النصر آت أيها الأقصى
بقلم معوض إبراهيم
المسجد الأقصى هو بيت المقدس في القدس الشريف عاصمة بلاد فلسطين، ردَّ الله عنها وعنه ثعالب البشر وأبالسة الإنس من اليهود، الذين يستأسدون اليوم في هذه البلاد العزيزة، ويعينهم على بغيهم أقوام يجدون في أنفسهم كحَزِّ المُدى على الإسلام والمسلمين إلى حين يأتي – إن شاء الله – يوم يظفر الله فيه أولياءه بأعدائه؛ ? وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ ? [الروم: 6]، ? بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ? [الأنبياء: 18].
هذا المسجد الأسير الذي حاولت يهود التعفيةَ عليه بالإحراق وغيره في مراحل التاريخ قديمه وحديثه، تفرغ يهود وسعها في إخلاصه وتجريده لهم، وانتزاع كل ذرة تراب منه ومن فلسطين بعامة، من العرب مسلمين ونصارى وبعض منصفيهم الذين ما خلا الزمان منهم في خير العصور؛ ? وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ? [سبأ: 49].
هذا المسجد أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال في الدين الخاتم، أخرج الشيخان وأحمد عن أبي هريرة وأبي سعيد وأصحابُ السنن أنَّ رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – قال: ((لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا))، بل ترتيبها: المسجد الحرام، ثم المسجد النبوي، ثم المسجد الأقصى، وإن كان البيت الحرام أولها في الوجود، كما صح في حديث أبي ذر – رضي الله عنه – والله – تعالى – يقول: ? إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ? [آل عمران: 96 – 97].
قال الألوسي في تفسيره “روح المعاني” المجلد الثامن صفحة 9″، ووصفه بالأقصى؛ أي: لمن في “الحجاز”، وقال غير واحد: إنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد الحرام، وبينهما نحو أربعين ليلة – وقيل: لأنه ليس وراءه موضع عبادة، فهو أبعد مواضعها، ورُوي عن ابن عطية قوله: “يحتمل أن يراد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين ما سواه، وهو بعيد في نفسه للزائرين”، وروي أن المراد بالأقصى بعده عن الأقذار والخبائث.
ولقد بارك الله المسجد الأقصى مناخًا وزروعًا وثمارًا وآثارًا، فهو في ذاته بالبركة أتم وأوفى بعد أن بناه سليمان دون أبيه داود – عليهما السلام – وجعله الله مهد الرسالات السماوية الأولى، وتابع إليه أنبياءه ورسله، وجعله متعبدهم، ونوه بأهله وذويه، فكانوا سادة أزمانهم، المقدمين على من سواهم في إشادة الله بمن آمن وبر، واتقى وأصلح، منذ قال لإبراهيم – عليه السَّلام -: ? لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ ? [البقرة: 124].
وقد أخرج الإمام أحمد بسنده من حديث أبي أمامة قال: قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك))، قالوا: يا رسول الله، وأين هم؟ قال: ((ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس)).
ولقد ربط الله بين المسجد الأقصى ووقائعه وأحداثه ما ساء منها وما سرَّ، وبين الرسالة الخاتمة، والأمة الوارثة، حين جعل آية الإسراء إليه، ونعمة المعراج منه، وانعقد أبر مؤتمر وأدله على شرف رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – حيث حشر الله لمصطفاه من آبائه المرسلين، وإخوانه النبيين من حفوا في الأقصى به – صلوات الله وسلامه عليهم – وقدموه بالرضا والطواعية وعرفان القدر إمامًا في صلاة خاشعة وحمد وثناء عليه – سبحانه – أن اصطفى لكلمته الأخيرة خاتمهم وخيرهم وأفضلهم، كما قال خليل الرحمن في أعقاب ثناء محمد بعد ثنائهم واحدًا بعد واحد على الله، وإبراهيم يذكر في هذا المؤتمر دعواته هو وإسماعيل يرفعان القواعد من البيت؛ ? رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? [البقرة: 129].
وعاش المسجد الأقصى بمكانه ومكانته يتألق في المشاعر، ويجل وقعه في الأبصار والبصائر مع البيت الحرام في البلد الآمن المحفوظ بحفظ الله من أمثال أصحاب الفيل، منذ كان وإلى آخر الزمان إن شاء الله، فليحذر الذين يطوون جوانحهم على الكيد للإسلام وأهله وبلده – أن يصيبهم ما أصاب الذين من قبلهم؛ ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ? [الفيل: 1 – 5].
فهلا انطلقت من هذه الآيات إحدى قذائف الحق في وجه ذلك الأحمق الذي قال لبوش “اضرب المسجد الحرام بقنبلة ذرية”، ويأبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون كما قلت: “والمؤمنون الذين عرفوا الفداء في بيوت الله ومقدساته دمًا وسفكًا”.
ولقد اتصلت على الأقصى كرات الفرنجة والصليبيين والباطنية وأقوام نسأل الله ألا يجعل للأثرة وأماني التوسع عليهم من سبيل.
وكم أمكن لهؤلاء الجبابرة من الأقصى في مراحل غفل فيها بنو إسرائيل عن الله وكلماته، كما قال تعالى: ? وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا * إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا * عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا * إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ? [الإسراء: 4 – 9].
