مقالاتمقالات مختارة

النسق الحضاري في علاقة الحاكم بالمحكوم.. نماذج من سيرة الخلفاء الراشدين

النسق الحضاري في علاقة الحاكم بالمحكوم.. نماذج من سيرة الخلفاء الراشدين

بقلم عزة مختار

تتلاحق أزمات الأمة كالبحر المائج في ظلمات بعضها فوق بعض، وتتعدد أمراضها، وتتشعب الأعراض، وتتداخل حتى صعبت على التشخيص الحقيقي للداء الأساسي الذي انهار بها في قاع الأمم، فصارت عالة على العالم من حولها، وتخرج من قلب تلك الظلمات صيحات، كل منها يدعي أنه يملك الحل، بشعارات جاذبة برّاقة، ومشاريع نظرية غير قابلة للتطبيق في معظمها، منهم من يشرق ومنهم من يغرب، ومنهم من يحمل مشعل يحسب أنه يختصر به الدين بين يديه، وكل من هو دونه خارج عن الملة، وبين كل هؤلاء تقف الشعوب حائرة لا تدري أي وجهة تتبع، وحين أفلست كل النظم الموضوعة في الخلاص من مأزق الفساد الحاكم والجاثم على صدور المسلمين إلا القليل منهم، كان لا بد من البحث عن مخرج يتوافق مع هوية الأمة، وروحها، وتاريخها، وحضارتها التي جعلتها ولفترة طويلة تملك ريادة العالم واحترامه.

ومع تلك الحقيقة التي أجبرت المفكرين على التماس الحلول لدى الإسلام كدين شامل يضمن بين تشريعه عوامل سعادة الإنسان في الدارين، يقفون كذلك حائرين أي إسلام يقصدون ؟ وأي طريق ينهجون؟ وأي نسق يتبعون؟

-النسق الحضاري الإسلامي الأساس:

هل يستطيع أحد أن يدّعي أن فترة زمنية ما في فترات الخلافة الإسلامية ويقول أن تلك الفترة دون غيرها هي ما تمثل الإسلام؟

وجواب هذا السؤال نستقيه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم عن نظام الحكم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضّاً فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت) (رواه أحمد وغيره).

فالنسق الحضاري الإسلامي الوحيد هو تلك الفترة من النبوة التي حكم فيها المدينة المنورة، ثم فترة الثلاثين التالية من النبوة وهي حكم الخلفاء الراشدين، والتي تنتهي بموقعة “صفين”، تلك المعركة الفاصلة بين نوعين من الحكم، أستطيع أن أطلق على الأول منهما حكم الإسلام المنشود، والثاني اجتهاد بشري مستمد من فهم الدين بصورة جزئية.

والمفهوم الذي سأعرض له في تلك المساحة هو: ماهية العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الإسلام، ما هو إطار تلك العلاقة؟ ما هي ضوابطها وحدودها؟

-الأطر المحددة للمعاملات الإسلامية:

وضع الله عز وجل أمراً عاماً للمعاملات، أساسه العدل، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل،آية:90]، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء، آية:58].

وفي حديث موجه للنبي يقول عز وجل: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ}[الشورى، آية:15].

وعن الحاكم يقول تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنْ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج، آية:41].

وفي المعاملات الاقتصادية يقول عز وجلّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء،آية:29].

والآيات في هذا الإطار لا تحصى، بدءاً من الحكم، ومروراً بالدين وكتابته، وأداء الشهادة، والقصاص، وانتهاء بأدق الأمور التي تحكم العلاقة بين الفرد والمجتمع، والفرد بالحاكم والعكس، والفرد بنظيره.

-الخلفاء الراشدين والتطبيق النبوي للتشريع مع الرعية:

-أبو بكر الصديق رضي الله عنه:

اعتمد أبو بكر الصديق رضي الله عنه سياسة شرعية مع الرعية تنبني على الشورى، فعن ميمون بن مهران قال: “كان أبو بكر -رضي الله عنه- إذا ورد عليه خصم نظر في كتاب الله، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به بينهم، فإن لم يجد في الكتاب، نظر: هل كانت من النبي صلى الله عليه وسلم فيه سنة؟ فإن علمها قضى بها، وإن لم يعلم خرج فسأل المسلمين فقال: “أتاني كذا وكذا، فنظرت في كتاب الله، وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم أجد في ذلك شيئاً، فهل تعلمون أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قضى في ذلك بقضاء؟ “، فربما قام إليه الرهط فقالوا: “نعم، قضى فيه بكذا وكذا”، فيأخذ بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

قال جعفر وحدثني غير ميمون أن أبا بكر رضي الله عنه كان يقول عند ذلك: “الحمد لله الذي جعل فينا من يحفظ عن نبينا صلى الله عليه وسلم”، وإن أعياه ذلك دعا رؤوس المسلمين وعلماءهم، فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على الأمر قضى به”. (رواه البيهقي (10/114))، وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في الفتح (13/342).

وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: “لَمَّا اسْتُخْلِفَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رضي الله عنه قَالَ: لَقَدْ عَلِمَ قَوْمِي أَنَّ حِرْفَتِي لَمْ تَكُنْ تَعْجِزُ عَنْ مَؤونَةِ أَهْلِي، وَشُغِلْتُ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ، فَسَيَأْكُلُ آلُ أَبِي بَكْرٍ مِنْ هَذَا الْمَالِ، وَيَحْتَرِفُ لِلْمُسْلِمِينَ فِيهِ”، (رواه البخاري (2070))، فالحاكم أجير لدى الأمة ولا يستأجرها، يعمل لديها ولا تعمل لديه، لا طاعة عليه فيما لا يرضي الله عز وجل.

-عمر بن الخطاب رضي الله عنه:

وأما عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فكان العدل سبيله ومنهجه وغايته، إذا ذكر العدل ذكر عمر، والعدل يلزمه قوة تحميه، وتقوم عليه، وقد كان رضي الله عنه يتسم بهاتين الصفتين، فكان يهابه من تسول له نفسه بالإقدام على ظلم الضعيف، ويطمئن إليه صاحب الحق.

وفي رسالة ماجستير عن أسس التشريع عند عمر بن الخطاب، يقول الباحث محمد صبحي حسين: “لقد وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه عدة أسس لبناء دولته المترامية، وسار عليها بدقة، هو وولاته الذين اختارهم لتسييس أمور الرعية في البلاد المفتوحة، ومنها:

1- الشورى.
2-المساواة.
3- العدل.
4- الشعور بالمسؤولية تجاه الأمة.
5- قبول النقد وتقديم حقوق الرعية.
6- مراعاة حقوق الأقليات.”

-عثمان بن عفان رضي الله عنه:

وأما عثمان رضي الله عنه، فقد تميزت سياسته الشرعية بالعفو، وعدم معاقبة من حاول الاعتداء عليه، فعن سليمان بن يسار: “أن رجلاً من بني تميم جلس لعثمان بن عفان رضي الله عنه بخنجر، فأخذه عثمان رضي الله عنه، فسأل عنه علياً رضي الله عنه، واستشارهم فيه، فقالوا: بئسما صنع، ولم يقتلك، ولو قتلك قتل، فأرسله عثمان رضي الله عنه”، رواه ابن شبة في تاريخ المدينة (2/245) بإسناد حسن.

ومن سياسته رضي الله عنه أن على الحاكم عزل كل من ثبت عدم صلاحيته للولاية، فقد كان أخوه لأمه “الوليد بن عقبة” أميراً على الكوفة، فعزله بسبب شربه الخمر. [رواه ابن سعد (5/23)]

-علي بن أبي طالب رضي الله عنه:

وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي عاش بين رعيته كأقل فرد فيهم، فيقول عاصم بن كليب عن أبيه: “قدم على علي مال من أصبهان، فقسمه على سبعة أسهم، فوجد فيه رغيفاً فقسمه على سبعة، ودعا أمراء الأسباع فأقرع بينهم لينظر أيهم يعطى أولاً”.

وقال هارون بن عنترة عن أبيه: “دخلت على علي بالخورنق وهو فصل شتاء، وعليه خلق قطيفة، وهو يرعد فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين إن الله قد جعل لك ولأهلك في هذا المال نصيباً، وأنت تفعل هذا بنفسك؟، فقال: والله ما أرزأكم شيئاً وما هي إلا قطيفتي التي أخرجتها من المدينة”.

والمواقف في حياة خلفاء رسول الله لا تعد ولا تحصى في الورع والتقوى، والعدل والرحمة، والقوة والثبات، وتلك هي الرعية التي انطلقت في الأرض فاتحة ترفع راية التوحيد في ربوع الأرض دون أن يمتد طرفها لمغنم دنيوي، أو يدخل حلقها شيء من حرام، ولم يمتد طرفها لما يغضب الله، تلك هي أسس بناء حضارة ما زالت شواهدها تنم عن أعظم حضارة عرفها التاريخ، وما زال الإسلام يحمل عوامل بقائه، بل وما زال العالم في أمس الحاجة لهذا الدين؛ ليخرجه من هلاك محقق، غير أن الدين في حاجة لرجال أمثال هؤلاء الذين خرجوا في فجر الرسالة؛ ليعلموا الإنسان أنه يستطيع أن يسمو بإنسانيته ليسابق الملائكة في طهرها.

فمن لهذا الدين؛ كي ينقذ البشرية من فعل الطواغيت بها؟

(المصدر: موقع بصائر)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى