الهجرة النَّبويَّة نقطة تحوُّلٍ في التاريخ الإنساني… الدروس والعبر المستفادة (6)
بقلم د. علي محمد محمد الصّلابيّ (خاص بالمنتدى)
إن التأمل والتدبر في تفاصيل الهجرة النبوية المباركة، يجعلنا نتيقن وبما لا يدع مجالا للشك، أن الهجرة النبوية كانت حدثا حاسما في الدعوة المحمدية، أرست الأسس والنواة الصلبة لدولة الإسلامية الناشئة، كما حملت لنا عبرا ودروسا وافرة نستفيد منها، ونستجلي منها قيما وأخلاقا حميدة، وهي كالتالي:
1 – الصِّراع بين الحقِّ والباطل صراعٌ قديمٌ، وممتدٌّ:
وهـو سنَّـةٌ إلهيَّـةٌ نافـذةٌ، قـال عـزَّ وجـلَّ: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ [الحج: 40] . ولكنَّ هذا الصِّراع معلومُ العاقبة: ﴿كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [المجادلة: 21].
2 – مكر خصوم الدَّعوة بالدَّاعية أمرٌ مستمرٌ متكرِّرٌ:
سواءٌ عن طريق الحبس، أو القتل، أو النَّفي، والإخراج من الأرض، وعلى الدَّاعية أن يلجأ إلى ربِّه، وأن يثق به، ويتوكَّل عليه، ويعلم: أنَّ المكر السَّيئ لا يحيق إلا بأهله، كما قال عزَّ وجل: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ﴾ [الآنفال: 30] . ومن مكر أهل الباطل وخصوم الدَّعوة استخدام سلاح المال لإغراء النُّفوس الضَّعيفة، للقضاء على الدَّعوة والدُّعاة، ولذلك رصدوا مئة ناقةٍ، لمن يأتي برسول الله صلى الله عليه وسلم حيّاً، أو ميتاً، فتحرَّك الطَّامعون، ومنهم سراقة؛ الَّذي عاد بعد هذه المغامرة الخاسرة ماديّاً، بأوفر ربحٍ، وأطيب رزقٍ، وهو رزق الإيمان، وأخذ يعمِّي الطريق على الطَّامعين الآخرين، الَّذين اجتهدوا في الطَّلب، وهكذا يردُّ الله عن أوليائه والدُّعاة. قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ ﴾ [الآنفال: 36] .
3 – دقَّة التَّخطيط، والأخذ بالأسباب:
إنَّ مَنْ تأمَّل حادثة الهجرة، ورأى دقَّة التَّخطيط فيها، ودقَّة الأخذ بالأسباب من ابتدائها إلى انتهائها، ومن مقدِّماتها إلى ما جرى بعدها؛ يدرك أنَّ التَّخطيط المسدَّد بالوحي في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائماً، وأنَّ التَّخطيط جزءٌ من السُّنَّة النَّبويَّة، وهو جزءٌ من التَّكليف الإلهيِّ في كل ما طولب به المسلم، وأنَّ الَّذين يميلون إلى العفوية؛ بحجة أنَّ التخطيط، وإحكام الأمور ليسا من السُّنَّة؛ أمثال هؤلاء مخطئون، ويجنون على أنفسهم، وعلى المسلمين. فعندما حان وقت الهجرة للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وشرع النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في التَّنفيذ، نلاحظ الآتي:
- وجود التَّنظيم الدَّقيق للهجرة حتَّى نجحت، برغم ما كان يكتنفها من صعابٍ، وعقباتٍ، وذلك أنَّ كلَّ أمرٍ من أمور الهجرة، كان مدروساً دراسةً وافيةً؛ فمثلاً:
- أ- جاء صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، في وقت شدَّة الحرِّ – الوقت الذي لا يخرج فيه أحدٌ -؛ بل من عادته لم يكن يأتي له في ذلك الوقت، لماذا؟ حتَّى لا يراه أحد.
- ب- إخفاء شخصيته صلى الله عليه وسلم في أثناء مجيئه للصِّدِّيق، وجاء إلى بيت الصِّدِّيق متلثماً؛ لأنَّ التلثُّم يقلِّل من إمكانية التعرُّف على معالم الوجه المتلثم.
- ج- أمر صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يُخْرِج مَن عنده، ولما تكلَّم لم يبيِّن إلا الأمر بالهجرة، دون تحديد الاتجاه.
- د- كان الخروج ليلاً، ومن بابٍ خلفيٍّ في بيت أبي بكرٍ.
- ه- بلغ الاحتياط مداه، باتِّخاذ طرقٍ غير مألوفةٍ للقوم، والاستعانة في ذلك بخبيرٍ يعرف مسالك البادية، ومسارب الصَّحراء، ولو كان ذلك الخبير مشركاً، ما دام على خُلُقٍ ورزانةٍ، وفيه دليلٌ على أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحجم عن الاستعانة بالخبرات مهما يكن مصدرها.
- انتقاء شخصياتٍ عاقلةٍ لتقوم بالمعاونة في شؤون الهجرة، ويلاحظ أنَّ هذه الشَّخصيات كلَّها تترابط برباط القرابة، أو برباط العمل الواحد، ممَّا يجعل من هؤلاء الأفراد، وحدةً متعاونةً على تحقيق الهدف الكبير.
- وضع كلِّ فردٍ من أفراد هذه الأسرة في عمله المناسب؛ الذي يجيد القيام به على أحسن وجهٍ؛ ليكون أقدر على أدائه، والنُّهوض بتبعاته.
- فكرة نوم عليِّ بن أبي طالب مكان الرَّسول صلى الله عليه وسلم فكرةٌ ناجحةٌ، قد ضلَّلت القوم، وخدعتهم، وصرفتهم عن الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، حتَّى خرج في جنح اللَّيل، تحرسه عناية الله، وهم نائمون، ولقد ظلَّت أبصارهم معلَّقةً بعد اليقظة، بمضجع الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، فما كانوا يشكُّون في أنَّه ما يزال نائماً، مُسجّىً في بردته، في حين أنَّ النَّائم هو عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه.
- وقد كان عملُ أبطال هذه الرِّحلة على النَّحو التالي:
- عليٌّ رضي الله عنه: ينام في فراش الرَّسول صلى الله عليه وسلم ؛ ليخدع القوم؛ ويُسلِّم الودائع، ويلحق بالرَّسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك.
- عبد الله بن أبي بكر: رجل المخابرات الصَّادق، وكاشف تحرُّكات العدوِّ.
- أسماء ذات النِّطاقين: حاملة التموين من مكَّة إلى الغار، وسط جنون المشركين؛ بحثاً عن محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ليقتلوه.
- عامر بن فهيرة: الرَّاعي البسيط الذي قدَّم اللَّحم واللَّبن إلى صاحبي الغار، وبدَّد آثار أقدام المسيرة التَّاريخيَّة بأغنامه كي لا يتفرَّسها القوم!! لقد كان هذا الرَّاعي يقوم بدور الإمداد، والتَّموين، والتَّعمية.
- عبد الله بن أريقط: دليل الهجرة الأمين، وخبير الصَّحراء البصير ينتظر في يقظةٍ إشارة البدء من الرَّسول صلى الله عليه وسلم ؛ ليأخذ الرَّكبُ طريقه من الغار إلى يثرب.
فهذا تدبيرٌ للأمور على نحوٍ رائعٍ دقيقٍ، واحتياطٌ للظُّروف بأسلوبٍ حكيمٍ، وَوَضْعٌ لكلِّ شخصٍ من أشخاص الهجرة في مكانه المناسب، وسدٌّ لجميع الثَّغرات، وتغطيةٌ بديعةٌ لكلِّ مَطالب الرِّحلة، واقتصارٌ على العدد اللازم من الأشخاص من غير زيادةٍ، ولا إسرافٍ.
لقد أخذ الرَّسول صلى الله عليه وسلم بالأسباب المعقولة، أخذاً قوياً حسب استطاعته، وقدرته؛ ومن ثمَّ باتت عنايةُ الله متوقَّعةً.
4 – الأخذ بالأسباب أمرٌ ضروريٌّ:
إنَّ اتخاذ الأسباب أمرٌ ضروريٌّ وواجبٌ؛ ولكن لا يعني ذلك دائماً حصول النتيجة؛ ذلك لأنَّ هذا أمرٌ يتعلَّق بأمر الله ومشيئته، ومن هنا كان التوكُّل أمراً ضروريّاً، وهو من باب استكمال اتِّخاذ الأسباب. إنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أعدَّ كلَّ الأسباب، واتَّخذ كلَّ الوسائل؛ ولكنَّه في الوقت نفسه مع الله، يدعوه، ويستنصره أن يكلِّل سعيه بالنَّجاح، وهنا يُستجاب الدُّعاء، وينصرف القوم بعد أن وقفوا على باب الغار، وتسيخ فرس سراقة في الأرض، ويكلَّل العمل بالنَّجاح.
5 – الإيمان بالمعجزات الحسِّـيَّة:
وفي هجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وقعت معجزاتٌ حسِّيَّةٌ، وهي دلائل ملموسةٌ على حفظ الله، ورعايته لرسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن ذلك – على ما روي – نسيج العنكبوت على فم الغار، ومنها ما جرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع أمِّ معبد، وما جرى له مع سراقة، ووعده إيَّاه بأن يلبس سواري كسرى، فعلى الدُّعاة ألا يتنصَّلوا من هذه الخوارق، بل يذكروها ما دامت ثابتةً بالسُّنَّة النَّبويَّة، على أن ينبِّهوا الناس على أن هذه الخوارق، هي من جملة دلائل نبوَّته، ورسالته عليه السَّلام.
6 – جواز الاستعانة بالكافر المأمون:
ويجوز للدُّعاة أن يستعينوا بمن لا يُؤمنون بدعوتهم ما داموا يثقون بهم، ويأتمنونهم؛ فقد رأينا: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم وأبا بكرٍ استأجرا مشركاً ليدلهما على طريق الهجرة، ودفعا إليه راحلتيهما، وواعداه عند غار ثور، وهذه أمورٌ خطيرةٌ أطلعاه عليها، ولاشكَّ: أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، وأبا بكر وثقا به، وأمَّناه، ممَّا يدلُّ على أنَّ الكافر، أو العاصي، أو غير المنتسب إلى الدُّعاة، قد يوجد عند هؤلاء ما يستدعي وثوق الدُّعاة بهم، كأن تربطهم رابطة القرابة، أو المعرفة القديمة، أو الجوار، أو عمل معروف كان قد قدَّمه الدَّاعية لهم، أو لأن هؤلاء عندهم نوعٌ جيِّدٌ من الأخلاق الأساسيَّة؛ مثل الأمانة، وحبِّ عمل الخير، إلى غير ذلك من الأسباب، والمسألة تقديريَّة، يترك تقديرها إلى فطنة الدَّاعي، ومعرفته بالشَّخص(1).
7 – دور المرأة في الهجرة:
وقد لمعت في سماء الهجرة أسماءٌ كثيرةٌ، كان لها فضلٌ كبيرٌ، ونصيبٌ وافرٌ من الجهاد؛ منها: عائشة بنت أبي بكرٍ الصِّدِّيق؛ الَّتي حفظت لنا القصَّة، ووعتها، وبلَّغتها للأمَّة، وأمُّ سلمة المهاجرة الصَّبور، وأسماء ذات النِّطاقين، الَّتي أسهمت في تموين الرَّسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه في الغار، بالماء، والغذاء، وكيف تحمَّلت الأذى في سبيل الله، فقد حدَّثتنا عن ذلك، فقالت: «لـمَّا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكرٍ رضي الله عنه أتانا نفرٌ من قريشٍ، فيهم أبو جهل بن هشام، فوقفوا على باب أبي بكرٍ، فخرجتُ إليهم، فقالوا: أين أبوك يا بنتَ أبي بكرٍ؟ قالت: قلت: لا أدري والله أين أبي! قالت: فرفع أبو جهل يده – وكان فاحشاً خبيثاً – فلطم خَدِّي لطمةً، طرح منها قُرْطِي، قالت: ثمَّ انصرفوا» [الطبري في تاريخه (2/379 – 380) وابن هشام (2/131 – 132)].
فهذا درسٌ من أسماء رضي الله عنها؛ تعلِّمه لنساء المسلمين جيلاً بعد جيل، كيف تخفي أسرار المسلمين عن الأعداء، وكيف تقف صامدةً شامخةً أمام قوى البغي والظُّلم! وأمَّا درسها الثَّاني البليغ، فعندما دخل عليها جدُّها أبو قحافة، وقد ذهب بصره، فقال: «والله إنِّي لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه»، قالت: «كلا يا أبت! ضع يدك على هذا المال» قالت: «فوضع يده عليه»، فقال: «لابأس، إذا كان ترك لكم هذا؛ فقد أحسن»، وفي هذا بلاغ لكم، قالت: «ولا والله ما ترك لنا شيئاً، ولكنِّي أردت أن أسكِّن الشَّيخ بذلك». وبهذه الفطنة، والحكمة، سترت أسماء أباها، وسكَّنت قلب جدِّها الضرير، من غير أن تكذب فإنَّ أباها قد ترك لهم حقاً هذه الأحجار الَّتي كوَّمتها؛ لتطمئن لها نفس الشَّيخ! إلا أنه قد ترك لهم معها إيماناً بالله لا تزلزله الجبال، ولا تحرِّكه العواصف الهوج، ولا يتأثر بقلَّةٍ أو كثرةٍ في المال، وورَّثهم يقيناً، وثقةً به لا حدَّ لها، وغرس فيهم همَّةً تتعلَّق بمعالي الأمور، ولا تلتفت إلى سفاسفها، فضرب بهم للبيت المسلم مثالاً عزَّ أن يتكرَّر، وقلَّ أن يوجد نظيره.
لقد ضربت أسماء رضي الله عنها بهذه المواقف لنساء، وبنات المسلمين مثلاً هُنَّ في أمسِّ الحاجة إلى الاقتداء به، والنَّسج على مِنواله. وظلَّت أسماء مع أخواتها في مكَّة، لا تشكو ضيقاً، ولا تظهر حاجةً، حتَّى بعث النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة، وأبا رافع مولاه، وأعطاهما بعيرين وخمسمئة درهمٍ إلى مكَّة، فقدما عليه بفاطمة، وأم كلثوم ابنتيه، وسودة بنت زمعة زوجه، وأسامة بن زيد، وأُمُّه بركة المكنَّاة بأم أيمن، وخرج معهم عبد الله بن أبي بكرٍ بعيال أبي بكرٍ، فيهم عائشة، وأسماء، فقدموا المدينة، فأنزلهم في بيت حارثة بن النُّعمان.
8 – أمانات المشركين عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:
في إيداع المشركين ودائعهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم مع محاربتهم له، وتصميمهم على قتله دليلٌ باهرٌ على تناقضهم العجيب، الَّذي كانوا واقعين فيه؛ ففي الوقت الَّذي كانوا يكذِّبونه، ويزعمون: أنَّه ساحرٌ، أو مجنونٌ، أو كذَّابٌ، لم يكونوا يجدون فيمن حولهم مَنْ هو خيرٌ منه أمانةً وصدقاً، فكانوا لا يضعون حوائجهم، ولا أموالهم الَّتي يخافون عليها إلا عنده! وهذا يدلُّ على أنَّ كفرانهم، لم يكن بسبب الشَّكِّ لديهم في صدقه؛ وإنَّما بسبب تكبُّرهم، واستعلائهم على الحقِّ الَّذي جاء به، وخوفاً على زعامتهم، وطغيانهم، وصدق الله العظيم؛ إذ يقول: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيات اللَّهِ يَجْحَدُونَ ﴾ [الآنعام: 33] .
وفي أمر الرَّسول صلى الله عليه وسلم لعليٍّ رضي الله عنه بتأدية هذه الأمانات لأصحابها في مكَّة؛ برغم هذه الظُّروف الشَّديدة؛ الَّتي كان من المفترض أن يكتنفها الاضطراب، بحيث لا يتَّجه التَّفكير إلا إلى إنجاح خطَّة هجرته فقط؛ برغم ذلك فإنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم ما كان لينسى، أو ينشغل عن ردِّ الأمانات إلى أهلها، حتَّى ولو كان في أصعب الظُّروف الَّتي تُنسي الإنسان نفسه، فضلاً عن غيره.
9 – الرَّاحلة بالثَّمن:
لم يقبل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن يركب الرَّاحلة، حتَّى أخذها بثمنها من أبي بكرٍ رضي الله عنه، واستقرَّ الثَّمن دَيْناً بذمَّته، وهذا درسٌ واضحٌ بأنَّ حملة الدَّعوة لا ينبغي أن يكونوا عالةً على أحدٍ في وقتٍ من الأوقات، فهم مصدر العطاء في كلِّ شيءٍ. إنَّ يدهم إن لم تكن العليا، فلن تكون السُّفلى، وهكذا يصرُّ صلى الله عليه وسلم أن يأخذها بالثَّمن، وسلوكه ذلك هو التَّرجمة الحقَّة لقوله تعالى: ﴿وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِي إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء: 109] .
إنَّ الذين يحملون العقيدة والإيمان، ويبشِّرون بهما، ما ينبغي أن تمتدَّ أيديهم إلى أحدٍ إلا الله؛ لأنَّ هذا يتناقض مع ما يدعون إليه، وقد تعوَّد النَّاس أن يعوا لغة الحال؛ لأنَّها أبلغ من لغة المقال، وما تأخَّر المسلمون، وأصابهم ما أصابهم من الهوان إلا يوم أصبحت وسائل الدَّعوة، والعاملون بها خاضعين لِلُغة المادَّة؛ إذ ينتظر الواحد منهم مرتَّبه، ويومها تحوَّل العمل إلى عملٍ ماديٍّ؛ فقَد الرُّوح، والحيويَّة، والوضاءة، وأصبح للأمر بالمعروف موظَّفون، وأصبح الخطباء موظَّفين، وأصبح الأئمَّة موظَّفين. إنَّ الصَّوت الَّذي ينبعث من حنجرةٍ وراءها الخوف من الله، والأمل في رضاه، غير الصَّوت الَّذي ينبعث ليتلقَّى دراهم معدودة، فإذا توقَّفت؛ توقف الصَّوت، وقديماً قالوا: «ليست النَّائحة كالثَّكلى»؛ ولهذا قلَّ التأثير، وبَعُدَ النَّاس عن جادَّة الصَّواب.
10 – الدَّاعية يَعفُّ عن أموال النَّاس:
لـمَّا عفا النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم عن سراقة؛ عرض عليه سراقة المساعدة، فقال: «وهذه كنانتي فخذ منها سهماً؛ وإنَّك ستمرُّ بإبلي، وغنمي في موضع كذا، وكذا، فخذ منها حاجتك». فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا حاجة لي فيها» [أحمد (1/3) ومسلم (3014/م)] . فحين يزهد الدُّعاة فيما عند النَّاس، يحبُّهم الناس، وحين يطمعون في أموال النَّاس، ينفر النَّاس منهم، وهذا درسٌ بليغٌ للدُّعاة إلى الله تعالى.
11 – الجندية الرَّفيعة والبكاء من الفرح:
تظهر أثر التَّربية النَّبويَّة، في جندية أبي بكرٍ الصِّدِّيق، وعليِّ بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ فأبو بكرٍ رضي الله عنه عندما أراد أن يهاجر إلى المدينة، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تعجل؛ لعلَّ الله يجعل لك صاحباً»؛ بدأ في الإعداد والتَّخطيط للهجرة؛ فابتاع راحلتين، واحتبسهما في داره يعلفهما إعداداً لذلك، وفي رواية البخاريِّ: «وعلف راحلتين كانتا عندهُ ورقَ السَّمُر – وهو الخَبَط – أربعة أشهر» [البخاري (3905) والبيهقي في الدلائل (2/473)] لقد كان يدرك بثاقب بصره رضي الله عنه – وهو الَّذي تربَّى؛ ليكون قائداً -: أنَّ لحظة الهجرة صعبةٌ، قد تأتي فجأةً، ولذلك هيّأ وسيلة الهجرة، ورتَّب تموينها، وسخَّر أسرته لخدمة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وعندما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبره: أنَّ الله قد أذن له في الخروج، والهجرة؛ بكى من شدَّة الفرح، وتقول عائشة رضي الله عنها في هذا الشأن: «فوالله! ما شعرت قطُّ قبل ذلك اليوم: أنَّ أحداً يبكي من الفرح؛ حتَّى رأيت أبا بكرٍ يبكي يومئذٍ»، إنَّها قمَّة الفرح البشريِّ أن يتحوَّل الفرح إلى بكاءٍ، فالصِّدِّيق رضي الله عنه، يعلم: أنَّ معنى هذه الصُّحبة: أنَّه سيكون وحدَه برفقة رسول ربِّ العالمين، بضعة عشر يوماً على الأقلِّ، وهو الَّذي سيقدِّم حياتـه لسيِّده، وقائده، وحبيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأيُّ فوزٍ في هذا الوجود يفوق هذا الفوز: أن يتفرَّد الصِّدِّيق وحدَه من دون أهل الأرض، ومن دون الصَّحب جميعاً برفقة سيِّد الخلق صلى الله عليه وسلم وصحبته كلَّ هذه المدَّة. وتظهر معاني الحبِّ في الله في خوف أبي بكرٍ، وهو في الغار من أن يراهما المشركون؛ ليكون الصِّدِّيق مثلاً لما ينبغي أن يكون عليه جنديُّ الدَّعوة الصَّادق مع قائده الأمين حين يحدق به الخطر من خوفٍ، وإشفاقٍ على حياته؛ فما كان أبو بكر ساعتئذٍ بالَّذي يخشى على نفسه الموت، ولو كان كذلك؛ لما رافق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في هذه الهجرة الخطيرة، وهو يعلم: أنَّ أقلَّ جزائه القتلُ؛ إن أمسكه المشركون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولكنَّه كان يخشى على حياة الرَّسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، وعلى مستقبل الإسلام؛ إن وقع الرَّسول صلى الله عليه وسلم في قبضة المشركين.
ويظهر الحسُّ الأمنيُّ الرَّفيع للصِّدِّيق في هجرته مع النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، في مواقف كثيرةٍ؛ منها: حين أجاب السَّائل: مَنْ هذا الرَّجل الَّذي بين يديك؟ فقال: هذا هادٍ يهديني السَّبيل، فظنَّ السائل بأنَّ الصِّدِّيق يقصد الطريق، وإنَّما كان يقصد سبيل الخير. [البخاري (391)]، وهذا يدلُّ على حسن استخدام أبي بكرٍ للمعاريض فراراً من الكذب، وفي إجابته للسَّائل توريةٌ، وتنفيذٌ للتَّربية الأمنيَّة؛ الَّتي تلقَّاها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنَّ الهجرة كانت سرّاً، وقد أقرَّه الرَّسول صلى الله عليه وسلم على ذلك.
وفي موقف عليِّ بن أبي طالبٍ مثالٌ للجنديِّ الصَّادق المخلص لدعوة الإسلام؛ حيث فدى قائده بحياته، ففي سلامة القائد سلامةٌ للدَّعوة، وفي هلاكه خذلانها، ووهنها، وهذا ما فعله عليٌّ رضي الله عنه ليلة الهجرة؛ من بياته على فراش الرَّسول صلى الله عليه وسلم ؛ إذ كان من المحتمل أن تهوي سيوف فتيان قريش على رأس عليٍّ رضي الله عنه، ولكنَّ عليّاً رضي الله عنه لم يبالِ بذلك، فحسبه أن يَسْلَم رسول الله صلى الله عليه وسلم نبيُّ الأمَّة، وقائد الدَّعوة.
12 – فنُّ قيادة الأرواح، وفنُّ التَّعامل مع النُّفوس:
يظهر الحبُّ العميق؛ الَّذي سيطر على قلب أبي بكرٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، كما يظهر حبُّ سائر الصَّحابة أجمعين في سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهذا الحبُّ الرَّبَّانيُّ كان نابعاً من القلب وبإخلاصٍ، لم يكن حبَّ نفاقٍ، أو نابعاً من مصلحة دنيويَّةٍ، أو رغبةٍ في منفعةٍ، أو رهبةٍ لمكروه قد يقع، ومن أسباب هذا الحبِّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم صفاته القياديَّة الرَّشيدة، فهو يسهر؛ ليناموا، ويتعب؛ ليستريحوا، ويجوع؛ ليشبعوا، كان يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم، فمن سلك سنن الرَّسول صلى الله عليه وسلم مع صحابته، في حياته الخاصَّة والعامَّة، وشارك النَّاس في أفراحهم، وأتراحهم، وكان عمله لوجه الله، أصابه شيءٌ من هذا الحبِّ؛ إنْ كان من الزُّعماء أو القادة أو المسؤولين في أمَّة الإسلام. وصدق الشَّاعر اللِّيبيُّ عندما قال:
فَإِذَا أَحَـــبَّ اللهُ بَاطِنَ عبدِهِ ظَهَرَتْ عَلَيْهِ مَوَاهِبُ الفَتَّاحِ
وإِذَا صَفَتْ للهِ نِيَّــــةُ مُصْلِحٍ مَــالَ العِبَــــــادُ عَلَيْـــــهِ بالأَرْوَاحِ
إنَّ القيادة الصَّحيحة هي الَّتي تستطيع أن تقود الأرواح قبل كلِّ شيءٍ، وتستطيع أن تتعامل مع النُّفوس قبل غيرها، وعلى قدر إحسان القيادة، يكون إحسان الجنود، وعلى قدر البذل من القيادة يكون الحبُّ من الجنود، فقد كان صلى الله عليه وسلم رحيماً، وشفيقاً بجنوده، وأتباعه، فهو لم يهاجر إلا بعد أن هاجر معظم أصحابه، ولم يبقَ إلا المستضعفون، والمفتونون، ومن كانت له مهمَّاتٌ خاصَّةٌ بالهجرة.
