الهجرة النبوية (8)
الهجرة النبوية … بين الوعد للمهاجرين والوعيد للمتخلِّفين عنها (استجلاء لمعاني الجزاء والعقاب)
بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)
حثَّ القرآن الكريم المؤمنين على الهجرة في سبيل الله بأساليب متنوعةٍ، وذلك لأهمية الهجرة النَّبويَّة، مرَّةً بالثَّناء على المهاجرين بأوصافٍ حميدةٍ كما في الحلقة السابقة، وأخرى بالوعد للمهاجرين، وتارةً بالوعيد للمتخلِّفين عن الهجرة.
أولاً: الوعد للمهاجرين:
ذكر الله تعالى بعض النِّعم الَّتي وعد بها المهاجرين في الدُّنيا، والآخرة؛ ومن هذه النِّعم:
1 – سعة رزق الله لهم في الدُّنيا:
قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100] .
ومن سعة رزق الله لهم في الدُّنيا تخصيصهم بمال الفيء، والغنائم. قال تعالى: ﴿لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ﴾ [الحشر: 8] فالمال لهؤلاء لأنَّهم أُخرجوا من ديارهم، فهم أحقُّ النَّاس به. ومن سعة الله لهم في الرِّزق أن خلَّص الله – عزَّ وجلَّ – الأنصار من شحِّ النفس، ووسَّع صدورهم للمهاجرين. قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾[الحشر: 9].
إنَّ الله – عزَّ وجلَّ – وعد المهاجرين سعة الرِّزق في الدُّنيا، وتحقَّق ذلك الوعد الكريم؛ وذلك لأنَّ الله – عزَّ وجلَّ – في منهجه الرَّبانيِّ القرآني يعالج هذه النَّفس في وضوحٍ وفصاحةٍ، فلا يكتم عنها شيئاً من المخاوف، ولا يداري عنها شيئاً من الأخطار – بما في ذلك خطر الموت – ولكنَّه يسكب فيها الطُّمأنينة بحقائق أخرى، وبضمانة الله – سبحانه وتعالى – فهو يحدِّد الهجرة بأنَّها «في سبيل الله»، وهذه هي الهجرة المعتبرة في الإسلام، فليست هجرةً للثَّراء، أو هجرةً للنَّجاة من المتاعب، أو هجرةً للذائذ والشَّهوات، أو هجرةً لأيِّ عرضٍ من أعراض الحياة، ومَنْ يهاجر هذه الهجرة في سبيل الله يجد في الأرض فسحةً، ومنطلقاً، فلا تضيق به الأرض، ولا يعدم الحيلة، والوسيلة للنَّجاة، وللرِّزق، والحياة؛ لأنَّ الله سيكون في عونه، ويسدِّد خطاه.
2 – تكفير سيئاتهم، ومغفرة ذنوبهم:
ومن النِّعم الَّتي وعد بها الله – سبحانه وتعالى – المهاجرين تكفيرُ سيِّئاتهم، ومغفرة ذنوبهم. قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لأكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ﴾ [آل عمران: 195] .
وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أحاديث كثيرةٌ تبيِّن: أنَّ الهجرة من أعظم الوسائل المكفِّرة للسَّيِّئات، وأنَّها سببٌ لمغفرة ذنوب أهلها، ومن هذه الأحاديث: عن ابن شماسة المهريِّ قال: حضَرنا عمرو بن العاص وهو في سياقةالموت، فبكى طويلاً، وحوَّل وجهه إلى الجدار، فجعل ابنُهُ يقول: يا أبتاهُ! أما بشَّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ أمَا بشَّرك رسول الله صلى الله عليه وسلم بكذا؟ قال: فأقبل بوجهه، فقال: إنَّ أفضل ما نُعِدُّ شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأنَّ محمَّداً رسولُ الله. إنِّي كنت على أطباقٍ ثلاث، لقد رأيتني وما أحدٌ أشدَّ بغضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم منِّي، ولا أحبَّ إليَّ أن أكون قد استمكنتُ منه، فقتلْتُهُ، فلو مُتُّ على تلك الحال لكنت من أهل النَّار، فلـمَّا جعل اللهُ الإسلامَ في قلبي، أتيتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فقلتُ: ابسُطْ يمينك فلأبايعنَّك، فَبَسَطَ يمينَهُ، قال: فقبضتُ يدي، قال: «مالك يا عمرو؟» قال: قلتُ: أردت أن أشترط، قال: «تشترط بماذا؟» قلتُ: أن يُغْفَرَ لي. قال: «أما علمت أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدم ما كان قبله!» وما كان أحدٌ أحبَّ إليَّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا أجلَّ في عيني منه، وما كنت أُطيق أن أملأ عينيَّ منه؛ إجلالاً له، ولو سُئِلْتُ أن أصفه ما أطَقْتُ؛ لأنِّي لم أكن أملأ عينيَّ منه، ولو مُتُّ على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنَّة، ثم ولينا أشياءَ ما أدري ما حالي فيها، فإذا أنا متُّ فلا تصحبني نائحةٌ، ولا نارٌ، فإذا دفنتموني؛ فشُنُّوا عليَّ التُّرابَ شنّاً، ثمَّ أقِيمُوا حول قبري قَدْرَ ما تُنْحَرُ جَزُورٌ، ويُقْسَمُ لحمُها؛ حتى أستأنسَ بكم، وأنظر ماذا أراجع به رُسُلَ ربِّي. [مسلم (121)] .
قال النَّوويُّ: فيه: عظم موقع الإسلام، والهجرة، والحجِّ، وأنَّ كلَّ واحدٍ منها يهدم ما كان قبله من المعاصي. وفيه: استحباب تنبيه المحتضر على إحسان ظنِّه بالله سبحانه وتعالى، وذكر آيات الرَّجاء، وأحاديث العفو عنده، وتبشيره بما أعدَّه الله تعالى للمسلمين، وذكر حسن أعماله عنده ليحسن ظنَّه بالله تعالى، ويموت عليه، وهذا الأدب مستحبٌّ بالاتفاق.
3 – ارتفاع منزلتهم، وعظمة درجتهم عند ربِّهم:
وعد الله – سبحانـه وتعالى – الَّذين نالوا أفضل الإيمان، والهجـرة، والجهاد في سبيل الله بأموالهم، وأنفسهم أعظم الدَّرجات عند الله. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [التوبة: 20] .
يقول الفخر الرَّازي: إنَّ الموصوفين بهذه الصِّفات الأربعة، في غاية الجلالة والرِّفعة؛ لأنَّ الإنسان ليس له إلا مجموع أمورٍ ثلاثة: الرُّوح، والبدن، والمال، أمَّا الرُّوح؛ فلـمَّا زال عنها الكفر، وحصل فيها الإيمان؛ فقد وصلت إلى مراتب العادات اللاَّئقة بها، وأمَّا البدن، والمال؛ فبسبب الهجرة وقعا في النُّقصان، وبسبب الاشتغال بالجهاد صارا مُعرَّضَيْنِ للهلاك، والبطلان، ولا شكَّ: أنَّ كلاً من النَّفس، والمال؛ محبوبٌ للإنسان، والإنسان لا يعرض عن مجموعه إلا للفوز بمحبوبٍ أكمل من الأوَّل، فلولا أنَّ طلب الرِّضوان أتمُّ عندهم من النَّفس، والمال؛ لما رجَّحُوا جانب الآخرة على جانب النَّفس، والمال، ولما رَضُوا بإهدار النَّفس، والمال لطلب مرضاة الله تعالى.
فثبت: أنَّ عند حصول الصِّفات الأربعة صار الإنسان واصلاً إلى أعلى درجات البشريَّة، وأوَّل مراتب درجات الملائكة، وهم بذلك يكونون أفضل من كلِّ مَنْ سواهم من البشر على الإطلاق؛ لأنَّه لا يعقل حصول سعادةٍ، وفضيلةٍ للإنسان أعلى وأكمل من هذه الصِّفات.
فالذين آمنوا، وهاجروا، وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم، وأنفسهم أعظم، وأعلى مقاماً في مراتب الفضل، والكمال في حكم الله، وأكبر مثوبةً من أهل سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام؛ الَّذين رأى بعض المسلمين: أنَّ عملهم إيَّاهما من أفضل القربات بعد الإسلام.
فالَّذين نالوا فضل الهجرة، والجهاد بنوعيه: النَّفسيِّ، والماليِّ أعلى مرتبةً، وأعظم كرامةً ممَّن لم يتَّصف بهما كائناً مَنْ كان، ويدخل في ذلك أهل السِّقاية، والعمارة.
وأنَّه تعالى لم يقل: أعظم درجةً من المشتغلين بالسِّقاية، والعمارة؛ لأنَّه لو عين ذكرهم لأوهم أنَّ فضيلتهم إنَّما حصلت بالنسبة إليهم، ولـمَّا ترك ذكر المرجوح؛ دلَّ ذلك على أنَّهم أفضل من كل مَنْ سواهم على الإطلاق؛ لأنَّه لا يعقل حصول سعادةٍ، وفضيلةٍ للإنسان أعلى، وأكمل من هذه الصِّفات. والتَّفضيل هنا في قوله: ليس على ﴿أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ﴾، فهو لا يعني: أنَّ للآخرين درجةً أقلَّ؛ إنما هو التَّفضيل المطلق، فالآخرون ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ ﴾ فلا مفاضلة بينهم وبين المؤمنين المهاجرين المجاهدين في درجةٍ، ولا في نعيمٍ.
4 – استحقاقهم الجنَّة، والخلود فيها:
ومن النِّعم الَّتي أعدَّها الله – سبحانه وتعالى – للمهاجرين الجنَّةُ، والخلود فيها. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التوبة: 20 – 22] قال الشَّوكاني في تفسيره: والتنكير في الرَّحمة، والرِّضوان، والجنَّات للتَّعظيم، والمعنى: أنَّها فوق وصف الواصفين، وتصوُّر المتصوِّرين. والنَّعيم المقيم: الدَّائم المستمرُّ الَّذي لا يفارق صاحبه، وَذِكْرُ الأبد بعد الخلود تأكيدٌ له. هذه بشرى ما بعدها بشرى، وقد وعد الله – سبحانه وتعالى – بها المؤمنين والمؤمنات. قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الآنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72] .
5 – الفوز العظيم ورضوان الله عليهم:
ومن النِّعم الَّتي وعد الله – سبحانه وتعالى – بها المهاجرين: أنَّهم سينالون الفوز العظيم. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمنوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ﴾ [التوبة: 20] .
ورضوانُ الله تعالى عليهم أكبر، وأجلُّ، وأعظم ممَّا هم فيه من النَّعيم، وهو نهاية الإحسان، وهو أعلى النِّعم، وأكمل الجزاء، كما يدلُّ على ذلك قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 72] .
ورضا الله عنهم هو الرِّضا الَّذي تتبعه المثوبة، وهو في ذاته أعلى، وأكرم مثوبةً، ورضاهم عن الله هو الاطمئنان إليه على نعمائه، والصَّبر على ابتلائه، ولكن التَّعبير بالرِّضا هنا، وهناك يشيع جوَّ الرِّضا الشَّامل، الغامر، المتبادل، الوافر، الوارد، الصَّادر بين الله سبحانه وتعالى وهذه الصَّفوة المختارة من عباده، ويرفع من شأن هذه الصَّفوة من البشر؛ حتَّى إنَّهم ليبادلون ربهم الرِّضا، وهو ربُّهم الأعلى، وهم عبيده المخلوقون، وهو حالٌ، وشأنٌ وجوٌّ لا تملك الألفاظ البشرية أن تعبِّر عنه، ولكن يتَّسم، ويتشرَّف، ويستجلي من خلال النَّصِّ القرآنيِّ، بالرُّوح المتطلِّع، والقلب المتفتِّح، والحسِّ الموصول.
