النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بالغرب الإسلامي
إعداد الدكتور عبد الرزاق هرماس (جامعة ابن زهر – أكادير)
تعرض هذه الدراسة عن “النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بالغرب الإسلامي” لجهود طائفة من علماء الغرب الإسلامي المعاصرين في مجالين اثنين:
• الأول خدمة علم تفسير القرآن الكريم.
• و الثاني الاهتمام بالإصلاح الاجتماعي وربطه بهدي كتاب الله تعالى.
فخدمة التفسير تجلت في تقريب هذا العلم من طائفة من الناس الذين لا يستطيعون بحكم مؤهلاتهم التعامل مع مصنفات القدامى.
أما بالنسبة لقضية الإصلاح الاجتماعي فبحكم المهمة الدعوية التي حملها العلماء، واعتبارا لكون القرآن كتاب عقيدة وشريعة فقد تضمن هديه نظاما للحياة الإنسانية من بدايتها إلى نهايتها، وكانت مهمة مفسريه في كل عصر بيان هذا الهدي القرآني بالأسلوب الذي يفهمه الناس.
هذا وقد قسمت هذه الدراسة إلى مبحث تمهيدي خصصته للكلام عن أصالة النزعة الإصلاحية في التفسير وكيف تجددت في عصرنا الراهن، ثم انتقلت إلى مباحث الموضوع التي قسمتها كالآتي:
• المبحث الأول عن أسباب ظهور النزعة الإصلاحية في التفسير بالغرب الإسلامي.
• المبحث الثاني عن اتجاهات هذه النزعة.
• المبحث الثالث عن ألوان التفسير الإصلاحي بالغرب الإسلامي.
• المبحث الرابع عن خصائص النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بالغرب الإسلامي.
مبحث تمهيدي :
قبل الكلام عن موضوع: ” النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بالغرب الإسلامي”، أود التأكيد لأمرين يتصلان بهذا الموضوع وهما من الأسباب التي دعتني للكتابة فيه:
الأول: كون النزعة الإصلاحية في التفسير ليست وليدة العصر.
الثاني: أن البيئة التي ظهرت فيها هذه النزعة مجددا ليست هي أرض الكنانة فقط وسأعرض لهاتين النقطتين في الفقرات اللاحقة بعده.
المطلب الأول : أصالة النزعة الإصلاحية في تفسير القرآن.
إن الذي يتفحص تاريخ التفسير ويبحث في مختلف الأطوار التي مر بها سيقف على أن هذا العلم شهد دعوات عدة للإصلاح والتجديد تبعا لحاجات الأمة في شتى العصور، وكان وراء تلك الدعوات دائما:
• إما مواجهة الابتداع في علم التفسير.
• أو تقريب هذا العلم من طالبيه بعد أن أصبح صعب المنال.
ودون الحاجة إلى تقص في هذا الجانب الذي قد يستغرق أبحاثا عديدة، أقف على نماذج لهذه الدعوات على سبيل المثال لا الحصر.
فخلال النصف الأول من القرن الثالث للهجرة لما طغت نحلة نفاة القدر وتكلفوا وتمحلوا في حمل تفسير القرآن على مذاهبهم، واجه بدعتهم أبو محمد بن قتيبة (ت276هـ) ومما قاله عنهم في “تأويل مختلف الحديث”: “وفسروا القرآن بأعجب تفسير يريدون أن يردوه إلى مذاهبهم ويحملوا التأويل على نحلهم”.. إلى أن قال: “و لم يكن قصدي في هذا الكتاب الإخبار عن هذه الحروف وأشباهها وإنما القصد به الإخبار عن جهلهم وجرأتهم على الله تعالى بصرف الكتاب إلى ما يستحسنون وحمل التأويل على ما ينتحلون…”.
بعد ابن قتيبة جاء عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي (ت327 هـ) في زمن بلغ فيه التصنيف أوجه واتجه الناس إلى جمع كل الأخبار مهما كانت درجة صحتها حتى ذكروا في تفسير الآية الواحدة أخبارا متضاربة نتيجة التساهل في تخريج الآثار الواهية، فلما وضع كتابه “تفسير القرآن العظيم مسندا عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين” أشار في مقدمته إلى ما كانت عليه التفاسير التي بأيدي الناس وإلى حاجتهم إلى مصنف مهذب، فقال: “…سألني جماعة من إخواني إخراج تفسير القرآن مختصرا بأصح الأسانيد وحذف الطرق والشواهد والحروف والروايات… وأن نقصد لإخراج التفسير دون غيره… فتحريت إخراج ذلك بأصح الأخبار إسنادا وأشبعها متنا فإذا وجدت التفسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم أذكر معه أحدا من الصحابة ممن أتى بمثل ذلك، وإذا وجدته عن الصحابة فإن كانوا متفقين ذكرته من أعلاهم درجة بأصح الإسناد وسميت مخالفيهم بحذف الإسناد وإن كانوا مختلفين ذكرت اختلافهم وذكرت لكل واحد منهم إسنادا…”.
بعد قرنين تقريبا نجد الإمام البغوي (ت516 هـ) حين صنف “معالم التنزيل” ذكر في أسباب التأليف حال معاصريه وحاجتهم لمن يجدد علما طال به العهد، فقال: “… واقتداء بالماضين من السلف في تدوين العلم وإبقاء على الخلف، وليس على ما فعلوه مزيد ولكن لا بد في كل زمان من تجديد ما طال به العهد وقصر للطالبين فيه الجد والجهد تنبيها للمتوقفين وتحريضا للمتثبطين…”.
والأمثلة كثيرة وهي تفيد في مجملها على أن نزعة الإصلاح أو التجديد في تفسير القرآن قديمة قدم التفسير، وليس من العلم ما درجت عليه عدد من الكتابات والتآليف التي ربطتها بكتابات وبفكر محمد عبده (ت1323هـ) وتلامذته من بعده.
المطلب الثاني: تجدد النزعة الإصلاحية في العصر الراهن.
كان من أثر الكبوة التي عانى منها علم التفسير منذ القرن العاشر… أن أصبح “تفسير الجلالين” عمدة أكثر طالبي هذا العلم، ولم يتزحزح هذا الكتاب المختصر الحافل بالموضوعات عن “مكانته” حتى بعد ظهور تآليف أفضل وأوسع منه مثل “فتح القدير” للشوكاني (ت1250هـ)…
وعندما استهل القرن الرابع عشر للهجرة وجدت بين أيدي المشتغلين بالتفسير طائفة من التفاسير الحديثة المؤلفة بأسلوب يقرب معاني القرآن من طالبيها، ولم تقتصر حركة التأليف هذه على بلد دون آخر في العالم الإسلامي بل ساهم فيها مسلمو المشرق والمغرب عربا كانوا أو عجما.
ولأسباب يطول الكلام في شرحها لم يشتهر من هذه التآليف إلا تراث ثلة من المشارقة الذين جمعتهم الأقدار في أرض الكنانة، واصطلح عليهم في الكتابات المعاصرة بمدرسة المنار، وكلما أتى ذكر “النزعة الإصلاحية في التفسير” إلا وانصرف ذهن السامع إلى تراث هذه المدرسة.
على أن الدراسة العلمية المتأنية توصلنا إلى أن النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير لا تمثل مدرسة المنار إلا جانبا منها، ولعل شهرة رجال هذه المدرسة إنما ترجع إلى عاملين أساسيين:
الأول: ازدهار الطباعة في مصر حتى كان عند الشيخ محمد رشيد رضا (ت1354هـ) مطبعة خاصة.
