّضحية و الصّبر و الصّحبة و التوكّل و اليقين. كان للمرأة فيها دور بارز لا يخفى على عين بما يعلي من شأنها و يرسّخ سموّ مكانتها ومركزيّتها في الأسرة و المجتمع، تمثّل فيما قامتا به أمّ المؤمنين عائشة و أختها ذات النّطاقين رضي الله عنهما.
لم تحل تلك اللّحظات الحرجة من مشاهد التّضحية و الصّحبة الصّادقة الطّيبة الّتي جسّداها علي ابن أبي طالب كرّم الله وجهه و ابي بكر الصدّيق رضي الله عنه. كما تخلّلتها معجزات حسّية كانت براهين و دلائل ملموسة على فضل سيّنا محمّد و رفعة مقامه من ذلك مشهد خروجه من بيته وما حدث مع أمّ عبد ثمّ ما جرى في غار ثور و ما حصل لسراقة ابن مالك.
و الخلاصة الأهمّ أنّ الهجرة كانت درسا في التوكّل و اليقين بالله مع الأخذ بالأسباب تماهيا مع ” أعقلها و توكّل” في معجزة الإسراء و المعراج، فكان التّخطيط المحكم ، و التخفّي و اختيار الصّحبة و تجهيز الرّاحلة بالزّاد و الاستعانة بالدّليل. كانت الهجرة برهانا على الثّبات على الحقّ و التمسّك بالعروة الوثقى و بأسباب النّصر مع الصّبر كفيل بأن يعجّل بنصر من الله إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ ۗ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40التوبة)هي دروس لا يكفي المجال لسردها بإسهاب و من الممكن الاستلهام منها و الانتفاع بها ،أفرادا و مجموعات.
دروس معرفية:
من النّظري إلى التطبيقي: كانت الهجرة النّبويّة المباركة لحظة فارقة و حاسمة بل برزخ عبور من مجال إلى آخر. خلال ثلاثة عشر سنة من الدّعوة ، تلك الدّعوة الّتي كان مقصدها و هدفها الإنسان قصد تحرّره و انعتاقه وإعادة بنائه ،استنارت العقول و تعافت الأنفس واعتمرت القلوب بالإيمان لتفيض و تشعّ على محيط الظّلمة الطّارد و المستعدي للنّور ، هو ذاك الصّراع الحتميّ بين النّور و الظّلمة، بين الخير و الشرّ و بين الحقّ و الباطل.
كانت دعوة الرّسول صلّى الله عليه و سلّم ثورة إنسانية كونية شاملة و كان هدفها قيامة الإنسان و بناءه فكانت تلك هي فكرة المشروع، و بما أنّ فكرة المشروع تموت حينما لا تتحقّق أو تطبّق مع استحالة ذلك في واقع طارد و رافض لها فكان لا بدّ من تغيير المجال لإثبات أنّها الفكرة حيّة منتجة و قابلة للتحقّق. فكانت الهجرة من فكرة المشروع إلى مشروع الفكرة، أي من النّظري إلى التّطبيقي و من الدّعوة إلى الدّولة. كانت الهجرة من شمس الحقيقة إلى بدر الطّريقة.
انتقل الرّسول الأكرم من أمّ القرى إلى يثرب الّتي تمدّنت و استنارت بحضوره فتحوّلت إلى المدينة المنوّرة أو المدينة الفاضلة الوحيد الّتي تحققّت عبر التّاريخ و فيها برزت المدنيّة المستنيرة لتصبح مثالا لأيّة مدنيّة أخرى. كانت المرحلة المكّية من الرّسالة المحمّدية ثورة فكر و وعي و يبدو أنّنا في مرحلتنا الحاليّة في بدايتها أو على أبوابها، و المطلوب منّا حاليا التوقّف عن الدّوران في المتاهة ، وقفة تأمّل لتعديل البوصلة و تحديد الاتجاه و المسارات.
علينا تشخيص علل أنفسنا لهجرة ما فينا من مثبّطات و معرقلات ، علينا ملاحظة بيئتنا لدراسة ما فيها من معطيات لتنقية ممّا يسودها من مبيدات للحياة. علينا بالبدء عاجلا بإصلاح ذواتنا. ” إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِم” (الرعد: 11).