النّظام العالمي الجديد بين مخطَّط الماسونيَّة والبعث الإسلامي 5 من 10
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
1.2 إيذان بمواجهة مصيريَّة بين الغرب والإسلام
قدَّم السّياسي الأمريكي المخضرم، هنري كسنجر عام 2014م رؤيته بشأن التَّحديات الَّتي تواجه النّظام السّياسي العالمي، متطرّقًا إلى مستقبل صراع القوى العالميَّة في سبيل تحقيق الرّيادة في المشهد السّياسي العالم، في كتابه World Order-النّظام العالمي، لينال رواجًا واسعًا ويثير اهتمامًا كبيرًا في الأوساط السّياسيَّة. يتناول مستشار الأمن القومي ووزير الخارجيَّة الأسبق (1969-1977م) التَّنافس الشَّرس بين الولايات المتَّحدة والقوى الآسيويَّة الصَّاعدة، وعلى رأسها العملاق الصّيني؛ كما يتناول التَّحوُّلات الفارقة الَّتي طرأت على العالم الإسلامي، من سقوط الخلافة العثمانيَّة (28 رجب 1342ه-3 مارس 1924م)، واندلاع الثَّورة الخمينيَّة في إيران ونجاحها بإعلان الجمهوريَّة الإسلاميَّة بزعامة روح الله الخميني (11 فبراير 1979م)، في إشارة إلى تأثير ذلك على النُّفوذ الغربي في منطقة الشَّرق الأوسط. ومن بين الموضوعات الهامَّة الَّتي يدرجها السّياسي اليهودي ألماني الأصلي في كتابه (2014م) صعود أمريكا إلى موقع الرّيادة في المشهد العالمي في أعقاب الحرب العالميَّة الثَّانية (1939-1945م)، وتأسيس ما سُمّي النّظام العالمي الجديد، الَّذي تمخَّض عن تأسيس دولة إسرائيل (15 مايو 1948م) بعد استعمار اليهود لأرض فلسطين بدعم بريطاني ثمَّ أمريكا؛ هذا إلى جانب تسليط الضَّوء على دور التَّطوُّر التّقني الهائل الَّذي توصَّل إليه الغرب، وبخاصَّة في مجال التَّسليح، وتطوير أسلحة نوويَّة غيَّرت معادلة القوَّة العسكريَّة وصارت تتحكَّم في صُنع القرار السّياسي. ويختتم كسنجر الكتاب بتقديم رؤيته الاستطلاعيَّة بشأن مستقبل النّظام العالمي الحالي في ظلّ الأوضاع العالميَّة الآخذة في التَّردّي واحتدام صراع القوى العالميَّة، الَّذي قد يفضي إلى مواجهة عسكريَّة شاملة واسعة النّطاق الجغرافي، تتبارى فيها تلك القوى بما أنتجته من ترسانة حربيَّة اتّباعًا لأحدث التَّطبيقات التّقنيَّة. وقد نشَر دار الكتاب العربي عام 2015م إصدارًا مترجمًا إلى العربيَّة تحت نفس العنوان، متبوعًا بالعنوان الفرعي “تأمُّلات حول طلائع الأمم ومسار التَّاريخ”.
نشأة النّظام العالمي الحاليّ
يشير كسنجر إلى أنَّ النّظام العالمي المطبَّق إلى يومنا هذا نشأ في أعقاب صُلح وستفاليا (Peace of Westphalia)، عام 1648م، الَّذي أسفر عن توقيع معاهدتين للسّلام أنهتا هذه حرب الثَّلاثين عامًا في الإمبراطوريّة الرومانيَّة المقدَّسة، الَّتي تضمُّ معظم الأراضي في ألمانيا اليوم، وحرب الثَّمانين عامًا بين إسبانيا ومملكة الأراضي المنخفضة المتَّحدة، الَّتي كانت جزءً من فرنسا وتقع شمال غربيّ أوروبا وكانت تضمُّ هولندا وأوروبا وسينت مارتن وكوراساو. قام ذلك النّظام على أساس تكوين وحدات سياسيَّة متعدّدة متكافئة في القوَّة، واستطاعت تلك الوحدات تنحية الخلافات السّياسيَّة والصّراعات الدّينيَّة والمذهبيَّة، من خلال اعتراف كلّ وحدة بحقّ الأخرى في السّيادة والاستقلال السّياسي وامتناع كلّ من تلك الوحدات عن التَّدخُّل في شؤون غيرها. تكرَّر نمط ذلك النّظام العالمي، أو لتقل النّظام الإقليمي الموحَّد، في مناطق أخرى من العالم؛ حيث لم تُتح “التّكنولوجيا السَّائدة” حينها “دوران نظام عالمي وحيد” (ص14). نشأ في دولة الإسلام مفهوم تأسيس نظام تقوده “حاكميَّة مقدَّسة سماويًّا توحّد العالم وتمنحه السَّلام”، تطبيقًا لنظام الخلافة الإسلاميَّة المستندة إلى الشَّريعة الإلهيَّة المستمدَّة من القرآن الكريم والسُّنَّة النَّبويَّة؛ وظلَّ نظام الخلافة المظلَّة الجامعة لسائر المسلمين في العالم منذ وفاة نبيّنا مُحمَّد (ﷺ) عام 632م، وحتَّى انهيار الخلافة العثمانيَّة عام 1924م. وقد انطلقت جحافل المسلمين منذ النّصف الأوَّل من القرن السَّابع الميلادي في زمن دولة الخلافة الرَّاشدة (632-661م) لتُقوّض الإمبراطوريَّة الفارسيَّة (ما بين عاميّ 633 و654م تقريبًا) وتنهي الوجود الرُّوماني في الشَّام (ما بين عاميّ 633 و640م تقريبًا). بمرور الزمن، بسَط الإسلام سُلطانه على مساحات واسعة من قارَّة آسيا وشمال إفريقيا في زمن الدَّولتين الأمويَّة (662-750م) والعبَّاسيَّة (750-1517م)، وأُضيف إلى ذلك البلقان وشرق البحر المتوسّط وشرق أوروبا في زمن الدَّولة العثمانيَّة (1517-1924م).
ظلَّت مبادئ صُلح وستفاليا المعمول بها في أيّ نظام موحَّد في العالم، وهي مبادئ الاستقلال الوطني، وسيادة الدُّولة، والمصلحة القوميَّة، والاستقلاليَّة في صُنع القرار (ص 16). وطُبّقت تلك المبادئ تأسيس أيّ نظام يتكوَّن من عدَّة دول، وكان لها تأثيرها على المهاجرين البريطانيين من أتباع مذهب التَّطهيريَّة البروتستانتي (Puritans)، مؤسّسي العالم الجديد في الأميركتين في القرن السَّابع عشر للميلاد؛ ومن هنا نشأت المطالبات الشَّعبيَّة لسُكَّان المستعمرات بالاستقلال عن بريطانيا، حتَّى استقلَّت كافَّة المستعمرات، وتأسَّست الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في 4 يوليو عام 1776م. كما يوضح كسنجر، يعتمد نظام وستفاليا على آليَّة موسَّعة للحدّ من الممارسات الفوضويَّة وتنظيم التّجارة العالميَّة ووضْع حدود للنّزاعات بين الدُّول. غير أنَّ ذلك النّظام العالمي، المعمول به منذ أكثر من 4 قرون، منذ أفول دولة الخلافة العثمانيَّة ودخولها في مرحلة الضَّعف، بات مهدَّدًا بالكثير من التّحديات، على رأسها خروج أوروبا من المنظومة العالميَّة الموحّدة للدول، وسعي “الجهاديين من سُنَّة وشيعة”، على حدّ وصْف كسنجر، إلى “تمزيق المجتمعات وتفكيك الدُّول بحثًا عن رؤى ثورة عالميَّة قائمة على رؤية أصوليَّة لدينهم” (ص17). تكوَّنت إثر ذلك التَّوجُّه تيَّارات مسلَّحة تتبنَّى مبادئ دينيَّة رافضة للاحتكام إلى غير الشَّريعة الإسلاميَّة؛ ممَّا أفضى إلى تشكيل ميليشيات مسلَّحة تتمتَّع بقوى تفوق قوى الأنظمة الحاكمة وتهدّد وجودها.
بعد أو ورثت موقع الرّيادة السّياسيَّة في العالم بعد أفول الإمبراطوريَّة البريطانيَّة في النّصف الأوَّل من القرن العشرين، دأبت الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة على الإبقاء على مبادئ وستفاليا، ولكن مع التَّخلّي عن مبدأيّ الحفاظ على توازُن القوَّة وعدم التَّدخُّل في شؤون الدُّول الأخرى، أملًا في تكوين “نظام عالميّ مسالم” تديره بما يحقّق مصالحها ويفني التَّيَّارات المعادية لسياساتها وتوجُّهاتها (ص17). أمَّا عن أهمّ مقوّم ينبغي توفُّره في أيّ نظام عالمي مستدام، كما يرى السّياسي الأمريكي المخضرم، هو “احترام تعدُّدّيَّة الحالة الإنسانيَّة من جهة والبحث الإنساني المتجذّر عن الحريَّة من جهة أخرى”؛ يعني ذلك أنَّ النّظام العالمي الموحَّد “يجب غرسه وتعهُّده، ويتعذَّر فرْضه” (ص17). تتبلور بذلك معضلة تأسيس نظام موحَّد يضمن إخضاع سُكَّان العالم بأسْره، دون المساس بحريَّتهم؛ وإلَّا تعذَّرت السَّيطرة عليهم وهُدّد النظام بالفناء. لا يمكن تحقيق الموازنة بين المشروعيَّة والقوَّة إلَّا من خلال اقتناع النَّاس كافَّة بمبادئ النّظام الموحَّد، الَّذي ينبغي حينها أن يتجاوز الاختلافات الثَّقافيَّة ويزيل الحدود الجغرافيَّة. وكما يستنتج كسنجر، هناك لغز يتعيَّن حلُّه في سبيل تكوين نظام موحَّد يتمتَّع بأهمّ مقومّات النَّجاح، أي الموازنة بين القوَّة والشَّرعيَّة، وهو “لغز كيفيَّة إذابة جملة من التَّجارب التَّاريخيَّة والقيم المتباينة في بوتقة نظام مشترك” (ص19). لم تعد أوروبا، الَّتي أوجدت نظام وستفاليا، قادرة على تبنّي رؤية ناجحة لنظام موحَّد وفق التَّغيرات الاقتصاديَّة والعلميَّة والسُّكَّانيَّة والثَّقافيَّة الَّتي طرأت على العالم؛ بل وصارت عاجزة عن تحقيق التَّماهي بين وحداتها الدَّاخليَّة؛ ممَّا يعني أنَّها ليست بصدد ريادة النّظام العالمي الجديد الَّذي تشكّله ظروف الحياة العصريَّة، في ظلّ تمزُّقها بين ماضيها الَّذي لم تنجح في الانسلاخ من مفرداته ومستقبلها الَّذي لم تحدّد ملامحه!
المصدر: رسالة بوست