تقارير وإضاءات

النسوية.. كشف الأصول والمنطلقات

النسوية.. كشف الأصول والمنطلقات

إعداد زينب بُكور

إن الصّوابَ في معالجة القضايا تفكيكها بالعودة للمنطلقات والمصادر المعرفية التي تحدّد مدى صلاحية الفكرة وموافقتها لديننا الحنيفِ، فأكثرُ ما يسبب التخبط للمسلم المُعاصرِ واقعٌ جرّاء تبنّيه بعض فروع الأيديولوجيات التي توهم بتطابقها تشريعات الوحي الخالصِ. لذا الرّجوع للمنطلق الفِكري يعدّ نقطة فصل لتحديد المقاصد وراء جميع مُخرجات الأفكار المُوهِمة، ومِمّا نأخذه نموذجًا لذلك -النّسويّة- التي احتضنت قضيّة المرأة لفظًا لا معنى كما سيتم بيانه لاحقًا.

والمُتأمّل في أحوال العصرِ يظهر له جليًّا مركزيّة قضية المرأة ونفوذها في مختلف النواحي، السياسي منها والاجتماعي والاقتصادي أيضًا، وتطلّع مختلف التيّارات لتبنّيها على رأسها النسوية -كما سبق ذكره- والتي عرج بعض المسلمين إليها جهلًا بما تُعارض الإسلام فيه، أو يقينًا بذلك بُغية تأويل الإسلام بما يخفف الضغط الأيديولوجي من الثقافات الغالبة.

وما يجب إدراكه بدايةً أن التحدث عن النسوية يعني التحدث عن “أيديولوجيا” أو “نظرة شمولية” وقعها كما وقع الدين يستلزم الالتزام بفروعها والانطلاق منها كمنهج للتحليل وتحديد الرؤى فهي طريقة لرؤية العالم توفر أساسًا لفهم كل المجالات1، ولبيان ذلك سنستعرض أهم المصادر المعرفية التي تنطلق منها النسوية وتواطأت عليها أغلب تياراتها:

العَلمانية

النسوية

تُعدّ العلمانية أصلًا تنبثقُ منه العديد من النماذج والمدارس الفكرية، ويذكر جورج هوليوك في تعريف مُوجز لهَا: “لا تقبل العَلمانية سُلطانًا غير سلطان الطبيعة، ولا مناهج غير مناهج العلم والفلسفة، ولا تحترم في التطبيق قانونًا غير قانون الضمير كما تكشفه البداهة البشرية”2، مِمّا يقف موقف نقيضٍ من الإسلام ذو النظرة الشمولية غير القابلة للتجزيئ أو التبعيض، فالتصوّر النسوي يعود بشكل أو بآخر لهذا الأصل إذ يقوم أساسًا على الاكتفاء بالقوانين الوضعية وتهميش التشريعات الإلهية أو رفضها بصورة تامة أحيانًا.

ومن أسباب احتماء النسوية في كنف العلمانية -الاضطهاد الذي مارسته الكنيسة على المرأة لقرون وإخضاعها للرجل بصورة مطلقة، فتنطلق النسوية أحيانًا من تصوّرٍ أكثر وضوحًا في اعتبارها الدين منظومة ذكورية تقوم بالضرورة على تفوق الرجل وهيمنته (وقد تخص بعض تيارات النسويّة -الإسلامية منها- هذه الهيمنة الذكورية بالفقه أو التراث الإسلامي فقط) ممّا يدعو بمتتالية بديهية الاكتفاء بالوصاية الذاتية دون وصاية إلهية تنبذ الأنثى على حساب الذكر -حسب زعمهم-، والذي ينزع القداسة من الوحي مباشرة كي يضيفها لوثائق وضعية كإعلان حقوق الإنسان والسيداو.

التاريخانيّة

النسوية

إن التاريخانية باختلاف تعريفاتها لا تخفى على باحث أنها أصبحت من المناهج المعتمدة في عصرنا مُنافِسة للمنهج الطبيعي وغيره من المناهج المتصدّرة، وفي بيانٍ لحدودها “يستبعد هذا المبدأ [أي التاريخانية] مبدأين بديلين: الميتافيزيقا، والطبيعانية”3، فالتاريخانية تقوم أساسًا على إقصاء كل تفسير خارجي للأحداث التاريخية وعلى إرجاع كل المسببات لعوامل داخلية، منها ما يسميه محمد أركون بتعبيره “الفاعلين التاريخيين” وهو أمر يُطبّق على الوحي كما يُطبّق على ما ينتجه البشر ويُحدثه، وتقوم كذلك باستبعاد التفاسير المادية للأحداث أو إخضاعها للعلوم الوضعية الطبيعية.

فالبعد الغيبي من الأبعاد التي يُشكّل منافسة للتاريخانية ومحل صراع “خاضت التاريخانية معركتين متتاليتين: الأولى قبل أربعينيات القرن التاسع عشر ضد الميتافيزيقا، ثم بعد أربعينيات القرن التاسع عشر ضد الوضعية”4، وهو مذهب يُفرغ الوحي من مقصده ويسلبه صفة الصلاحية لكل زمان ومكان ويُخضع جميع الأحكام التشريعية وأحكام المرأة خاصة إلى قهر الظروف التاريخية وارتباطها بالحقبة الزمنية المعينة لا تزيد عنها، وتُشير النسويّة أسماء المرابط في تأكيد مركزية التاريخانية في الخطاب النسوي وتعزيز نسبية التشريع إلى أنّ “ليس هناك أمر نهائي أو مغلق، بل ينبغي على العكس وضع الأمور في سياقاتها مع استحضارنا للمقاصد الكُبرى للرسالة الروحية” 5.

الجندر

لقد أصبح “الجندر” من المفاهيم التي تشكّل موضوعًا أساسًا للنسوية تدور عليهِ مدار الرّحى، والمفهوم يقوم على الفصل بين النوع والجنس والتأكيد على انفكاكهما وعدم تلازمهما، فالتمييز الجندري يعود إلى الصناعة الثقافية لا إلى التركيب البيولوجي فما يُحدّد نوع الشخص هو اختياره الذاتي إذ لا يتدخل في ذلك أي عامل اجتماعي ثقافي أو طبيعي، “فإن الفُروق بين الرجل والمرأة لم يكن لها علاقة بطبيعةٍ “مُعطاةٍ مبدَئيًّا”، ولم تكن سوى بنيَاتٍ ثقافية صِرفة “جاهزة”، تتطابق مع الأدوار والقوالب النمطيّة التي نُسنِدُها للجنسين في كل مجتمعٍ، أدوار مبنيّة مُجتمعيًّا”6.

ولعلّ أول من أطلقَ الشرارة لولادة هذا المفهوم هي مُنظرة النسوية سيمون دو بوفوار في عبارتها “نحنُ لا نولد نساءً، بل نصير كذلك” فقد أصبح المفهوم بعد تطويره -والذي ساهم في ذلك العديد نذكر منهم جوديث بتلر على سبيل المثال- أداةً للتفكيك ومنهجًا للتحليل يُعتدّ به عند أغلب تيارات النسوية لقلبِ موازين المجتمع وخلخلتها طمعًا في المساواة المنشودة وتحييد الجنس، تقول النسوية الإسلامية أميمة أبو بكر في نقدها للتقسيم “النمطي”:

“إن هذا الاتجاه في التفكير يتبع منطقًا غير سليم فيقوم على اعتبار الاختلافات البيولوجية البحتة أساسًا لتقسيم الطبيعة البشرية إلى طبيعة أنثوية وأخرى ذكورية، وأن كل طبيعة تختص بصفات محددة في التفكير، وأن كل طبيعة تختص بصفات محددة كما يعتقد أن تقسيم الصفات الإنسانية بهذه الطريقة هو تقسيم فطري طبيعي يتفق وفطرة كل فئة، أي يتم سحب الاختلافات البيولوجية على اختلافات نفسية وعلى تفاوت في القدرات والمهارات الشخصية.

والنتيجة الثانية هي ربط هذا التقسيم في القدرات والمهارات بالتقسيم الاجتماعي إلى أدوار ووظائف (أي توزيع أدوار ومجالي العام والخاص) واعتبارها وظائف طبيعية، وهذا بالتالي يؤدي إلى تبرير هيمنة وتحكم فئة على فئة بدعوى أن فئة ما تفوق الأخرى في إعمال العقل وضبط النفس والتحكم في المشاعر، فهي جديرة بإمساك مقاليد الأمور والسيطرة والسلطة”.7

فخُلاصة الجندر أن رفضه للطبيعة وتطلّعه للجنس المحايد يجعل النسويّة التي تحتضنه تنسف ذاتها وتدعس على بقايا وجود المرأة التي تحتمي فيها وتدافع باسمها، إذ لا وجود للمرأة ابتداءً كي نُدافع عن حقوقها إنما الدفاع هُنا عن إعدام وجودها.