13 – وفي الطَّريق أسلم بُريدة الأسْلَمِيُّ رضي الله عنه في ركبٍ من قومه:
إنَّ المسلم الَّذي تغلغلت الدَّعوة في شغاف قلبه، لا يفتر لحظة واحدةً عن دعوة النَّاس إلى دين الله تعالى، مهما كانت الظُّروف قاسيةً، والأحوال مضطربةً، والأمن مفقوداً؛ بل ينتهز كلَّ فرصـةٍ مناسبةٍ لتبليغ دعوة الله تعالى، فهذا نبيُّ الله تعالى يوسف عليه السلام حينما زُجَّ به في السِّجن ظُلْماً، واجتمع بالسُّجناء في السِّجن لم يندُبْ حظَّهُ، ولم تشغله هذه الحياة المظلمة عن دعوة التَّوحيد، وتبليغها للنَّاس، ومحاربة الشِّرك، وعبادة غير الله، والخضوع لأيِّ مخلوقٍ.
قال تعالى: ﴿قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخرةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبراهيم وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ * يَاصَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ *مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾[يوسف: 37 40]. وسورة يوسف عليه السلام مكِّيَّة، وقد أمر الله تعالى رسوله محمَّداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بالأنبياء والمرسلين في دعوته إلى الله؛ ولذلك نجده صلى الله عليه وسلم في هجرته من مكَّة إلى المدينة – وقد كان مطارداً من المشركين، قد أهدروا دمه، وأغروا المجرمين منهم بالأموال الوفيرة، ليأتوا برأسه حيّاً أو ميتاً – لا ينسى مهمَّته، ورسالته، فقد لقي صلى الله عليه وسلم في طريقه رجلاً يقال له: بُرْيَدة بن الحُصَيب الأسلميُّ رضي الله عنه، في رَكْبٍ من قومه، فدعاهم إلى الإسلام، فآمنوا، وأسلموا.
وذكر ابن حجرٍ العسقلانيُّ – رحمه الله -: «أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته إلى المدينة لقي بُريدة بن الحُصَيْب بن عبد الله بن الحارث الأسلميَّ، فدعاه إلى الإسلام، وقد غزا مع الرَّسول صلى الله عليه وسلم ست عَشْرَة غَزْوة، وأصبح بُرَيْدَةُ بعد ذلك من الدُّعاة إلى الإسلام، وفتح الله لقومه «أسْلَم» على يديه أبوابَ الهداية، واندفعوا إلى الإسلام، وفازوا بالوسام النَّبويِّ؛ الَّذي نتعلَّم منه منهجاً فريداً في فقه النُّفوس. قال صلى الله عليه وسلم : «أسْلَمُ سالمها الله، وغِفَارُ غَفَرَ الله لها، أَما إنِّي لم أَقُلْهَا، ولكنْ قالها اللهُ» [البخاري (3514) ومسلم (2516)] .
14 – وفي طريق الهجرة أسلم لصَّان على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم:
كان في طريقه صلى الله عليه وسلم بالقرب من المدينة لصَّان من أَسْلم، يقال لهما: المُهَانَانِ، فقصدهما صلى الله عليه وسلم ، وعرض عليهما الإسلام، فأسلما، ثمَّ سألهما عن اسميهما، فقالا: نحن المهانان، فقال: بل أنتما المُكْرمان، وأمرهما أن يقدما عليه المدينة [أحمد (4/74)] وفي هذا الخبر يظهر اهتمامه صلى الله عليه وسلم بالدَّعوة إلى الله؛ حيث اغتنم فرصةً في طريقـه، ودعـا اللِّصَّين إلى الإسلام، فأسلما، وفي إسلام هذين اللِّصين مع ما ألفاه من حياة البطش، والسَّلب، والنَّهب دليلٌ على سرعة إقبال النُّفوس على اتِّباع الحقِّ؛ إذا وجد مَنْ يمثِّله بصدقٍ وإخلاصٍ، وتجرَّدت نفس السَّامع من الهوى المنحرف، وفي اهتمام الرَّسول صلى الله عليه وسلم بتغيير اسمي هذين اللِّصين، من المُهَانَيْن إلى المُكْرَمَيْن دليلٌ على اهتمامه صلى الله عليه وسلم بسمعة المسلمين، ومراعاته مشاعرهم، إكراماً لهم، ورفعاً لمعنوياتهم.
وإنَّ في رفع معنوية الإنسان تقويةً لشخصيته، ودفعاً له إلى الأمام؛ ليبذل كل طاقته في سبيل الخير، والفلاح.
15 – الزُّبير، وطلحة ، والتقاؤهما برسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق الهجرة:
وممَّا وقع في الطَّريق إلى المدينة: أنَّه صلى الله عليه وسلم لقي الزُّبير بن العوَّام في ركبٍ من المسلمين كانوا تجاراً قافلين من الشَّام، فكسا الزُّبيرُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثياباً بيضاء. [البخاري (3906) والبيهقي في الدلائل (2/498)]، وكذا روى أصحاب السِّيَر: أنَّ طلحة بن عبيد الله لقيهما أيضاً وهو عائد من الشَّام، وكساهما بعض الثِّياب [البيهقي في الدلائل (2/498)]
16 – أهمِّيَّة العقيدة والدِّين في إزالة العداوة والضَّغائن:
إنَّ العقيدة الصَّحيحة السَّليمة، والدِّين الإسلاميَّ العظيم لهما أهمِّـيَّـةٌ كبرى في إزالة العداوات، والضَّغائن، وفي التَّأليف بين القلوب والأرواح، وهو دورٌ لا يمكن لغير العقيدة الصَّحيحة أن تقوم به، وهاقد رأينا كيف جمعت العقيدة الإسلاميَّة بين الأوس، والخزرج، وأزالت آثار معارك استمرَّت عقوداً من الزَّمن، وأغلقت ملف ثاراتٍ كثيرةٍ في مدَّةٍ قصيرةٍ، بمجرَّد التَّمسُّك بها، والمبايعة عليها، وقد رأينا ما فعلته العقيدة في نفوس الأنصار، فقد استقبلوا المهاجرين بصدورٍ مفتوحةٍ، وتآخوا معهم في مثاليَّةٍ نادرةٍ، لا تزال مثارَ الدَّهشة، ومضرب المثل، ولا توجد في الدُّنيا فكرةٌ، أو شعارٌ آخر فعل مثلما فعلت عقيدة الإسلام الصَّافية في النُّفوس.
ومن هنا ندرك السِّرَّ في سعي الأعداء الدَّائب إلى إضعاف هذه العقيدة، وتقليل تأثيرها في نفوس المسلمين، واندفاعهم المستمرِّ نحو تزكية النَّعرات العصبيَّة، والوطنيَّة، والقوميَّة، وغيرها، وتقديمها كبديلٍ للعقيدة الصَّحيحة.
17 – فرحة المهاجرين والأنصار بوصول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم:
كانت فرحة المؤمنين من سكان يثرب؛ من أنصارٍ، ومهاجرين بقدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصوله إليهم سالماً فرحةً أخرجت النِّساء من بيوتهنَّ، والولائد، وحملت الرِّجال على ترك أعمالهم، وكان موقف يهود المدينة، موقف المشارك لسكَّانها في الفرحة ظاهراً، والمتألِّم من منافسة الزَّعامة الجديدة باطناً، أمَّا فرحة المؤمنين بلقاء رسولهم؛ فلا عجب فيها، فهو الَّذي أخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد، وأما موقف اليهود، فلا غرابة فيه؛ فهم الذين عُرِفوا بالملق، والنِّفاق للمجتمع؛ الَّذي فقدوا السَّيطرة عليه، وبالغيظ، والحقد الأسود ممَّن يسلبهم زعامتهم على الشُّعوب، ويَحُول بينهم وبين سلب أموالهم باسم القروض، وسفك دمائها باسم النُّصح، والمشورة، وما زال اليهود يحقدون على كلِّ من يخلِّص الشُّعوب من سيطرتهم، وينتهون من الحقد إلى الدَّسِّ، والمؤامرات، ثمَّ إلى الاغتيال إن استطاعوا، ذلك دينهم، وتلك جِبِلَّتُهم.
ويستفاد من استقبال المهاجرين والأنصار لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مشروعية استقبال الأمراء والعلماء عند مقدمهم، بالحفاوة والإكرام، فقد حدث ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان هذا الإكرام، وهذه الحفاوة، نابعين من حبٍّ للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ بخلاف ما نراه من استقبال الزعماء والحكام في عالمنا المعاصر، ويستفاد كذلك التنافس في الخير، وإكرام ذوي العلم والشرف، فقد كانت كل قبيلة تحرص أن تستضيف رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، وتعرض أن يكون رجالها حُراساً له، ويؤخذ من هذا، إكرام العلماء والصالحين، واحترامهم وخدمتهم.
18 – مقارنة بين الهجرة، والإسراء والمعراج:
كانت الهجرة النَّبويَّة الشَّريفة على النَّحو الَّذي كانت عليه، وسارت على الوضع الَّذي يسلكه كلُّ مهاجرٍ؛ حتَّى توجد القدوة، وتتحقَّق الأسوة، ويسير المسلمون على نهجٍ مألوفٍ، وسبيلٍ معروفٍ، ولذلك، فلم يرسلِ الله – عزَّ وجلَّ – له صلى الله عليه وسلم البراق ليهاجر عليه – كما حدث في ليلة الإسراء – مع أنَّ الرَّسول صلى الله عليه وسلم في يوم هجرته أحوج إلى البراق منه في أيِّ وقتٍ آخر؛ لأنَّ القوم يتربَّصون به هنا، ولم يكن هناك تربُّص في ليلة الإسراء، ولو ظفروا به في هجرته؛ لشفوا نفوسهم منه بقتله.
والحكمة في ذلك – والله أعلم -: أنَّ الهجرة كانت مرحلةً طبيعيَّةً من مراحل تطوُّر الدَّعوة، ووسيلةً من أهمِّ وسائل نشرها، وتبليغها، ولم تكن خاصةً برسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بل كان غيره من المؤمنين مكلَّفين بها، حين قطع الإسلام الولاية بين المهاجرين وغير المهاجرين القادرين على الهجرة. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمنوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾ [الآنفال 72] .
أمَّا رحلة الإسراء، والمعراج، فكانت رحلةَ تشريفٍ، وتقديرٍ، كما كانت إكراماً من الله – عزَّ وجلَّ – لنبيِّه صلى الله عليه وسلم ؛ ليطلعه على عالم الغيب، ويريه من آياته الكبرى، فالرِّحلة من أولها إلى آخرها خوارق، ومعجزاتٌ، ومشاهد للغيبيَّات، فناسب أن تكون وسيلتها مشابهةً لغايتها. زِدْ على ذلك: أنَّ رحلة الإسراء خصوصيَّةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم ، وليس لأحدٍ من النَّاس أن يتطلَّع لمثلها، ولسنا مطالبين بالاقتداء به فيها، ولذا فإنَّ حصولها على النَّحو؛ الَّذي كانت عليه، هو أنسب الأوضاع لحدوثها.
19 – وضوح سنَّة التَّدرُّج:
نلاحظ أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما تقابل مع طلائع الأنصار الأولى، لم يفعل سوى ترغيبهم في الإسلام، وتلاوة القرآن عليهم، فلـمَّا جاؤوا في العام التالي، بايعهم بيعة النِّساء على العبادات، والأخلاق، والفضائل، فلـمَّا جاؤوا في العام التالي؛ كانت بيعة العقبة الثَّانية على الجهاد، والنَّصر، والإيواء. وجديرٌ بالملاحظة: أنَّ بيعة الحرب لم تتمَّ إلا بعد عامين كاملين، أي بعد تأهيلٍ، وإعدادٍ استمرَّ عامين كاملين، وهكذا تمَّ الأمر على تدرُّجٍ ينسجم مع المنهج التَّربويِّ الَّذي نهجت عليه الدَّعوة من أوَّل يومٍ.