هذا بعض ما وعد الله به المهاجرين من الجزاء، والثَّواب بسبب جهادهم المرير. إنَّ المهاجرين بإيمانهم الرَّاسخ، ويقينهم الخالص لم يمكِّنوا الجاهليَّة في مكَّة من وأد الدَّعوة؛ وهي في مستهلِّ حياتها؛ لقد استمسكوا بما أُوحي إلى نبيِّهم، ولم تزدهم حماقة قريش إلا اعتصاماً بما اهتدوا إليه، وآمنوا به، فلـمَّا أسرفت الجاهليَّة في عسفها، واضطهادها، وأذن الله لهؤلاء المؤمنين الصَّابرين بالهجرة من مكَّة؛ خرجوا من ديارهم، وأموالهم، ويمَّموا صوب المدينة؛ ليس رهبة من الكفر، ولا رغبة في الدنيا؛ ولكنهم كانوا بذلك يرجون رحمة الله، ويبتغون فضلاً منه ورضواناً؛ ولذلك صاروا أهلاً لما أسبغه الله عليهم من فَضْلٍ في الدُّنيا، وما أعدَّه لهم يوم القيامة من ثوابٍ عظيم.
ثانياً: الوعيد للمتخلِّفين عن الهجرة:
إنَّ الأسلوب القرآنيَّ في الوعد، والوعيد يهدف إلى الخشية، والرَّجاء في النُّفوس: رجاء يدفعها إلى الطَّاعة، والاستقامة، وخشيةٍ تمنعها من المعصية، وتسرع بها إلى الاستغفـار، والتَّوبـة، والمؤمن بينهما في معادلةٍ جِدُّ دقيقةٍ؛ لئلا يقعَ فريسةً لليأس، والقنوط، ولا يندفع إلى الجرأة على محارم الله، أو التهاون فيما أمر الله، ولقد استطاع القرآن الكريم بسلاحيـه هذين أن يحفظ للفـرد شخصيته، وللمجتمع مقوِّماته؛ في الحياة، والمال، والعقل، والعِرْض، والدِّين، وهي كلِّياتٌ تقوم عليها الحياة الرَّشيدة الفاضلة. ولقد رأت الحياة النُّور في أجيالٍ عديدةٍ، أنارها القرآن بالوعد، والرجاء، وبالوعيد، والخشية، ولـمَّا خَفَتَ ذلك النورُ بِبُعد النَّاس عن القرآن؛ اصطدم الفردُ بفطرته، والمجتمعُ بواقعه؛ فاضطربت القيم، وانهارت الأخلاق، وفسدت المعاملات، والمناهج والتَّصوُّرات، ولن يصلح اخر هذه الأمَّة إلا بما صلح به أوَّلها، وأن تخشى الله لا تخشى سواه، وأن ترجوه لا ترجو إلا إيَّاه ومن العقوبات الَّتي توعَّد الله – عزَّ وجلَّ – بها المتخلِّفين عن الهجرة سوءُ المصير. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ [النساء: 97] .
روى البخاريُّ عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما: أنَّ ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين، يُكثرون سوادَ المشركين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يأتي السَّهم يُرْمَى به، فيُصيبُ أحدَهم فيقتُله، أو يُضْرَبُ، فيُقتل، فأنزل الله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾.
عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: كان قومٌ من أهل مكَّة أسلموا، وكانوا يَسْتخْفُون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدرٍ معهم، فأُصيب بعضهم، فقال المسلمون: كان أصحابنا مسلمين، وأُكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾، قال: فكتب إلى من بقي بمكَّة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم، قال: فخرجوا، فلحقهم المشركون، فأعطوهم التَّقيَّة، فنزلت فيهم: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 10] .
فكتب المسلمون إليهم بذلك، فخرجوا، وأيسوا من كلِّ خير، ثمَّ نزلت فيهم: ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 110] .