المساواة المطلقة

النسوية

تنطلق النسوية من مبدأ المساواة التامة بين الجنسين وكون اضطهاد المرأة بأشكاله العديدة يكمن في عدم تحقيق هذه المساواة التي سعت لتفسير انعدامها من خلال فرضيات ونظريات مختلفة وعديدة، والمتأمل في تاريخ الفكر الغربي يلحظ أن مطالب المساواة الأولى كانت تقتصر على الرجل فقط دون المرأة كما نظّر لها جون جاك روسو وغيره من المعاصرين له، وقد ظل الأمر كذلك حتى قام ستيوارت مل بضمّ النساء لخطاب المساواة وساهم في تحقيق العديد من مطالب النساء آنذاك جراء تنظيره.

وتبني النسوية هذا المبدأ جعلها ترفض جميع صور التكامل والاختلاف بين الجنسين وعدتها نوعًا من الانتقاص من المرأة وإقرارًا بدونيتها، وبحثًا عن التفاسير والمسببات لذلك عرجت إلى فرضية الصراع الأمومي الباطرياركي:

الأمومية والباطرياركية من المفاهيم الأكثر تداولًا داخل الحقل النسوي إذ شكّلت تفسيرات تُعدّ أساسًا بنت عليه النسوية مَتنها لإثبات ما يُمارس على المرأة من ظلم جراء عدم المساواة بين الجنسين، فالأمومية هي المجتمعات التي تهمين فيها الأنثى والباطرياركية خلاف ذلك، والنسويّة تفترض أن الواقع الباطرياركي الحالي واقعٌ نتيجة لهزيمة النساء في معركة ما قبل التاريخ ممّا منح السّلطة للرجال وأباح لهم استغلال النساء والهيمنة عليهن.

تذهب بعض التواريخ الأيديولوجية المتمركزة حول الأنثى إلى هيمنة الذكر على الأنثى تمت إثر معركة أو مجموعة من المعاركِ حدثت في عصور مُوغِلة في القدم حينما كانت المجتمعات كلها مجتمعات تُسيطر عليها الإناث والأمهات8.

وقد فسرت النسوية الواقع على أساس هذا الافتراض وجعلت جلّ الحلول كامنة في إعادة الاعتبار للنساء -بإعادة صياغة العقل اللغوي وتأنيث مفرداته وتحييدها على سبيل المثال- كما كان الحال في حقبة ما قبل التاريخ التي سادته مظاهر الأنوثة من تسامح ونعومة ورقة، وهو عكس ما يمثله المجتمع الباطرياركي من خشونة وقسوة وحروب الذي يحلّ فيه العضو الذكري مركزًا بدل العقل المحايد أو الأنثوي.

إن هذه الفرضية أشبه ما تكون بأسطورة أو فيلم فانتازيا لا تدليل عليها من عقل ومنطق، وهو ما يجعل النسوية تُعلن إفلاسها المعرفي وتكشف نزوعها لمبدأ الصراع بين الجنسين عِوض التكامل والتراحم، وهي صورة أصيلة في الفكر الفلسفي الغربي الذي يُفسّر العلاقات من هذا المُنطلق العِراكيّ، يقول المربي النورسي رحمه الله في بيان هذا الصراع:

أوغلت الفلسفة في ضلالها حتّى اتخذت دستور [الصِّراع] هذا حاكمًا مهيمنًا على الموجوداتِ كافةً فقررت ببلاهةٍ متناهيةٍ أنّ الحياة صراع وجدال.9

الختام

إن جميع هذه المنطلقات لا تمثل إلاّ جزءًا بسيطًا من مجموع ما بُنيت عليه النسوية كونها وليدة للسياق الفكري الحداثي وما بعد الحداثي عامةً، والمقصد من عرضها في هذا المقال توضيح الفروق الجوهرية بين المصادر المعرفية للنسوية ومصادر الإسلام الذي تُبنى جميع فروعه على الوحيين -القرآن والسنة النبوية- دون أدنى قابلية للتجزيء أو الانتقاء منه بما يناسب المزاج الأيديولوجي الراهن نظرًا لشمولية هذا الدّين.

فواجب المسلم تجاه ما تشابه عليه من فروع أن يتحرى الأصل لبيان ما يعارض دينه وأن يسعى لحلول يضمها الوحي أو تُستمد منه بما لا يخرج عن حدوده، وكذلك الأمر في السعي لبديل عن النسوية يرفع عن المرأة ما تعيشه من مظالم، فتطبيق شرع الله وأحكامه أحوج بنا من استيراد حلول نسبية فارغة الدلالة محمّلة بنواقض الإسلام تزيد الظلم حدة في جُلّ الحالات، وإن الأمر لأشبه بالعَمى تقديم زخرف الأفكار على هدي لا يزيغ من اعتصم به.

(المصدر: موقع تبيان)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى