الهجرة النبوية.. دروس للمهاجرين المعاصرين
بقلم د. وصفي عاشور أبو زيد
صحيح أن الهجرة من مكة إلى المدينة انتهت بفتح مكة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال، قال النبي ﷺ يوم فتح مكة: (لا هجرة، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا). أما الهجرة إلى غيرها فهو باب لا يملك أحد أن يغلقه، وهو قائم قبل رسالة النبي محمد ﷺ مع إخوانه الأنبياء والدعاة الأوفياء، ولم ينته بوفاته ولا بفتح مكة نفسها، وإنما انتهت الهجرة من مكة للمدينة؛ لأن مكة أصبحت دار إسلام؛ يؤمن فيها المسلم على دينه ونفسه وعرضه وماله.
وفي عصرنا تضاعفت الهجرة من بلاد العرب والمسلمين إلى بلاد الغرب؛ هروبا من القمع والاستبداد، والتماسا للأمن والحرية، ورغبة في استكمال رسالة الإسلام. وقد هاجر رسولنا الكريم ﷺ من مكة إلى المدينة، وقام في هجرته من الأخذ بالأسباب والاتساق مع سنن الله تعالى بما لو كان أحد أولى بالاستغناء عنه لكان هو عليه الصلاة والسلام، لكنه استنفد كل وسيلة بشرية يمكن أن تؤخذ، فلم يترك ثغرة، ولا أبقى في خطته مكانًا يكمله الذكاء والفطنة؛ ولهذا فإن للمهاجرين المعاصرين في هجرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم دروسًا لا تنتهي، ومن ذلك:
كانت هجرة المصطفى عليه الصلاة والسلام في سبيل الله؛ فقد خرج من بيته مهاجرا بدينه مقيما لدولته مكملا تبليغ رسالته، ولم يكن لشيء دون ذلك، وهناك في عصرنا من يهاجر للمتاع الزائل، وهناك من يهاجر للإشباع الشخصي، لكن هناك من يهاجر ليستأنف السبيل، ويستكمل الرسالة، ويحقق الغاية، ويهب حياته ووقته لدينه وأمته؛ ولهذا فإن تصحيح النية وتجريد الإخلاص لله وحده قبل الهجرة وأثناءها وبعدها مهم جدًّا.
ومن يفعل ذلك فقد وعده الله تعالى بوعود يلمسها كل من هاجر في سبيل الله، ويجد أثرها في نفسه وماله ودينه وأمته، قال تعالى: (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ). سورة النساء: 100. ومن شأن الهجرة في سبيل الله أن يتحمل المسلم كل ما يلقاه من تعب ونصب، وكل ما يجري له من ضيق وهمّ، يحتسب ذلك في جنب الله وفي سبيل الله، ولا يظهر ضيقا ولا تبرما ولا شكوى، فما السر وراء تحمله ذلك كله؟ وليس الأمر تحملا وحسب، إنما تحمُّلٌ يصاحبه فرحة وسرور، وصبر يحوطه رضًى وحبور، إنه الإيمان الذي يزن الجبال ولا يطيش، هذه الصعاب لا يطيقها إلا مؤمن تربى على تعاليم النبوة، وقبَس من أنوار الوحي، وتضلَّع من هدْي الإسلام.
ومن نتائجها وجزائها – بالإضافة إلى السعة والْمُراغَم – التبويءُ الحسن في الدنيا والأجر الخيّر في الآخرة، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا). سورة النحل: 41. فانظر كيف وضعت الآية الكريمة شرطًا واضحًا للهجرة وهو (في الله)، وبينت الأسباب، وهي الظلم والفتنة في الدين، وبينت المنهج، وهو الصبر والتوكل على الله تعالى، فكانت النتيجة المنتظرة (لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ).
هناك كثيرون يهاجرون من بلادهم، ولا يدور في خلدهم أنهم سيتحللون شيئا فشيئا من دينهم وأخلاقهم، فيصبحون في المجتمع الجديد شيئا آخر، هم وأبناؤهم، فالأخلاق تتغير، والعادات تتغير، بل إن هناك أمورا في صميم الدين ينالها التغيير والتبديل، ومن ذلك لباس النساء والبنات، تجدهم يلبسون الضيق والمجسم بل ربما الشفاف تماشيا مع المجتمع، وتماهيا مع الثقافة الجديدة، وهذا من المحاذير التي يجب على المسلمين حذرها إذا هاجروا لبلاد غير بلادهم وأرض غير أرضيهم.
وفي هجرة نبينا محمد ﷺ عبرة وعظة؛ حيث إنه لم يغير ولم يبدل، ولا بدل أصحابه ولا غيروا، وإنما ظلوا ثابيتن على دينهم، متمسكين بأخلاقهم، فظلت الثوابت ثوابت، ولا بأس من أن تكون هناك مرونة في المتغيرات التي هي العادات والأعراف بما لا يخالف نصَّا ولا أصلا، ولا يهدم مقصدا من مقاصد هذا لدين. ولا شك أن التمسك بالثوابت والأخلاق هو من شروط الهجرة، فمن غير أو بدل أو فرط في ثوابت دينه فالواجب عليه أن ينتقل من هذا البلد مباشرة، وإن أنس من نفسه ذلك قبل الهجرة فلا تجوز له الهجرة أصلا؛ فلا يتصور أن يستغيث من الرمضاء بالنار، ولا أن ينتقل من مجتمع سيء لتسوء أخلاقه في مجتمع آخر!