الثاني: تأثير الفكر القومي في مصر على مختلف مجالات الدراسات الجامعية هناك بما روج لدعوى كون القاهرة هي قلعة العلوم العربية.
فقبل أن يعرف الناس مدرسة المنار وقبل أن يشتهر أعلامها ألف محمد صديق القنوجي المتوفى في بهوبال بالهند عام 1307 هـ تفسيرين كاملين للقرآن بأسلوب مساير للعصر هما:
• “فتح البيان في مقاصد القرآن” في عشرة مجلدات.
• و “نيل المرام في تفسير آيات الأحكام” في جزء متوسط.
لكن الكتابين لم يكتب لهما الذيوع والانتشار خارج الهند إلا بعد وفاة المؤلف بسنوات كثيرة وبعد طباعتهما في القاهرة.
وإذا كان هذا هو حظ القنوجي من شرق العالم الإسلامي فإن حظ معاصريه من المؤلفين في التفسير بأقصى الغرب الإسلامي كان أقل.
فعلى سبيل المثال لم يكتب لتفسير محمد بن محمد سالم المجلسي (ت1302هـ) الموسوم بـ “الريان في تفسير القرآن” أن يطبع حتى بعد مرور قرن على وفاته بالصحراء المغربية والمصير نفسه لحق تفسير علي بن سليمان الدمناتي (ت1306هـ) الموسوم بـ “تيسير الفرقان في تفسير القرآن”.
وقد برز تأثير ذلك كله في عدد من الدراسات الجامعية ليس في المشرق بل حتى المغرب بعد أن أصبح الباحثون يعرفون عن “مدرسة المنار” المنسوبة إلى محمد عبده وتلاميذه و”مدرسة الأمناء” المنسوبة لأمين الخولي (ت1386هـ) وتلاميذه ما لا يعرفونه عن مفسري الغرب الإسلامي… لذلك لا غرابة في أن تلتصق النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بهؤلاء ويظل معاصروهم المغاربة مجهولين.
المبحث الأول: أسباب ظهور الاتجاه الإصلاحي في التفسير بالغرب الإسلامي.
أجد من الأنسب الإشارة إلى أن إسهامات المغاربة في التفسير مختلفة منها تفاسير كاملة وأخرى جزئية، كما أن منها المطبوع والمخطوط. وبالرجوع إلى مقدمات عدد من الإسهامات نجد أن الأسباب التي حفزت عددا من علماء الغرب الإسلامي المعاصرين لوضع مؤلفات تقرب هذا العلم من طالبيه الذين يصعب عليهم الرجوع إلى مصنفات القدامى هي:
• رفضهم لظاهرة الجمود على كتب المختصرات والحواشي المتأخرة.
• تضايقهم من نقل ورواية وسماع الآثار الواهية والموضوعة.
• رغبتهم في وصل ما انقطع من الصلة بأمهات كتب العلم.
• حرصهم على ربط الإصلاح الاجتماعي بهدي القرآن.
السبب الأول: رفض الجمود على المختصرات والحواشي
تجلت ظاهرة الجمود هذه في وقوف كثير من المشتغلين بالتفسير في الغرب الإسلامي عند المؤلفات المختصرة التي زهدتهم في طلب الأمهات والمصادر، وقد استمرت هذه الظاهرة حتى سلخ مطلع القرن الرابع عشر… وآفة الكتب المختصرة في التفسير تعود لكون مصنفيها لا يهتمون بضبط الآثار أو غزوها إلى أصولها كما أنهم لا يحررون مسائل التفسير وموضوعاته…
و من تراث المتأخرين الذي جمد عليه طلبة التفسير وطائفة من علمائه بالغرب الإسلامي حتى مطلع القرن الماضي تفسير الجلالين وتفسير أنوار التنزيل بحواشيهما.
أما الأول فقد ظل طيلة قرون أكثر الكتب تداولا، وعندما توالت طبعاته حظي بمزيد عناية في المشرق والمغرب لكونه كان كتابا مدرسيا، وخزائن الغرب الإسلامي حافلة بالكثير من المخطوطات المتصلة بشرحه ووضع الحواشي عليه وأشهر ما ألف حوله مما تداوله المغاربة:
• “قبس النيرين في تفسير الجلالين” لبدر الدين المنشاوي العلقمي (ت963هـ).
• “مجمع البحرين ومطلع البدرين على تفسير الجلالين” لأبي عبد الله محمد الكرخي (ت1006هـ).
• “حاشية على تفسير الجلالين” لعبد الرحمن بن محمد الفاسي القصري (ت1036هـ).
• الكوكبين النيرين في حل ألفاظ الجلالين” لعطية الأجهوري (ت1190هـ).
• “الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين” لسليمان بن عمر العجيلي الجمل (ت1204هـ).
و غير هذه الحواشي كثير يمكن الوقوف عليها في فهارس خزائن المخطوطات بالغرب الإسلامي مما يدل على اتساع تداول هذه الشروح والطرر، وبلغ الأمر أن وجدنا بعض كتب إعراب القرآن تستقي مادتها اللغوية من “الجلالين” مع أنه لا يعتبر مصدرا أو موردا أو مرجعا في لغة القرآن الكريم.
بعد “تفسير الجلالين” يأتي في الدرجة الثانية كتاب “أنوار التنزيل وأسرار التأويل” لعبد الله بن عمر البيضاوي (ت685هـ) وهو مؤلف متأخر مختصر أيضا، ومن حواشيه التي ظلت متداولة كما تدل على ذلك فهارس خزائن المخطوطات المغربية:
• “فتح الجليل ببيان خفي أنوار التنزيل” لأبي يحيى زكريا الأنصاري (ت926هـ).
• “حاشية على أنوار التنزيل” لسعدي جلبي (ت945هـ).
• “عناية القاضي وكفاية الراضي” لشهاب الدين الخفاجي (ت1069 هـ)…
و إذا كانت هذه الحواشي والمختصرات هي عمدة شيوخ وطلبة التفسير بالغرب الإسلامي منذ القرن العاشر حتى استهل القرن الرابع عشر، فإن أعلام الاتجاه الإصلاحي في التفسير بالغرب الإسلامي الذين جاؤوا بعد ذلك لم يجمدوا على هذا التراث كما تدل على ذلك مختلف إسهاماتهم بين أيدينا.
السبب الثاني: الرغبة في ربط الصلة بأمهات التفاسير.
أدى الاعتكاف على الكتب المختصرة والحواشي في التفسير خلال أربعة قرون تقريبا إلى انقطاع صلة علم التفسير بالكتب المبسوطة، بل حتى بالمصنفات التي ألفها أهل المغرب بخاصة على عهد ملوك الطوائف بالأندلس وعهد المرابطين ثم الموحدين من بعدهم.
و لما ركن المشتغلون بالتفسير إلى المختصرات خلال فترة الركود، كان أقصى ما يمكن أن يتطلع إليه المتخصص هو تحرير حاشية تضاف إلى بقية الحواشي السابقة ولا تكاد تختلف عنها، فانقطع تبعا لذلك الابتكار والإبداع الذي عرفه علم التفسير بالغرب الإسلامي في حقبه الذهبية مثل القرن السادس للهجرة.
و لهذا السبب حرص أعلام الاتجاه الإصلاحي في التفسير على تجديد الصلة أولا بالتراث المغربي من ثم كان عمدتهم في التأليف:
• “أحكام القرآن” لابن العربي المعافري (ت543هـ).
• “المحرر الوجيز” لابن عطية الأندلسي (ت546هـ).
• “الجامع لأحكام القرآن” لأبي عبد الله القرطبي (ت671هـ).
• “التسهيل لعلوم التنزيل” لابن جزي الغرناطي (ت741هـ).
هذا إضافة إلى عدد من التفاسير المشرقية المشهورة مثل:
• “جامع البيان” لابن جرير الطبري (ت310هـ).
• “النكت” للماوردي (ت450هـ).
• “مفاتيح الغيب” لفخر الدين الرازي (ت606هـ).
• “تفسير القرآن العظيم” لابن كثير (ت774هـ).
و كان مما ساهم في ربط الصلة بهذه المصنفات انتشار الطباعة بما وفر مختلف الكتب بأيسر التكاليف، وقد ظهرت الحاجة الشديدة لطبع أمهات الكتب مع دخول آلات الطباعة التي تشتغل عن طريق تصفيف الحروف المعدنية إلى مصر حيث وجدنا ملوك المغرب مثلا يوفدون ممثليهم لطبع الكتب التي تدعو إليها الحاجة العلمية.
و في مستهل الربع الثاني من القرن الهجري الماضي ساهمت سفارات الطباعة مع وفود الحجيج في ربط صلة أهل العلم في الغرب الإسلامي بأمهات الكتب المطبوعة بالمشرق علما بأنه خلال هذه الفترة كانت المطبعة الحجرية بفاس تعيش خريف عمرها في حين كان عدد من مستشرقي فرنسا بالجزائر يطبعون عددا من كتب التراث الإسلامي في باريس قبل أن ينقلوا المطبعة إلى مدينة الجزائر.
السبب الثالث: الحرص على إسقاط الروايات الواهية.
كان من نتائج الاعتماد على “تفسير الجلالين” خلال قرون الركود أن شاعت في تفسير القرآن الآثار الموضوعة وطائفة من أخبار بني إسرائيل التي أصبحت تساق على أنها من التفسير المنقول للاعتبار الذي أشار إليه ابن الجوزي (ت597هـ) في كتاب “القصاص والمذكرون”، وتكلم عنه ابن خلدون (ت808هـ) في المقدمة…
و لما كان ظهور الاتجاه الإصلاحي في التفسير مواكبا لتطور علمي غير مسبوق في مجال الاكتشافات العلمية فقد ساهم ذلك التطور في إيجاد عقلية ترفض تلك الروايات الواهية التي ترجع إلى الموضوعات والإسرائيليات.
ثم كان أعلام مفسري الاتجاه الإصلاحي قليلي الاسترسال في تفسير الآيات التي لا تعلق لها بأحكام التكليف في العبادات والمعاملات والآداب..
و اعتبارا للسببين السالفين كان تفسيرهم الإصلاحي لا يعرض لشيء من الموضوعات والإسرائيليات التي غزت بعض كتب التفسير بالمأثور، ويمكن إجمال منهج الإصلاحيين في التعامل مع بدع التفسير بالمنقول في أمرين:
أولا: عدم التعرض إطلاقا لهذه الروايات لما فيها من تشويش على عامة الناس وشغل لهم بما لا يفيدهم.
ثانيا: الكلام في المتداول من هذه الأخبار مما تواتر في الثقافة الشعبية وذلك ببيان تهافتها وزيفها.
السبب الرابع: ربط التفسير بالدعوة إلى الإصلاح.
ويعني ذلك بالنسبة لدعاة النزعة الإصلاحية المعاصرة أن الغرض الأول من التفسير هو تجديد علاقة المسلم بالقرآن، فهذا القرآن ليس تراثا أو جزءا من التراث لكنه كتاب وحي جاء لهداية الناس وبيان طريق الرشاد لهم.
وإذا كانت كتب التفسير القديمة التي ليس في وسع غير المختص التعامل معها قد جعلت علاقة المسلمين بهدي القرآن تنقطع بسبب سوء فهم ناتج عن ضعف في المؤهلات العلمية، فإن إسهامات دعاة النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير تركز على غايات ثلاث:
الأولى: أن الغرض من علم التفسير ليس تثقيف المسلم بعلوم الحديث واللغة والبلاغة والفقه المقارن وقصص السابقين…
الثانية: أن مقصد النزعة الإصلاحية هو تحويل الآية إلى واقع عملي بالنسبة لعامة الناس.
الثالثة: أن التفسير يجب أن يستفاد منه في إحداث تغيير اجتماعي ينطلق من هدي القرآن وينعكس أثره في حياة الفرد والجماعة والأمة.
اعتبارا لذلك فإن المراد بربط تفسير القرآن بالدعوة إلى الإصلاح يعني أولا تصحيح العلاقة بين المسلم وبين القرآن الكريم باعتباره كتاب عقيدة وكتاب سلوك، إذ بحكم تحجر هذه العلاقة سابقا انقطعت تلك الصلة التي جعلت سلف الأمة يتخذون القرآن مصدرا للتلقي في كل ما يعرض لهم، وكان المطلوب مع ظهور النزعة الإصلاحية المعاصرة هو: كيف يستعيد القرآن ريادته في حياة المسلمين؟ وكيف يجدد هؤلاء علاقتهم به بعد طول انقطاع كان وراءه الركود العلمي؟
وتجديد هذه العلاقة يقوم على أساس تسهيل الوصول إلى فهم الآيات سواء تعلق الأمر بآيات الأحكام أو الآداب أو القصص أو غيرها…
المبحث الثاني: اتجاهات النزعة الإصلاحية المعاصرة بالغرب الإسلامي.
إن الدارس للتراث التفسيري الذي يمكن تصنيفه ضمن النزعة الإصلاحية المعاصرة بالغرب الإسلامي لا بد أن يلاحظ أن أكثر إسهامات المغاربة ظلت مخطوطة ومع توالي الأعوام بعد وفاة أصحابها تفرقت أجزاء هذه المخطوطات بين الخزانات الخاصة والعامة ومنها ما تعرض للضياع.
على أنه بالنظر لما بين أيدينا اليوم يظهر أن هذه النزعة الإصلاحية في التفسير سارت في اتجاهين:
• الأول حاول تقليد الشرقيين فيما نحوه.
• والثاني شق لنفسه طريقا مستقلا لم يتأثر بما ظهر في مصر على الخصوص من ألوان التفسير.
المطلب الأول: منحى تقليد الشرقيين.
خلال الربع الثاني من القرن الهجري الماضي تداول المغاربة كتاب طنطاوي جوهري، تـ 1358 هـ “الجواهر في تفسير القرآن”، إذ في الوقت الذي أغلقت فيه آنئذ حدود الجزيرة العربية شرقا على هذا الكتاب بسبب مضمونه، صادف رواجا بالغرب الإسلامي وفي المغرب الأقصى أثار “الجواهر” اهتمام القراء قبل وفاة صاحبه بأكثر من عقد من الزمان، بل دفع انتشاره عددا من المغاربة إلى التأليف على منواله، كما نصادف ذلك في محفوظات خزانات الكتب والمخطوطات حيث كثر آنئذ التأليف في التفسير العلمي لبعض آيات القرآن لكن أشهر من تأثر به هو أحمد بن محمد الرهوني التطواني توفي 1373 هـ في تفسيره المحفوظ بالخزانة العامة وعنوانه “تنبيه الأنام على ما في كتاب الله من المواعظ والأحكام”.
وخلال نفس الفترة ظهر أيضا تأثير “مدرسة المنار” بالغرب الإسلامي لكن “تفسير القرآن الحكيم” الذي انطلق فيه رشيد رضا من دروس محمد عبده في الأزهر لم يصادف نفس الرواج الذي حظي به سابقه وربما يرجع ذلك إلى جدة التفسير العلمي في عصر طنطاوي ولكون محمد رشيد رضا عندما توفي 1353 هـ لم يكن قد أتم الكتاب.
ومن مفسري الغرب الإسلامي الذين تأثروا بمدرسة المنار عبد الحميد بن باديس الصنهاجي (ت1359هـ). فقد سار في أثر خطوات رشيد رضا فكانت لديه مجلة الشهاب بالجزائر حيث خصص جانبا منها لدروسه في التفسير التي كان يسميها “مجالس التذكير” وبعد وفاته نشر القسم الذي جمع من هذه الدروس ضمن كتاب “مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير”.
أما بالمغرب الأقصى فإن أشهر من تتلمذ على فكر وتراث مدرسة المنار في التفسير هو أبو بكر بن الطاهر زنيبر السلاوي (ت1376هـ) في تفسيره “إرشاد الله للمسلم الغافل اللاه” وكان من عادة المؤلف أنه يعد مسودة للأجزاء القرآنية التي يفسرها.. وعند وفاته كان قد حرر تفسير ثلاثين حزبا الأولى ووضع مسودة لتفسير الربع الثالث من القرآن… وكتابه لا يزال مخطوطا تحتفظ به أسرته.
المطلب الثاني: المنحى المستقل عن الشرق.
هذا المنحى هو الذي يظهر إبداع المغاربة وخصائص ومميزات تفسيرهم الإصلاحي، إذ كما وجد من تأثر بأوائل ما طبع من تفاسير شرقية معاصرة، وجد أيضا بالغرب الإسلامي من نظر نظرات نقدية في تفاسير المشارقة ويأتي هنا نموذج الشيخ المحدث عبد الله بن الصديق (ت1413هـ)؛ إذ عند رحلته إلى مصر عام 1349هـ لتحضير العالمية الأزهرية، كان له احتكاك بعدد من علماء أرض الكنانة ومؤلفيها، وحين ألف كتاب بدع التفاسير عام 1380هـ تعرض فيه لتفسير “محاسن التأويل” حيث كان مؤلفه الشامي قد خلفه عند وفاته غير محرر فتولى المهمة محمد فؤاد عد الباقي (ت1386هـ) كما تعرض الشيخ ابن الصديق لتفسير طنطاوي جوهري مبينا قيمته وجملة من المؤاخذات عليه.
ولكون أكثر تفاسير المغاربة في العصر الراهن لا زالت مخطوطة بعضها في الخزانة العامة وأكثرها تحت تصرف ورثة مؤلفيها مما يتعذر معه الوقوف عليها تفصيلا فإن هذه الدراسة ستقف عند أشهر التفاسير المطبوعة التي جسدت هذا المنحي المستقل.
يأتي في مقدمة ذلك “التحرير والتنوير” لمحمد الطاهر بن عاشور (ت1393هـ)، فقد كان ابن عاشور مع الشيخ محمد النخلي القيرواني أستاذين في جامع الزيتونة خلال الربع الثاني من القرن الهجري الماضي وكان الشيخ النخلي يدرس التفسير في حين اشتغل الشيخ ابن عاشور آنئذ بتدريس الأدب ليلتحق بعد ذلك بسلك القضاء عام 1331 هـ ومنه إلى الإفتاء عام 1341 هـ وحين أسندت إليه هذه المهمة تفرغ لكتابة التفسير، وقد وصف صنيعه فيه بقوله: “… فجعلت حقا علي أن أبدي في تفسير القرآن نكتا لم أر من سبقني إليها، وأن أقف موقف الحكم بين طوائف المفسرين تارة لها وآونة عليها، فإن الاقتصار على الحديث المعاد تعطيل لفيض القرآن الذي ما له من نفاد. ولقد رأيت الناس حول كلام الأقدمين أحد رجلين: رجل معتكف فيما شاده الأقدمون وآخر آخذ بمعوله في هدم ما مضت عليه القرون، وفي كلتا الحالتين ضر كثير، وهناك حالة أخرى ينجبر بها الجناح الكسير وهي أن نعمد إلى ما شاده الأقدمون فنهذبه ونزيده وحاشا أن ننقضه أو نبيده”.
وإذا كانت الغاية التي انتهى إلى تقريرها الشيخ ابن عاشور في كلامه هي اتجاهه إلى تهذيب التراث القديم والزيادة فيه بالشروط التي حددها سابقا، فإنه مما يظهر استقلاليته عن المشارقة أنه حفظ لمتقدمي المفسرين حرمتهم وبين وجه التعامل المنصف مع كتبهم ولم ينسق مع الدعوة التي أطلقها محمد عبده ومدرسته حين اعتبر التفسير الذي يهتم بالألفاظ وإعراب الجمل وبيان ما ترمي إليه تلك العبارات جاف مبعد عن الله وكتابه، بل وصل الأمر بمؤسسي مدرسة المنار أن اعتبروا أحاديث الآحاد تكون حجة عند من ثيتت عنده واطمأن قلبه بها ولا تكون حجة على غيره.
وهذه الخصلة التي نجدها عند ابن عاشور توجد أيضا عند الأستاذ عبد الله كنون (ت1409هـ) والشيخ محمد المكي الناصري (ت1414هـ) وعند غيرهم من مفسري الغرب الإسلامي الذين لم تدفعهم نزعتهم الإصلاحية إلى النيل من أحد أسلافهم من متقدمي مفسري القرآن فضلا عن أن تدفعهم إلى التبرم بمصادر التفسير في السنة!!.
ولا يقتصر مظهر استقلالية مفسري الغرب الإسلامي على حفظ حرمة السابقين بل تبرز كذلك فيما يتعلق بالموارد التي اعتمدوا عليها، فعوض الاعتكاف على المصنفات المشرقية القديمة وجدنا التفاسير المغربية المعاصرة تهتم بالتراث التفسيري الذي أنتجه علماء الغرب الإسلامي بخاصة في الأندلس وهو ما لا نكاد نجد له أثرا عند دعاة النزعة الإصلاحية بالشرق، وسيأتي الكلام من جوانب من هذا المطلب ضمن مبحث خصائص النزعة الإصلاحية لاحقا.
المبحث الثالث: ألوان التفسير الإصلاحي بالغرب الإسلامي.
إذا كانت غاية دعاة النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بالغرب الإسلامي هي تقريب هذا العلم من طالبيه ممن يصعب عليهم التعامل مع أمهات الكتب فإنه لأجل الكلام عن ألوان التفسير الإصلاحي بالغرب الإسلامي…، وبعد تقليب النظر في عدد من هذه التفاسير، رأيت تقسيمها إلى لونين اثنين:
الأول: تآليف علمية، الأصل أنها كتبت للمختصين والعلماء.
والثاني: تآليف دعوية غرضها بيان هدي القرآن بأقصر عبارة وهي موجهة لعامة الناس.