هكذا أمهلَ الله بني إسرائيل ودللهم أكثر من سائر الناس، فلم يسارع بالمؤاخذة ولم يعاجل بالعقوبة، ولو شاء لأراح منهم العباد والبلاد، بما كشف عما في طواياهم من شر وفساد، كصنيعه – سبحانه – بأمم عتت عن أمره، وعصت رسله، وغرها بالله الغرور.
والصهاينة الذين يخدعهم اليوم واقعهم في الأرض المقدسة، أين هم من سير الأولين، ومصاير الظالمين؟ ? قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ? [آل عمران: 137].
وأين هم من “عين جالوت”، ويوم “حطين”، وأيام تقص قصصها الأيام والليالي لو عقل الناس وارتفعوا إلى مستوى الإيمان الحق الذي يأمر الله به جنده؟ ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ ? [محمد: 11].
قال الله – تعالى -: ? قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ ? [البروج: 4 – 10].
ولقد قلت يوم حريق الأقصى عام 1969م:
وَفِي يَوْمِ حِطِّينَ تَفَرَّسَ جُنْدَهُ
بِلَيْلٍ صَلاَحُ الدِّينِ مِنْ غَيْرِ إِعْلاَنِ فَأَبْصَرَ قَوْمًا فِي الْوُضُوءِ وَمَعْشَرًا
يُصَلِّي وَرَهْطًا يَجْهَرُونَ بِقُرْآنِ فَقَالَ: أَصَبْنَا النَّصْرَ بِالطُّهْرِ وَالتُّقَى
عَلَى طُعْمَةٍ هَاجُوا حِمَانَا بِصُلْبَانِ وَكَانَ نَهَارًا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ
وَدِدْتُ لَوِ اسْتَفْتَاهُ أَهْلِي وَإِخْوَانِي
إن القوم يخدعهم اليوم ما يملكون من أسلحة الدمار، ووسائل الإبادة، والتعفية على الآثار، ويتوارثون خلفًا عن سلف أمثال قول ناحوم غولدمان – زعيم المؤتمر اليهودي العالمي -: “لقد كان ممكنًا لليهود أن يحصلوا على أوغندة أو مدغشقر أو غيرهما من الأقطار؛ لينشئوا فيها وطنًا يهوديًّا، ولكن اليهود لا يريدون على الإطلاق سوى فلسطين، وليس لاعتبارات دينية، أو بسبب إشارة التوراة إلى فلسطين، ولا لأن مياه البحر الميت تستطيع أن تعطي عن طريق التبخير ما تبلغ قيمته خمسة آلاف مليون دولار من المعادن والأملاح المعدنية، وليس كما يقول “المستر دالاس”: لأن تربة فلسطين الجوفية تحتوي على كميات من البترول تبلغ عشرين ضعف جميع كميات احتياطي البترول في الأمريكتين فحسب؛ بل لأن فلسطين هي ملتقى الطرق بين أوروبا وآسيا وإفريقيا، ولأنها المركز الحقيقي للقوى السياسية العالمية، والمركز العسكري الإستراتيجي للسيطرة على العالم”[1].
وكم من دول حسبت أنَّ سلطانَها يدوم، وأن عنفوانها يبقى وهي تضيق بالإسلام ذرعًا، وتنظر بعين المقت إلى حقه الأبلج، ومنهجه الأقوم اليوم والغد، كما كان منذ هدى الله به من ضلالة، وعلَّم من جهالة، وبصَّر من عمى.
إنَّ العرب والمسلمين يتواصلون اليوم بما كان ينبغي ألا يفوتهم في أيسر لحظة من لَمِّ الشمل، ووحدة الكلمة، واستقامة الصف، وتشابُك الأيدي المتوضئة، وتوكيد العزم على استئصال الباطل من جذوره في الأرض المقدسة من فلسطين لب الصراع، ومجمع أطماع شذاذ الآفاق، الذين يحلمون بشعارهم: “ملكك يا إسرائيل من النيل إلى الفرات”، وما زالت شفاههم تتحلب، وكيدهم يتألب إلى خيبر وتيماء وسيناء، ومنازل يأبى الله والمسلمون أن يجعل إليها منهم خطوة واحدة.
فتجمعوا – أيها اليهود – في الأرض المقدسة، وتوسعوا ما استطعتم، وعيشوا في الأوهام ومواريث أوائلكم، وقولوا عن قادة فلسطين: إنهم هم الذين صنعوا بأنفسهم ما هم فيه من عزلة انفراد عن شعبهم وأمتهم؛ لأنهم أبوا أن يعطوا وعدًا أو شبه وعد لإسرائيل ببذرة تراب من الحدود التي كانت لفلسطين عام 1967م.
إن الأقصى ظافر طاهر بعون الله، ولله أوس آخرون وخزرج، فكونوهم أيها المسلمون، والله معكم ولن يتركم أعمالكم؛ ? وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ? [العنكبوت: 69].
——————————————————————————–
[1] من تقرير الهيئة العربية العليا في فلسطين في 20 صفر 1381 هـ – 2 أغسطس 1961م جزء من بحث بعنوان: “المطامع اليهودية الخطيرة – الدينية والسياسية والاقتصادية – في فلسطين والأقطار العربية”.
(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج / موقع الألوكة)