أعظم ما يمكن استخلاصه من الهجرة النبوية هو درس الأخذ بالأسباب، فكما أشرنا سابقا كان النبي – صلى الله عليه ولسم – أولى الناس بترك الأخذ بالأسباب، ومع هذا أخذ بكل الأسباب: مادية ومعنوية، فردية وجماعية، بدنية وروحية، دنيوية وأخروية؛ حتى غدت الهجرة نموذجا فذًّا عبقريًّا في الأخذ بالأسباب وفق سنن الله وقوانينه التي أقام عليها الحياة والأحياء.
ومن هنا جعل النبي ﷺ يفكر في الاختباء في الغار وفي تضليل أعدائه؛ فكان يتجه جنوبًا وهو يريد أن يتجه إلى الشمال، وأخذ راحلتين قويتين مستريحتين حتى تقويا على وعثاء السفر وطول الطريق. وهذا دليل مدرَّب ليعرف ما هنالك من وجوه الطرق والأماكن التي يمكن السير فيها بعيدًا عن أعين الأعداء، وهذا علي بن أبي طالب ينام مكانه ليضلل الكافرين، وذلك يسير بالأغنام وراءهما يمحو آثار المسير، ولكي يكون على دراية تامة باتجاهات العدو ونواياه تأتيه الأخبار عن طريق راعي أبي بكر، كما أتت بعض الأغذية عن طريق بنت أبي بكر… الخ. وليس معنى الأخذ بالأسباب الاعتماد عليها، بل الطريقة المثلى في التصور الإسلامي أن يقوم المسلم بالأسباب كأنها كل شيء في النجاح، ثم يتوكل على الله كأنه لم يقدم لنفسه سببًا، ولا أحكم خطة، ولا سد ثغرة.
منذ وصول النبي عليه الصلاة والسلام المدينة لم يَأْلُ جهدا في تبليغ الدعوة وتوصيل الرسالة وإقامة الدولة؛ حيث صنع مجتمعا مسلما مثاليا، وحقق به النصرة للدين والسلامة للبشرية
ومع هذا تجد كثيرا من المهاجرين هاجروا لا لهدف يحقَّق، وإنما لتدمير ما تبقى لهم من إمكانات ومقومات يؤدون بها رسالتهم، ويحيون بها دينهم، وتجد بأسهم بينهم شديدا، والنزاع بينهم على أشده، حتى نسوا قضيتهم التي خرجوا من أجلها وحولوا المعركة في المكان الخطأ فلم يغيظوا عدوا ولا أسعدوا صديقا، ولم يفلحوا في دنيا ولا نصروا دينا!
كانت هجرة النبي واضحةً أهدافُها ومرسومة خطواتُهَا، ولهذا سعى لتحقيقها فلم يهدر في ذلك وقتا ولم يخسر طاقة، وإنما استثمر كل الأوقات، ووظف جميع الطاقات من أجل تحقيق هدفه الذي هو تبليغ الرسالة ونصرة الدين وظهور المؤمنين، وإعلاء راية الله في الأرض. ومع أن الله تعالى وعد المؤمنين أن رسالتهم ستستقر، وأن رايتهم ستعلو، وأن الكفر لا محالة زاهق، إلا أنه علق أفئدتهم بالمستقبل البعيد وهو الدار الآخرة، ومن هنا لا يعتري النفسَ مللٌ، ولا الجسم كلل؛ لأن أشواقه ممتدة إلى المستقبل البعيد، وآماله قد طارت لتحط في أفراح الآخرة عند رب العالمين.
فليس شرطًا أن يرى المرء ثمرة جهاده والتمكين لدينه وهو حي، بل ربما يطويه الموت، ولم يعرف بعدُ نتيجة الصراع بين الهدى والضلال، وهذا كثير الوقوع، لكن وعد الله لا يتخلف: “فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ“؛ فيكون هذا المرء جسرًا تعبر عليه الأفكار والمبادئ إلى جيل يرى نصرتها والتمكين لها.
منذ وصول النبي عليه الصلاة والسلام المدينة لم يَأْلُ جهدا في تبليغ الدعوة وتوصيل الرسالة وإقامة الدولة؛ حيث صنع مجتمعا مسلما مثاليا، وحقق به النصرة للدين والسلامة للبشرية، والحرية والتحرر للإنسانية، ولهذا لم يمر عليه في المدينة عشر سنوات إلا كان في عزة ونصرة ومنعة، ثم عاد إلى مكة فاتحا منتصرا. فهل حقق المهاجرون المعاصرون أهدافهم؟ وهل أحكموا خططهم؟ وهل وظفوا طاقاتهم؟ وهل استفادوا من إمكاناتهم وكوادرهم؟ وهل استثمروا الفرص المواتية لهم؟ أم انحرفوا عن الهدف، وشغلتهم أنفسهم وخلافاتهم، وتخلتْ عنهم الدول الداعمة لهم، وأهدروا المشروع الإسلامي في العالم كله، وأطالوا عمر الاستبداد والمستبدين والمحتلين عقودا قادمة من الزمان؟! هذه أسئلة يعرف إجابتها من تأمل واقع المهاجرين اليوم، والله ينصر من ينصره، ويخذل من يخذله، وقد وضع سننا في الكون لا تحابي حدًا!
(المصدر: مدونات الجزيرة)