و سواء تعلق الأمر بالتآليف العلمية أو الدعوية فإن إسهامات مفسري الغرب الإسلامي المعاصرين تتنوع بين التفسير المبسوط وبين الكتب المختصرة التي لا تتجاوز الكتاب الواحد أو الكتابين.
المطلب الأول: التآليف العلمية.
وأقصد بها الكتب التي يهتم بها “المتعاطون للعلم الشرعي” إذ أن هذه التآليف سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ومختصرة تتطلب الاستفادة منها تحصيل جوانب من العلوم الشرعية التي لا تتأتى للعوام ومن في حكمهم.
ولما قلبت النظر في عدد من مؤلفات أهل الغرب الإسلامي في العصر الراهن وجدت أفضل نموذجين لهذه التآليف العلمية مما بين أيدي الناس اليوم:
• ما كتبه محمد الطاهر بن عاشور في التآليف العلمية المبسوطة.
• ما كتبه الشيخ المحدث عبد الله بن الصديق في التآليف الوجيزة.
أولا: تأليف الشيخ محمد الطاهر بن عاشور الذي سماه “تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد” واختصره باسم “التحرير والتنوير” فهذا المصنف الذي يضم ثلاثين جزءا وضع له مؤلفه شروطا قال عنها: “… وقد اهتممت في تفسيري هذا ببيان وجوه الاعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال واهتممت أيضا ببيان تناسب اتصال الآي بعضها ببعض… ولم أغادر سورة إلا ينت ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر في تفسير القرآن مقصورا على بيان مفردات ومعاني جمله… واهتممت بتبيين معاني المفردات في اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة وعسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده… بحيث ساوى هذا التفسير على اختصاره مطولات القماطير”.
وأشير هنا إلى أن هذه الشروط التي بسطها ابن عاشور في مقدمة وخاتمة تفسيره هي التي جعلت مؤلفه أوسع تفسير معاصر للقرآن – على حسب علمي – وما كان له أن يفي بهذه الشروط لولا أن الله سبحانه رزقه عمرا مديدا ويسر له إرادة قوية، فقد كانت مدة تأليف التفسير تسعا وثلاثين سنة ونصف قال في وصفها: “… وهي حقبة لم تخل من أشغال صارفة ومؤلفات أخرى أفنانها وارفة… وما خلا ذلك من تشتت بال وتطور أحوال مما لم تخل عن الشكاية منه أجيال…”.
ورغم أهمية هذا التفسير فقد عانى معاناتين:
الأولى في مجال النشر إذ لما صدرت طبعته الأولى عن الدار التونسية للنشر لم يكن في مستطاع أكثر المكتبات عرضه لأن ثمنه كان فوق القدرة الشرائية للمهتمين بموضوعه، غير أنه في أواخر الثمانينات فوت تصوير طبعته الأولى إلى الدار الجماهيرية للنشر بليبيا وهي التي أنزلته إلى العرض بأقل من ربع ثمن طبعته الأولى.
المعاناة الثانية تتعلق بالدراسات الجامعية العليا التي اهتمت بتاريخ التفسير واتجاهاته فقد ظل “التحرير والتنوير” غائبا عنها في الوقت الذي حشرت فيه هذه الدراسات بكل كتاب ولو كان عديم الفائدة ولعل هذا من تأثير الكتابات المشرقية.
وإذا كان تفسير ابن عاشور هو أفضل نموذج للتآليف العلمية المبسوطة فما كتبه الشيخ المحدث عبد الله بن الصديق يعتبر نموذجا للتآليف العلمية الوجيزة، وبالرجوع إلى ثبت مؤلفاته في ترجمته لنفسه نجد الشيخ ابن الصديق ألف ونشر عددا من الكتب في التفسير الموضوعي مثل “دلالة القرآن المبين على أن النبي أفضل العالمين” و”أوضح البرهان على تحريم الخمر في القرآن” و”جواهر البيان في تناسب سور القرآن”…، غير أن أشهر مؤلفاته في موضوع التفسير وأكثرها تداولا: “كتاب بدع التفاسير” ورسالة “الإحسان في تعقب الإتقان للسيوطي”.
أما الكتاب الأول فالسبب المباشر لتأليفه هو الرد على ما اصطلح عليه المصنف بـ “تفاسير مبتدعة العصر” التي ذكر منها “المصحف المفسر” لمحمد فريد وجدي و”أوضح التفاسير” لمحمد عبد اللطيف الخطيب و”الهداية والعرفان في تفسير القرآن بالقرآن” لأبي زيد الدمنهوري و”تيسير القرآن الكريم للقراءة والفهم المستقيم” لعبد الجليل عيسى و”تفسير الأجزاء العشرة” لمحمود شلتوت…، ومما لا شك فيه أن المتتبع لتطور التفسير خلال العصر الراهن يعرف أن عددا من هذه الكتب التي تعرض لها الشيخ ابن الصديق تدرج ضمن تآليف النزعة الإصلاحية في مصر، وقد حدد المؤلف في مقدمة كتابه أسباب ما تضمنته هذه “التفاسير” من آراء شاذة أو منحرفة بقوله “و أغلب البدع الموجودة في تفاسير المعاصرين منشأها الجهل بأصول علم التفسير وقواعده أو الحرص على الظهور بمظهر المستنير الرأي”.
هذا وقد حرص المؤلف على رد الكثير من انحرافات المفسرين المعاصرين إلى جذورها في التراث التفسيري للمعتزلة أو الرافضة أو المتصوفة أو حاطبي ليل من المنتسبين إلى التفسير بالمأثور، كما ختم ابن الصديق كتابه بجرد تقويمي “للتفاسير المشهورة المتداولة”، ومما وقف عليه منها “تفسير الجلالين” الذي كان عمدة الدراسة عندما كان الشيخ في مرحلة الطلب وقال فيه “… تفسير مختصر جدا لا يفيد المبتدئ ولا يحتاج إليه المنتهي ينساق مع الإسرائيليات، ولا يحرر موضوعا، كما لا يكشف عن نكتة في آية”.
وإذا تركنا “بدع التفاسير” إلى “الإحسان في تعقب الإتقان” فإننا سنجد ما يؤكد توجه المغاربة مرة أخرى إلى الاهتمام بصحيح أحاديث التفسير مع نبذ الواهي والساقط منها، حيث ذكر ابن الصديق في سبب تأليف “الإحسان في تعقب الإتقان” أن السيوطي “ضم – في هذا الكتاب – آراء شاذة وروايات ساقطة فات المؤلف أن ينبه على شذوذها وسقوطها فاتخذها المستشرقون وأذنابهم سلما إلى الطعن في بعض آيات القرآن الكريم وفيما يتعلق بجمعه”، و”لهذا أردنا أن نسهم في هذا الواجب المقدس ببيان ما في كتاب الإتقان من روايات واهية موضوعة وأقوال ساقطة مرفوعة غفل المؤلف عن فحصها ومحصها…”.
المطلب الثاني: التآليف الدعوية.
ميزة التآليف الدعوية في التفسير أنها تتوجه لسائر الناس مهما اختلفت طبقاتهم وثقافتهم، وقصدها الأول العامة ممن يحتاجون لتبليغ هدي القرآن بعبارة سلسلة وألفاظ متداولة وأسلوب يسير سهل الفهم.
ولعل أفضل نموذجين يمثلان هذه التآليف مما بين أيدي الناس:
• “التيسير في أحاديث التفسير” للشيخ محمد الكي الناصري (ت1414هـ).
• “تفسير سور المفصل من القرآن الكريم” للأستاذ عبد الله كنون (ت1409هـ).
بالنسبة للكتاب الأول وهو تفسير دعوي مبسوط يقع في ستة مجلدات، فيرجع تأليفه إلى أربعة عقود مضت، ذلك أنه منذ الثلاثينات من القرن الميلادي المنصرم كان الشيخ الناصري يلقي دروسا في التفسير بمساجد الرباط وتطوان ثم الدار البيضاء، ولما وقعت مغربة الإذاعة الوطنية بالرباط كان التفسير الإذاعي ضمن برامجها وكان يعده خلال الفترة التي تلت استقلال المغرب الأستاذ عبد الله الجراري (ت1403هـ)، وفي منتصف عقد الستينات من القرن الميلادي المنصرم أسند إعداد حلقات البرنامج للشيخ الناصري وبعد إتمامه تفسير جميع السور اتجه إلى طبع الكتاب عام 1405هـ كما صنع غيره ممن تصدروا للتفسير الإذاعي بالمشرق مثل عبد الرحمن بن سعدي في السعودية ود. عبد الله محمود شحاتة بمصر.
وإذا كان المؤلف قد سطر الطريقة التي سار عليها في التفسير ضمن مقدمة مختصرة صدَّر بها المجلد الأول فإن ما يهمنا عند الكلام عن النزعة الإصلاحية المعاصرة بالغرب الإسلامي هو تصور الشيخ لما ينبغي أن يكون عليه علم التفسير اليوم؟
فهذا المبحث خاصة لا نجد عنه كلاما وافيا في مقدمة التيسير، لكن بإمكاننا أن نجمع مواده من خلال استقراء الأجزاء الستة للكتاب عن طريق تتبع تفسير الشيخ الناصري لمختلف الآيات التي عرضت لهداية القرآن وللأمر بتدبره وعن طريق هذا التتبع وجدت أن تصور الشيخ الناصري لعلم التفسير اليوم يقوم على خمس دعامات:
الأولى: اعتبار القرآن كتاب هداية للناس إلى الله وهدايتهم إلى السلوك الأقوم في الدنيا وإلى النجاة في الآخرة، وهذا ما عرض له الشيخ في تفسير مطلع سورة النمل ومن ثم فكل غرض لا يتعلق بموضوع إظهار الهداية فلا يجب أن يعد من تفسير القرآن…
الثانية: الاعتقاد بأن القرآن كتاب أحكام وسلوك عملي كما هو كتاب عقيدة وتصور لقضايا الوجود وحقيقة الحياة، يقول في هذا السياق “ذلك أن آيات القرآن الكريم ليست قصة من قصص الماضي السحيق… وإنما هي رسالة الحياة المتجددة في كل عصر وجيل وقصة اليوم والغد والحاضر والمستقبل، وهي مرآة المسلم الصافية التي يجب أن ينظر وجهه فيها كل مطلع شمس…”.
الثالثة: أن علم التفسير يتأسس على حسن تدبر القرآن، وهذه الغاية لا تدرك إلا بعد أن ينزه المتدبر نفسه عن جميع الحجب والأكنة التي توصد باب الفهم، وقد عرض الشيخ الناصري للتدبر عند تفسير مطلع سورة طه.
الرابعة: تفسير الآيات والسور في إطار الظروف التي نزلت فيها حيث ذكر الشيخ عند تفسير الآية 21 من سورة ص “… وفهم القرآن على هذا النحو وشبهه من الإيحاء والتوجيه والإرشاد وتحليل آياته في إطار الجو الذي نزلت فيه هو ما يدعو إليه كتاب الله نفسه في هذا السياق”.
الخامسة: تفسير القرآن تبعا لما دل عليه اللسان الذي نزل به وهذه الدعامة عرج عليها الشيخ عند تفسير الآية 43 من سورة الزخرف ومما قال: “… ومن هنا كان فهم اللسان العربي المبين أكبر عون على فهم الدين والتمسك به عن بينة ويقين…”.
و إذا كان التسيير يستغرق مجلدات ستة، فإن “تفسير سور المفصل” للأستاذ كنون على العكس منه كان وجيزا يبتدئ بسورة الحجرات إلى آخر القرآن مع سورة الفاتحة لذلك جاء في جزء واحد وهو ما سهل على الناس تداوله، بخاصة أنه اقتصر فيه على تفسير الأحزاب الأخيرة التي يصلي بها الناس عادة ويحفظونها.
صدرت الطبعة الأولى للكتاب عام 1401هـ، وكان الأستاذ قبل ذلك قد نشر مقالات عدة في التفسير كما تشهد على ذلك كتبه، وحين قدم تفسير المفصل ذكر من بين أسباب تأليفه أن التفاسير المتاحة للناس إما أنها موجهة للمنقطعين للدراسات الإسلامية العليا وإما أنها تشقيق للألفاظ للمتعلمين المبتدئين.
كما عرض الأستاذ كنون لعدد من التفاسير المعاصرة التي حاولت تقريب العلم مبديا رأيه فيها مثل “المصحف المفسر” لمحمد فريد وجدي وتفسير جزء عم لمحمد عبده وتفسير جزء تبارك لعبد القادر المغربي.
و لما كان تفسير الأستاذ كنون جزءا من دعوته الإصلاحية، واعتبارا لما انتهى إليه من أن معوقات هذه الدعوة ترجع إلى الجهل بهدي القرآن والإعراض عن أحكامه، فقد كانت إحدى وسائل الإصلاح عنده هي إيجاد تفسير مختصر سهل حدد له شروطا معينة، وفي هذا السياق قال: “… وأدنى ما كنت أتصوره لتحقيق هذه الغاية تفسير في مثل حجم القرآن مرتين أو ثلاثا على الأكثر سهل العبارة خال من الاصطلاحات العلمية والأقوال المتعارضة مركز على الأسس الثلاثة التي قامت عليها دعوة الإسلام وهي تصحيح عقيدة التوحيد بتطهيرها من الشوائب… وتزكية النفوس بالأخلاق الفاضلة والقيم العليا… وإعداد المسلمين لقيادة الإنسانية إلى ما فيه صلاح معاشها ومعادها”.
هذا وقبل الانتقال إلى المبحث الرابع أشير إلى تفسير شبيه بكتاب الأستاذ كنون لكنه لا زال مخطوطا وهو تفسير القاضي محمد بن المفضل المرابط الترغي (ت1419هـ) ويشمل الفاتحة والأحزاب العشرة الأخيرة.
المبحث الرابع: خصائص النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بالغرب الإسلامي.
إذا كان أعلام المفسرين المنتسبين إلى هذه النزعة قد جعلوا غايتهم هي تجديد علاقة الناس بكتاب الله فهما وتعلقا وسلوكا وذلك عن طريق تقريب علم التفسير ممن لا يتوفرون على ثقافة شرعية، فإن الناظر في التراث الذي خلفه مشاهير مفسري الغرب الإسلامي المعاصرين يقف على جملة من الخصائص ميزت النزعة الإصلاحية بالغرب عن مثيلتها التي اشتهرت في الشرق بخاصة في مصر، ويمكن إجمال هذه الخصائص في الآتي.
• البعد عن التعصب والصراع بين الأقران.
• عدم التأثر بالفكر التغريبي.
• اعتبار المذهبية الفقهية اختيارا علميا قبل أن تكون تقليدا.
• إعادة الاعتبار لأمهات كتب العلم بالأندلس.
• النفور من تراث النحل والمذاهب العقدية.
المطلب الأول: البعد عن التعصب والصراع بين الأقران.
الذي يرجع إلى الكتابات التي اهتمت بتاريخ ” النزعات الإصلاحية المعاصرة ” يقف على مشاهد عدة للصراع بين المشتغلين بالعلم الشرعي من المنتسبين للأزهر في مصر، وإذا كانت ” المعاصرة حجاب ” و”تجريح الأقران مردود ” فإن النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بالمشرق كانت ” ثمرة ” لتعصب وصراع بين فريقين من الأزهريين وأشياعهم ومهما كانت مؤسسة الأزهر متخلفة آنذاك فلم يكن ذلك مبررا للنيل منها ومن العلم الشرعي، ولا يتسع المجال للوقوف على مشاهد هذا الصراع التي حكى بعضها محمد رشيد رضا في ” تاريخ الأستاذ الإمام ” وعرض لها من بعده د. محمد عمارة في ” مجموعة الأعمال الكاملة لمحمد عبده ” لكن الذي يهمنا منها فقط هو الإشارة إلى تطور هذا الصراع ليمس العلوم الشرعية ومنها التفسير حيث نجد آثار الصراع منعكسة في تفسير “مدرسة المنار”.
و بعد وفاة محمد عبده ووفاة تلاميذه المباشرين لم ينقطع اثر هذا الصراع بل انتقل إلى مؤسستين حديثتين هما ” مدرسة القضاء الشرعي ” و” كلية دار العلوم ” واستمر سنوات…
و خلافا لذلك حين نرجع إلى سير أعلام النزعة الإصلاحية المعاصرة بالغرب الإسلامي نجد هؤلاء قد تخرجوا من مؤسسات شبيهة بالأزهر في نظامه التعليمي ومواده الدراسية لكن هؤلاء الأعلام لم يقع منهم أي طعن أو نقد جارح يتصل بالمؤسسات العلمية التي تخرجوا منها بل ظلوا يخدمونها ويذودون عنها حتى وفاتهم، وهناك أمر آخر فيما يتعلق بعلاقة هؤلاء الأعلام بأقرانهم، فقد ظلت ترتبط بينهم علاقات الود والمحبة الشيء الذي حفظ حرمة العلم الذي يحملونه من أن ينهش فيه خصوم العلم الشرعي من العلمانيين الذين استغلوا اللسان اللاذع الذي تكلم به محمد عبده وأتباعه في الأزهر والأزهريين… استغلوا ذلك في مهاجمة العلوم الشرعية وأهلها ومؤسساتها”.
المطلب الثاني: عدم التأثر بالفكر التغريبي.
ذلك أن النزعة الإصلاحية في التفسير بالشرق كانت أسيرة لعدد من التصورات المادية مما جعلها تتنكر للكثير من الغيبيات التي تعرض لها القرآن أو جاء بها، ووصل الأمر أن وجدنا محمد عبده مثلا يصحح الآثار الواهية التي لا سند لها لإثبات بعض معطيات العلم المادي في زمنه.
و لما تغلغل الفكر التغريبي في وجدان وتصور رجال ” مدرسة المنار ” أصبحوا يحكِّمونه في تفسير القرآن وهذا ما نجده عند التلاميذ المباشرين لمحمد عبده وعند الطبقة التي تلتهم، فنجد – على سبيل المثال – أحمد مصطفى المراغي الذي كان أستاذا للشريعة الإسلامية بكلية دار العلوم يقول في مقدمة تفسيره بما يكشف عن تغلغل التغريب في تصوراته: “… ومن ثم رأينا ألا نذكر رواية مأثورة إلا إذا تلقاها العلم بالقبول ولم نر فيها ما يتنافر مع قضايا الدين التي لا خلاف فيها بين أهله، وقد وجدنا أن ذلك أسلم لصادق المعرفة وأشرف لتفسير كتاب الله واجذب لقلوب المثقفين ثقافة علمية لا يقنعها إلا الدليل والبرهان ونور المعرفة الصادقة”.
و بسبب الكثير من التصوات التغريبية التي دخلت التفسير مع مدرسة المنار وجدنا الشيخ المحدث عبد الله بن الصديق ينتقد مفسري مدرسة المنار في مقدمة كتابه “بدع التفاسير”، ووجدنا الأستاذ عبد الله كنون يصف تراث هذه المدرسة بأنه لا يوافق تصوره لما يجب لأن يكون عليه التفسير.
و في التحذير من هذا المنزع وجدت ابن عاشور يقول في آخر المقدمة الثالثة من “التحرير والتنوير”: “.. فقد رأينا تهافت كثير من الناس على الخوض في تفسير آيات من القرآن، فمنهم من يتصدى لبيان الآيات على طريقة كتب التفسير، ومنهم من يضع الآية ثم يركض في أساليب المقالات تاركا معنى الآية جانبا جالبا من معاني الدعوة ما كان جالبا… فيجب على العاقل أن يعرف قدره وأن لا يتعدى طوره وأن يرد الأشياء إلى أربابها…، وإن سكوت العلماء على ذلك زيادة في الورطة وإفحاش لأهل هذه الغلطة، فمن يركب متن عمياء ويخبط خبط عشواء فحق على أساطين العلم تقويم اعوجاجه وتميز حلوه من اجاجه تحذيرا للمطالع وتنزيلا في البرج والطالع”.
المطلب الثالث: اعتبار المذهبية الفقهية اختيارا علميا لا تقليدا.
كانت البيئة التي ظهرت فيها النزعة الإصلاحية بالمشرق شديدة التعصب للمذاهب الفقهية المختلفة وكان الأزهر حلبة لهذا التعصب كما كان عدد من خصوم مدرسة المنار ممن تملكهم التعصب للمذهب الفقهي، فظهر أثر ذلك في تفسير المدرسة الإصلاحية حيث ينعدم في تراث محمد عبده ثم رشيد رضا ومحمد مصطفى المراغي وعبد القادر المغربي ومن جاء بعدهم الالتفات إلى مسائل الفقه والخلاف في آيات الأحكام التي فسروها، وذلك اعتبارا لموقفهم السلبي من المذهبية الفقهية بشكل عام.
و حين أصبح المراغي شيخا للأزهر أراد أن يقطع دابر التعصب والصراع المذهبي بين شيوخ العلم، فأحدث مادة الفقه المقارن تخفيفا لتعصب الغلاة من الأزهريين.
خلافا لذلك نجد أعلام النزعة الإصلاحية في التفسير بالغرب الإسلامي ابتعدوا عن التعصب المذهبي والتقليد الأعمى لكن هذا لم يتناف مع رجوعهم واستظهارهم في آيات الأحكام بمسائل الفقه التي دونها مشاهير مفسري الأندلس كابن العربي والقرطبي..
و بالرجوع إلى هذا الجانب في التفاسير المغربية المعاصرة نجد أصحابها: إما يرجحون حكم المسألة تبعا للدليل من الكتاب والسنة.
فإذا انعدم الدليل لجأوا إلى الترجيح بأشهر الأقوال في مذهب مالك، وهم لا يفعلون ذلك تقليدا أو تعصبا بل اختيارا علميا لمذهب من مذاهب أهل السنة التزموا به في مسائل الفروع.
المطلب الرابع: إعادة الاعتبار لأمهات كتب العلم بالأندلس.
ارتبطت النزعة الإصلاحية في المشرق بالدعوة إلى فهم القرآن على طريقة الصدر الأول من الصحابة والتابعين ولأجل تحقيق هذه الغاية رأى رجال هذه النزعة أن حاجتهم إلى كتب التفسير تنحصر في المصنفات اللغوية التي اهتمت بالغريب أولا ثم الاشتقاق والتصريف والإعراب والتركيب.
و لهذا لما تكلم الشيخ عبده عن المرتبة العليا في التفسير ذكر بأنها تتم بأمور أربعة:
• الأول: فهم حقائق الألفاظ المفردة…
• الثاني: فهم الأساليب البليغة…
• الثالث: علم أحوال البشر… وهو من علم التاريخ..
• الرابع: العلم بالسيرة النبوية.
على أنه إذا من المجمع عليه أن فهم كتاب الله يتطلب:
• تفسيره تبعا لما دل عليه مطلق اللغة..
• و فهمه في سياق ما يقتضيه معنى الكلام.
فإن كثيرا من الآيات لا بد من الرجوع فيها قبل ذلك إلى صحيح الأحاديث المسندة أو المرفوعة أو الموقوفة.
و مظان معرفة هذه الأحاديث هي كتب السنة النبوية ثم مصنفات التفسير التي جمعت هذه الروايات بأسانيدها وتأتي في المرتبة الثالثة تفاسير ما بعد عصر الرواية وشروح كتب السنة… وهذه كلها لا غنى لمفسر القرآن عنها.
غير أن مدرسة المنار لم تلق بالا للرواية وعلومها وأجملت مصادر التفسير في كتب الغريب وما تعلق به وهان على رجالها ما سوى ذلك وتأثر بمسلكها من جاء بعدها بخاصة مدرسة الأمناء في مصر التي ظل بعض المنتسبين إليها عاكفين على “مفردات” الراغب الاصفهاني (ت502هـ).
خلافا لذلك كان من خصائص النزعة الإصلاحية في التفسير بالغرب الإسلامي أن تنظر لمصادر التفسير نظرة متكاملة تجمع بين صحيح المنقول وصريح المعقول مما دلت عليه لغة العرب وآدابها.
و زان تفاسير الغرب الإسلامي اعتمادها على مصنفات التفسير المشرقية والمغربية وبخاصة تفاسير علماء الأندلس كابن العربي (ت543هـ) وابن عطية (ت546هـ) والقرطبي (ت671هـ) و ابن جزي (ت741هـ).
المطلب الخامس: النفور من تراث النحل والمذاهب العقدية.
اشتهرت مدرسة المنار باستعارة مقالات وآراء نفاة القدر في كل مسألة شذت فيها، والغريب أن التراث الاعتزالي في التفسير خاصة تآليف الرماني (ت386هـ) والقاضي عبد الجبار (ت415هـ) والحاكم الجشمي (ت494هـ) والزمخشري (ت538هـ) تضمن الكثير من درر الفوائد في البلاغة القرآنية، لكن مدرسة المنار لم تهتم بهذا الجانب قدر اشتغالها بالبحث عن التأويلات التي تكلف أو تمحل فيها صاحب الكشاف انتصارا لقواعد وأصول مذهبه… ولذلك فلا غرابة أن تنحصر استفادة هذه المدرسة من تراث المعتزلة في ترديد تلك الآراء التي تعقب فيها الناس الزمخشري وكتبوا بسببها حواشيهم على الكشاف.
و لأن الغرب الإسلامي ظل رافضا لمقالات مختلف المذاهب المستحدثة في المشرق لأسباب تاريخية يطول شرحها فإن تراث المذاهب والفرق في قضايا أصول الدين لم تصادف قبولا عند علمائه قديما وحديثا.
و تظهر هذه الخاصية بجلاء في أن مفسري الغرب الإسلامي المعاصرين اشتغلوا في كشاف الزمخشري وتأثروا ببلاغته، وعقد بعضهم مقارنات بينه وبين المحرر الوجيز لابن عطية كما فعل محمد الفاضل بن عاشور (ت1390هـ)، لكنهم لم يأخذوا من الكشاف إلا الجانب الإيجابي المتعلق ببديع القرآن وبيانه، أما الجانب السلبي المتصل بمقالات المعتزلة فقد اتخذوها وراءهم ظهريا.
والقاريء لتفسير الشيخ محمد المكي الناصري يجد بأن “الكشاف” ثم بعده “تنزيه القرآن عن المطاعن” كانا عمدته في ما يتعلق بالبلاغة القرآنية…
كما أن الواقف على تفسير ابن عاشور يجد بأن مصادره الأولى في التفسير البياني هي كشاف الزمخشري ومفتاح السكاكي ودلائل عبد القاهر الجرجاني…
لكن تفسير هذين العلمين لم يتم حشوه بتلك المقالات التي انتقاها رجال مدرسة المنار من حواشي السابقين على الكشاف إغاظة لخصومهم من المشتغلين بالعلم الشرعي.
خاتمة الدراسة
وبعد تحرير المباحث السالفة أرى من الواجب علي التنبيه إلى أمرين:
الأول: أن موضوع النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بالغرب الإسلامي يظل مترامي الأطراف مهما قيل فيه لن يدعي أحد أنه قارب الكمال، خاصة وأنه في أحيان كثيرة يجد الدارس نفسه يجري نحو أفق مغلق ؛ من ذلك أنني لما بدأت أجمع أعلام المفسرين المعاصرين في تونس وجدت الطبقة الأولى منهم تتمثل في ثلاثة من علماء الزيتونة هم الشيخ محمد النخلي والشيخ محمد الطاهر بن عاشور والشيخ محمد بن يوسف المفتي، لكنني لم أظفر بشيء من تراث الأول والثالث منهما رغم أن كتب التراجم حفلت بذكرهما… والأمر بالنسبة لأعلام المغرب الأقصى أجده أشد وأقسى على النفس، فتراث أكثر المفسرين المعاصرين تحت أيدي الورثة وبعضه في الخزانة العامة قسم المخطوطات.
الأمر الثاني هو أن دراستنا العلمية لتراث المغاربة في علم التفسير يجب أن تكون بمعزل عن التأثر بالدراسات الشرقية فلا نبحث فيما كتبه الأستاذ عبد الله كنون أو تقي الدين الهلالي أو عبد الحميد بن باديس أو غيرهم عن مظاهر تأثرهم بالنزعات الفكرية في الشرق العربي فقد عانينا بما فيه الكفاية من هذه الأستاذية التي يرجع سببها إلى نسج الأبحاث على طريقة الغير.
أما الاستنتاجات التي خلصت إليها هذه الدراسة فهي:
1. أن تقريب علم تفسير القرآن أو تجديده لم يكن وليد العصر الراهن بل نجد ذلك في تراث القرون التي بدأ فيها جمع هذا العلم في كتب مبسوطة.
2. أن ظهور النزعة الإصلاحية المعاصرة في التفسير بالغرب الإسلامي يرجع إلى أسباب تاريخية وأخرى اجتماعية.
3. أن أعلام هذه النزعة منهم من تأثر بأقرانه من المشارقة حتى في اتخاذ المجلة لنشر تفسير القرآن ومنهم من كان له موقف نقدي من مشاهير المصلحين في الشرق.
4. أن أغراض التأليف في هذا اللون من التفسير منها ما هو دعوي صرف ومنها ما هو تعليمي.
(المصدر: مجلة “الواضحة” العلمية المحكمة)