مقالاتمقالات المنتدى

الهجرة النبوية (4)

بين يثرب والمدينة المنورة ... الفضائل العظيمة لمدينة رسول الله

الهجرة النبوية (4)

بين يثرب والمدينة المنورة … الفضائل العظيمة لمدينة رسول الله

 

بقلم د. علي محمد الصلابي (خاص بالمنتدى)

 

لقد عظم شرف المدينة المنوَّرة المباركة، بهجرة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم إليها، حتَّى فضلت على سائر بقاع الأرض – حاشا مكَّة المكرَّمة – وفضائلها كثيرةٌ منها:

1 – كثرة أسمائها:

إنَّ كثرة الأسماء تدلُّ على شرف المُسمَّى، ولا توجد بلدةٌ في الدُّنيا لها من الأسماء، مثل ما للمدينة المنوَّرة، أو نصفه، أو حتَّى ربعه، وقد بلغ العلماء بأسمائها حوالي مئة اسمٍ(1)، وقد ذكر هذه الأسماء الزَّركشي في (إعلام السَّاجد بأحكام المساجد)، والمجد الفيروز ابادي صاحب (القاموس المحيط)، ونور الدِّين السَّمهودي في (وفاء الوفا بأخبار دار المصطفى)، ومحمَّد بن يوسف الصَّالحي في (سبل الهدى والرَّشاد في سيرة خير العباد).

وأشهر هذه الأسماء:

(أ) يثرب: قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَاأَهْلَ يَثْرِبَ لاَ مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا ﴾ [الأحزاب: 13] .

وقد ورد النَّهي عن تسميتها بهذا الاسم، وأمَّا تسميتها في القرآن «يثرب» فذلك حكاية عن قول المنافقين.

(ب) طابة: فعن البراء بن عازبٍ رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من سمَّى المدينة يثرب؛ فليستغفر الله؛ فإنَّما هي طابة» وفي روايةٍ: «هي طابة، هي طابة، هي طابة».

(ج) المدينة: وهذا أشهر أسمائها، وهذا الاسم إذا أطلق؛ أريدت به المدينة المنوَّرة دون غيرها من مدن الدُّنيا، وقد جاءت الآيات الكثيرة بهذا الاسم، كقوله تعالى: ﴿وَمِمَنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴾ [التوبة 101]، وقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لأِهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [التوبة: 120] وقد وصفت المدينة بالمباركة، والمنوَّرة، والمشرَّفة، وغير ذلك من الأوصاف الفاضلة.

2 – محبته صلى الله عليه وسلم لها، ودعاؤه برفع الوباء عنها:

دعا النَّبي صلى الله عليه وسلم ربَّه قائلاً: «اللَّهمَّ حبِّب إلينا المدينة كحبِّنا مكَّة، أو أشدَّ!» وعن أنسٍ رضي الله عنه: «أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفرٍ، فنظر إلى جُدُرات المدينة؛ أوْضَعَ راحلته، وإن كان على دابةٍ حرَّكها؛ من حُبِّها» [البخاري (1802، 1886)].

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: لـمَّا قدم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المدينة؛ وُعِكَ أبو بكر، وبلالٌ، فكان أبو بكر إذا أخذته الحمَّى يقول:

كُلُّ امْرِئ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ  والموْتُ أَدْنَى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِهِ

 وكان بلال إذا أقلعت عنه الحمَّى يرفع عقيرته، يقول: …. وقال: «اللَّهمَّ العن شيبة بن ربيعة، وعتبة بن ربيعة، وأميَّة بن خلف، كما أخرجونا من أرضنا إلى أرض الوباء!» ثمَّ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهمَّ حبِّبْ إلينا المدينة كحبنا مكَّة، أو أشدَّ! اللَّهمَّ بارك لنا في صاعنا، وفي مُدِّنا، وصحِّحْها لنا، وانقُلْ حُمَّاها إلى الجُحْفَةِ!» [البخاري (1889) ومسلم (1376)] .

3 – دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم لها بضعفي مافي مكَّة من البركة:

فعن أنس رضي الله عنه عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «اللَّهمَّ اجعل بالمدينة ضِعْفي ما جعلت بمكَّة من البركة!» [البخاري (1885) ومسلم (1369)] .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «كان النَّاس إذا رأوا أوَّل الثَّمر؛ جاؤوا به إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال: «اللَّهمَّ بارك لنا في ثمرنا!، وبارك لنا في مدينتنا! وبارك لنا في صاعنا! وبارك لنا في مُدِّنا! اللَّهمَ إنَّ إبراهيم عبدُك، وخليُلك ونبيُّك وإنِّي عبدك، ونبيُّك، وإنَّه دعاك لمكَّة، وإنِّي أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكَّة، ومثلهِ معه» قال: ثمَّ يدعو أصْغَرَ وليدٍ له، فيعطيه ذلك الثَّمر. [مسلم (1373) والترمذي (3454) والنسائي في عمل اليوم والليلة (302) وابن ماجه (3329) وابن السني (279)] .

4 – عصمتها من الدَّجال والطَّاعون ببركته صلى الله عليه وسلم:

إنَّ الله تعالى قيَّض لها ملائكةً يحرسونها، فلا يستطيع الدَّجال إليها سبيلاً؛ بل يلقي إليها بإخوانه من الكفَّار، والمنافقين، كما أنَّ من لوازم دعاء النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بالصِّحَّة ورفع الوباء ألاَّ ينزل بها الطَّاعون، كما أخبر بذلك المعصوم صلى الله عليه وسلم . [البخاري (1880) ومسلم (1379)] .