إنَّه المنهج الَّذي هدى الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم إلى التزامه، ففي البيعة الأولى، بايعه هؤلاء الأنصار الجدد على الإسلام؛ عقيدةً، ومنهاجاً، وتربية، وفي البيعة الثانية، بايعه الأنصار على حماية الدَّعوة، واحتضان المجتمع الإسلاميِّ؛ الذي نضجت ثماره، واشتدَّت قواعده قوَّةً وصلابةً.
إنَّ هاتين البيعتين أمران متكاملان ضمن المنهج التَّربويِّ للدَّعوة الإسلاميَّة، وإنَّ الأمر الأول هو المضمون، والأمر الثاني – وهو بيعة الحرب – هو السِّياج الَّذي يحمي ذلك المضمون، نعم كانت بيعة الحرب بعد عامين من إعلان القوم الإسلام، وليس فور إعلانهم.
بعد عامين؛ إذ تمَّ إعدادهم حتَّى غدوا موضع ثقةٍ، وأهلاً لهذه البيعة، ويلاحظ: أنَّ بيعة الحرب لم يسبق أن تمَّت قبل ذلك اليوم مع أيِّ مسلم؛ إنَّما حصلت عندما وجدت الدَّعوة في هؤلاء الأنصار، وفي الأرض الَّتي يقيمون فيها المعقل الملائم؛ الَّذي ينطلق منه المحاربون؛ لأنَّ مكَّة لوضعها عندئذٍ لم تكن تصلح للحرب.
وقد اقتضت رحمة الله بعباده «ألاَّ يُحَمِّلَهم واجبَ القتال إلى أن توجد لهم دار إسلام، تكون لهم بمثابة معقلٍ يأوون إليه، ويلوذون به، وقد كانت المدينة المنوَّرة أوَّل دار إسلامٍ». لقد كانت البيعة الأولى قائمةً على الإيمان بالله، ورسوله صلى الله عليه وسلم ، والبيعة الثَّانية على الهجرة، والجهاد، وبهذه العناصر الثلاثة: الإيمان بالله، والهجرة، والجهاد، يتحقَّق وجود الإسلام في واقع جماعيٍّ ممكنٍ، والهجرة لم تكن لتتمَّ لولا وجود الفئة المستعدَّة للإيواء؛ ولهذا قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمنوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ [الآنفال: 72]. وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمنوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [الآنفال: 75]. وقد كانت بيعة الحرب هي التَّمهيد الأخير لهجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة، وبذلك وَجَدَ الإسلامُ موطنَه؛ الَّذي ينطلق منه دعاةً الحقِ بالحكمة، والموعظة الحسنة، وتنطلق منه جحافل الحقِّ المجاهدة أوَّل مرَّةٍ، وقامت الدَّولة الإسلاميَّة المحكِّمة لشرع الله.
20 – الهجرة تضحيةٌ عظيمةٌ في سبيل الله:
كانت هجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه من البلد الأمين تضحيةً عظيمةً، عبَّر عنها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بقوله: «والله! إنك لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلى الله، ولولا أنِّي أُخرِجت منك ما خرجتُ» [أحمد (4/305) والترمذي (3925) وابن ماجه (3108)] .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لـمَّا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ قدمها، وهي أوبأ أرض الله من الحمَّى، وكان واديها يجري نجلاً – يعني ماءً آجناً – فأصاب أصحابَه منها بلاءٌ، وسقمٌ، وصرف الله ذلك عن نبيِّه، قالت: فكان أبو بكر، وعامر بن فهيرة، وبلال، في بيتٍ واحدٍ، فأصابتهم الحمَّى، فاستأذنتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم، فأذن، فدخلت إليهم أعودهم، وذلك قبل أن يضرب علينا الحجاب، وبهم ما لا يعلمه إلا الله من شدَّة الوعك، فدنوت من أبي بكرٍ، فقلت: يا أبتِ كيف تجدُك؟ فقال:
كلُّ امْرِئ مُصَبَّحٌ فِي أَهْلِهِ والمَوْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ
قالت: فقلت: والله! ما يدري أبي ما يقول، ثم دنوت من عامر بن فهيرة، فقلت: كيف تجدُك يا عامر؟! فقال:
لَقَدْ وَجَدْتُ المَوْتَ قَبْلَ ذَوْقِهِ إنَّ الجَبَانَ حَتْفُهُ مــنْ فَوْقِهِ
كُلُّ امْـــــــرِئ مُجَـــــــــاهِدٌ بِطَـــــــــــوْقِهِ كالثَّوْرِ يَحْمِي جِلْدَهُ بِرَوْقِهِ
قالت: فقلت: والله! ما يدري عامر ما يقول. قالت: وكان بلال إذا أقلع عنه الحمَّى، اضطجع بفناء البيت، ثمَّ يرفع عقيرته، ويقول:
ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ أَبِيْتَنَّ لَيْلَةً بِــــــوَادٍ وَحَوْلِي إِذْخِـــــــرٌ وجَـــــلِيْلُ
وهَـــــــلْ أَرِدَنْ يَوْمـــــاً مِيَاهَ مَجَـــــــــنَّةٍ وَهَلْ يَبْدُوَنْ لِي شامَةٌ وَطَفِيْلُ
قالت: فأخبرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: «اللهمَّ! حبِّبْ إلينا المدينة، كما حببت إلينا مكَّة، أو أشدَّ، وانقل حُمَّاها إلى الجُحْفَةِ. اللَّهمَّ! باركْ لنا في مُدِّنا، وصاعنا» [البخاري (1889) ومسلم (1376)]. وقد استجاب الله دعاء نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وعُوفي المسلمون بعدها من هذه الحمَّى، وغدت المدينة موطناً ممتازاً لكلِّ الوافدين، والمهاجرين إليها، من المسلمين على تنوُّع بيئاتهم، ومواطنهم.
21 – مكافأة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ معبد:
وقد روي: أنَّها كثرت غنمها، ونمت؛ حتَّى جلبت منها جَلَباً إلى المدينة، فمرَّ أبو بكر، فرآه ابنها فعرفه، فقال: يا أُمَّه! هذا هو الرَّجل الَّذي كان مع المبارك.
فقامت إليه فقالت: يا عبد الله! مَنِ الرَّجل الَّذي كان معك؟ قال: أو ما تدرين من هو؟! قالت: لا! قال: هو نبيُّ الله، فأدخلها عليه، فأطعمها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وأعطاها، وفي روايةٍ: فانطلقت معي، وأهدت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً من أقطٍ، ومتاع الأعراب، فكساها، وأعطاها، قال: ولا أعلمه إلا قال: وأسلمت، وذكر صاحب (الوفاء): أنَّها هاجرت هي وزوجها، وأسلم أخوها خُنَيْس، واستشهد يوم الفتح.
22 – أبو أيُّوبٍ الأنصاريُّ رضي الله عنه ومواقف خالدة:
قال أبو أيوب الأنصاريُّ رضي الله عنه: «لـمَّا نزل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي؛ نزل في السُّفْل، وأنا وأمُّ أيوبٍ في العُلْو، فقلت له: يا نبيَّ الله – بأبي أنت، وأمي! إنِّي لأكره وأُعْظِمُ أن أكون فوقك، وتكون تحتي، فاظْهَرْ أنت، فكن في العلوِّ، وننزل نحن فنكون في السُّفل، فقال: يا أبا أيوب! إنَّ أرفق بنا، وبمن يغشانا أن نكون في سُفْل البيت.
قال: فلقد انكسر حُبٌّ لنا فيه ماءٌ، فقمت أنا، وأمُّ أيوب بقطيفة لنا، مالنا لحاف غيرها، ننشِّفُ بها الماء؛ تخوفاً أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شيءٌ، فيؤذيه» [ابن هشام (2/144)] .
23 – هجرة عليٍّ رضي الله عنه وأمره بالمعروف، ونهيه عن المنكر في المجتمع الجديد:
بعد أن أدَّى عن رسول الله (ﷺ) الأمانات الَّتي كانت عنـده للنَّـاس لحـق برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدركه بقُباء بعد وصوله بليلتين، أو ثلاثٍ، فكانت إقامته بقُباء ليلتين، ثمَّ خرج مع النَّبيِّ (ﷺ) إلى المدينة يوم الجمعة، وقد لاحظ سيِّدنا عليٌّ مدَّة إقامته بقُباء امرأةً مسلمة لا زوج لها، ورأى إنساناً يأتيها من جوف اللَّيل، فيضرب عليها بابها، فتخرج إليه، فيعطيها شيئاً معه، فتأخذه، قال: فاستربت بشأنه، فقلت لها: يا أمةَ الله! مَنْ هذا الرجل الذي يضرب عليك بابك كلَّ ليلةٍ فتخرجين إليه، فيعطيك شيئاً لا أدري ما هو! وأنت امرأةٌ مسلمةٌ لا زوج لك؟ قالت: هذا سهلُ بن حُنيف، قد عرف أني امرأةٌ لا أحد لي، فإذا أمسى عدا على أوثان قومه، فكسرها، ثمَّ جاءني بها، فقال: احتطبي بهذا، فكان عليٌّ رضي الله عنه يأثر ذلك من أمر سهل بن حنيف، حين هلك عنده بالعراق.
24 – الهجرة النَّبويَّة نقطة تحوُّلٍ في تاريخ الحياة:
«كانت الهجرة النَّبويَّة من مكَّة المشرَّفة إلى المدينة المنوَّرة أعظم حدثٍ حوَّل مجرى التَّاريخ، وغيَّر مسيرة الحياة، ومناهجها؛ التي كانت تحياها، وتعيش محكومةً بها في صورة قوانين، ونظمٍ، وأعرافٍ، وعاداتٍ، وأخلاقٍ، وسلوكٍ للأفراد والجماعات، وعقائد، وتعبُّداتٍ، وعلمٍ، ومعرفةٍ، وجهالةٍ، وسفه، وضلالٍ، وهدًى، وعدلٍ، وظلمٍ».
25 – الهجرة من سنن الرُّسل الكرام:
إنَّ الهجرة في سبيل الله سنَّةٌ قديمة، ولم تكن هجرة نبيِّنا محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بدعاً في حياة الرُّسل لنصرة عقائدهم، فلئن كان قد هاجر من وطنه، ومسقط رأسه من أجل الدَّعوة حفاظاً عليها، وإيجاداً لبيئةٍ خصبةٍ تتقبلها، وتستجيب لها، وتذود عنها؛ فقد هاجر عددٌ من إخوانه من الأنبياء قبله من أوطانهم؛ للأسباب نفسها، التي دعت نبيَّنا للهجرة. وذلك: أنَّ بقاء الدَّعوة في أرضٍ قاحلةٍ لا يخدمها؛ بل يعوق مسارها، ويشلُّ حركتها، وقد يعرضها للانكماش داخل أضيق الدوائر، وقد قصَّ علينا القرآن الكريم نماذج من هجرات الرُّسل، وأتباعهم من الأمم الماضية؛ لتبدو لنا في وضوحٍ سنَّةٌ من سنن الله في شأن الدَّعوات، يأخذ بها كلُّ مؤمن من بعدهم؛ إذا حيل بينه وبين إيمانه، وعزَّته، واستُخفَّ بكيانه، ووجوده، واعتُدِيَ على مروءته وكرامته.
هذه بعض الفوائد، والعبر، والدروس، وأترك للقارئ الكريم أن يستخرج غيرها، ويستنبط سواها من الدُّروس، والعبر، والفوائد الكثيرة النَّافعة من هذا الحدث العظيم.
مراجع البحث:
- علي محمد محمد الصّلابيّ، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (دروس وعبر)، الطبعة الأولى، 2004.ص.ص (459:438)
- محمَّد أبو شهبة، السِّيرة النَّبويَّة في ضوء القران والسنة، الطبعة الثالثة، دار القلم – دمشق سوريا، 1996 (1/497).
- منير الغضبان، التَّربية القياديَّة، الطبعة الأولى، دار الوفاء – المنصورة، مصر، 1998، (2/310)
- محمد توفيق رمضان،بناء المجتمع الإسلاميِّ في عصر النَّبوَّة، الطبعة الأولى، دار ابن كثيرٍ، دمشق، 1989، ص،119.
- محمد السيد الوكيل ،تأمُّلات في سيرة الرَّسول(ﷺ) الطبعة الأولى، دار المجتمع، جدة، السعودية، 1987، ص.ص(104:103).
- أحزمي سامعون جزولي، الهجرة في القرآن الكريم، الطبعة الأولى، مكتبة الرُّشد، الرِّياض، السعودية، 1996، ص، 365.
- عبد الرحمن البر، الهجرة النَّبويَّة المباركة، الطبعة الأولى، دار الكلمة، المنصورة،القاهرة، مصر، 1997، ص،405