لقد وصف الله – سبحانه – المتخلِّفين عن الهجرة بأنَّهم ظلموا أنفسهم، والمراد بالظُّلم في هذه الآية: أنَّ الذين أسلموا في دار الكفر، وبقوا هناك، ولم يهاجروا إلى المدينة ظلموا أنفسهم بتركهم الهجرة. وبما أنَّهم حرموها من دار الإسلام، تلك الحياة الرَّفيعة النَّظيفة الكريمة الحرَّة الطَّليقة، وألزموها الحياة في دار الكفر، تلك الحياة الذَّليلة الخاسئة الضَّعيفة المضطهدة؛ توعَّدهم ممَّا يدلُّ على أنَّها تعني الَّذين فُتِنوا عن دينهم ﴿جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ﴾ هناك.
وفي هذه الآية الكريمة وعيد للمتخلِّفين عن الهجرة، بهذا المصير ، وبالتَّالي التزم الصَّحابة بأمر الله، وانضمُّوا إلى المجتمع الإسلامي في المدينة؛ تنفيذاً لأمر الله، وخوفاً من عقابه، وكان لهذا الوعيد أثرُه في نفوس الصَّحابة رضي الله عنهم، فهذا ضمْرَة بنُ جُنْدب لـمَّا بلغه قوله تعالى: وهو ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾، قال لبنيه: احملوني؛ فإنِّي لست من المستضعفين، وإنِّي لأهتدي الطريق، وإنِّي لا أبيت اللَّيلة بمكَّة، فحملوه على سريرٍ، متوجهاً إلى المدينة، وكان شيخاً كبيراً، فمات بالتَّنعيم، ولـمَّا أدركه الموت، أخذ يصفِّق بيمينه على شماله، ويقول: اللَّهمَّ هذه لك، وهذه لرسولك صلى الله عليه وسلم ، أبايعك على ما بايع عليه رسولك، ولـمَّا بلغ خبرُ موته الصَّحابة رضي الله عنهم، قالوا: ليته مات بالمدينة! فنزل قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 100] .
وهذا الموقف يرينا ما كان عليه جيل الصَّحابة، من سرعةٍ في امتثال الأمر، وتنفيذه في النَّشاط، والشِّدَّة، كائنةً ما كانت ظروفهم، فلا يلتمسون لأنفسهم المعاذير، ولا يطلبون الرُّخص.
فهذا الصحابيُّ تفيد بعض الرِّوايات: أنَّه كان مريضاً، إلا أنَّه رأى أنَّه ما دام له مالٌ يستعين به، ويُحمل به إلى المدينة؛ فقد انتفى عذره، وهذا فقهٌ أملاه الإيمان، وزكَّاه الإخلاص، واليقين.
وبعد أن ذكر الله – عزَّ وجلَّ – وعيده للمتخلِّفين عن الهجرة بسوء مصيرهم استثنى من ذلك مَنْ لا حيلة لهم في البقاء في دار الكفر، والتَّعرُّض للفتنة في الدِّين، والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشُّيوخ، والضِّعاف، والنِّساء، والأطفال، فيعلقهم بالرَّجاء في عفو الله، ومغفرته، ورحمته بسبب عذرهم البيِّن، وعجزهم عن الفرار. قال تعالى: ﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا ﴾ [النساء: 98 – 99] .
________________________________________________________
مراجع البحث:
- علي محمد محمد الصّلابيّ، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (دروس وعبر)، الطبعة الأولى، 2004.ص.ص (479:471)
- عبد الرحمن البر، الهجرة النَّبويَّة المباركة، الطبعة الأولى، دار الكلمة، المنصورة – مصر، 1997، ص 124.
- أحزمي سامعون جزولي، الهجرة في القرآن الكريم، الطبعة الأولى، مكتبة الرُّشد، الرِّياض، السعودية، 1996، ص، 167.
- احمد عبد الغني النجولي الجمل، هجرة الرَّسول(ﷺ) وصحابتُه في القرآن والسُّنَّة، الطبعة الأولى، القاهرة دار الوفاء، 1409 هـ 1989 م، ص 332-333.
- سيد قطب، في ظلال القرآن، الطبعة التاسعة، دارالشُّروق، بيروت، لبنان، 1980، (3/1705).
- فخر الدين الرازي، تفسير الرَّازي، الطبعة الثالثة، دار إِحياء التُّراث العربيِّ، بيروت، 1999،(16/14).