5 – فضيلة الصَّبر على شدَّتها:

فقد وعد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم من صبر على شدَّة المدينة، وضيق عيشها، بالشَّفاعة يوم القيامة، فعن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «المدينة خير لهم لو كانوا يعلمون، لا يدعها أحدٌ رغبةً عنها إلا أبدل الله فيها مَنْ هو خيرٌ منه، ولا يثبت أحدٌ على لأْوَائِهَا وجَهْدِها، إلا كنتُ له شفيعاً – أو شهيداً – يوم القيامة» [مسلم (1361)] .

6 – فضيلة الموت فيها: فعن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من استطاع أن يموت بالمدينة؛ فليَمت بها، فإنِّي أشفع لمن يموت بها» [الترمذي (3917) وابن ماجه (3112) وابن حبان (3733) والبيهقي في الشعب (4184)]، وكان عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه يدعو بهذا الدُّعاء: «اللَّهم ارزقني شهادةً في سبيلك، واجعل موتي في بلد رسولك صلى الله عليه وسلم» [البخاري (1890)] .

وقد استجاب الله للفاروق رضي الله عنه، فاستُشهد في محراب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يؤمُّ المسلمين في صلاة الفجر.

7 – هي كهف الإيمان، وتنفي الخبث عنها:

الإيمان يلجأ إليها مهما ضاقت به البلاد، والأخباث، والأشرار لا مقام لهم فيها، ولا استقرار، ولا يخرج منها أحدٌ رغبةً عنها إلا أبدلها الله خيراً منه من المؤمنين الصادقين.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّ الإيمان ليأْرِزُ إلى المدينة كما تَأْرِزُ الحيةُ إلى جُحرها» [البخاري (1876) ومسلم (147)]، وقال صلى الله عليه وسلم : «… والَّذي نفسي بيده! لا يخرج منها أحدٌ رغبةً عنها إلا أخلف الله فيها خيراً منه، ألا إنَّ المدينة كالكير، تُخرِج الخبث، لا تقوم السَّاعة حتى تنفي المدينة شرارها، كما ينفي الكيرُ خبَثَ الحديد» [مسلم (1381) وأحمد (2/439)] .

8 – تنفي الذُّنوب والأوزار:

عن زيد بن ثابت رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إنَّها – أي: المدينة – طَيْبَةُ تنفي الذُّنوب، كما تنفي النَّار خبث الفضَّة» [البخاري (4589) ومسلم (1384)] .

9 – حفظ الله إيَّاها ممَّن يريدها بسوء:

قد تكفَّل الله بحفظها من كلِّ قاصدٍ إيَّاها بسوءٍ، وتوعَّد النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم مَنْ أحدث فيها حدثاً، أو آوى فيها مُحدِثاً، أو أخاف أهلها، بلعنة الله، وعذابه، وبالهلاك العاجل، فعن سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا يكيد أهلَ المدينة أحدٌ إلا انماع، كما ينماع الملحُ في الماء» [البخاري (1822) ومسلم (1387)]، وقال صلى الله عليه وسلم : «المدينة حَرَمٌ، فمن أحدث فيها حَدَثاً أو آوى مُحدثاً؛ فعليه لعنةُ اللهِ، والملائكة، والنَّاس أجمعين، لا يُقْبَلُ منه يومَ القيامة عَدْلٌ، ولا صَرْفٌ» [مسلم (1371)].

10 – تحريمها:

قد حرَّمها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بوحيٍ من الله، فلا يُراق فيها دمٌ، ولا يُحْمل فيها سلاحٌ، ولا يروَّع فيها أحدٌ، ولا يقطع فيها شجرٌ، ولا تَحِلُّ لُقطتُها إلا لمنشدٍ، وغير ذلك ممَّا يدخل في تحريمها، قال صلى الله عليه وسلم : «إنَّ إبراهيم حرَّم مكَّةَ ودعا لها، وحرَّمتُ المدينة كما حرَّم إبراهيم مكَّةَ، ودعوتُ لها في مُدِّها، وصَاعها مِثْلَ ما دَعا إبراهيم – عليه السَّلام – لمكَّة» [البخاري (2129) ومسلم (1360)].

وقال صلى الله عليه وسلم : «هذا جبلٌ يحبُّنا ونحبُّه، اللَّهمَّ! إنَّ إبراهيم حرَّم مكة، وإني حرَّمت ما بين لابتيها» [البخاري (4084) ومسلم (1362)] يعني: المدينة، وقال صلى الله عليه وسلم : «لا يُخْتلى خلاها، ولا ينفَّر صيدها، ولا تحلُّ لُقَطَتُها إلا لمن أشادها، ولا يصلح لرجلٍ أن يحمل فيها السِّلاح لقتالٍ، ولا يصلح أن يقطع منها شجرٌ، إلا أن يعلف رجلٌ بعيرَه» [أحمد (1/119)] .

إن هذه الفضائل العظيمة جعلت الصَّحابة يتعلَّقُون بها، ويحرصون على الهجرة إليها، والمقام فيها، وبذلك تجمَّعت طاقات الأمَّة فيها، ثمَّ توجَّهت نحو القضاء على الشِّرك بأنواعه، والكفر بأشكاله، وفتحوا مشارق الأرض، ومغاربَها.

مراجع البحث:

  1. علي محمد محمد الصّلابيّ، السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث (دروس وعبر)، الطبعة الأولى، 2004.ص.ص (422:417).
  2. عبد الرحمن البر، الهجرة النَّبويَّة المباركة، الطبعة الأولى، دار الكلمة، المنصورة – مصر، 1997، ص، 155.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى