مقالات مختارة

النزاهة: تعريف وتأصيل

بقلم د. ماجد بن سالم حميد الغامدي

يبدو أنَّ العام ٢٠٠٨م كان نقطةَ انطِلاق النَّزاهة في العالم العربي كمفهوم وقِيَم، صرَّح بعدها المسؤولون والمختصون بعدَد من الحقائق التي أدهشَت المتابعين للشَّأن؛ حيث كشفَت هذه التقارير أنَّ العالم العربي متأخِّر جدًّا عن العالم في الاهتمام بالنَّزاهة.

وقد غفلَت الكثير من المؤسَّسات العربية عن هذا الجانب؛ لأسباب، منها أنَّ الثِّقة الأخلاقية طغَت على الرقابة والمحاسبة، الأمر الذي أوجَد التحايلَ الذَّكي على الكثير من الأنظمة والقوانين، أوصل ذلك التحايل إلى قبول ما لا يجوز من السلوكيَّات التي تمثِّل فسادًا لا يُقبل، سواء من ناحية تمدُّد الصلاحيات، أو استغلال النُّفوذ، وعلى مستوى صاحب السلطة أو القوانين أو التطبيقات…

ومنها كذلك الضَّعف الثَّقافي بالحقِّ والقانون من ناحية المستفيدين أو الجمهور؛ الأمر الذي يَدعو العديد من السذَّج لقبول مبادئ الفَساد من المستغلِّ؛ بسبب ضعف الوعي والجهل بالحقوق والواجبات والنُّظم.

ومنها أيضًا الضَّعف الرقابي على الأموال أو الممتلكات العامَّة والمشتركات الأخرى؛ الأمر الذي أسهَم في تعميق المشكلة، ونشأة التحايل الجماعي، والتعدِّي الذي يشتِّت هذه الأجهزة الرقابية ويمهد للفساد وانتشاره…

ولعلَّ الأسباب التي أدَّت إلى ضعف النَّزاهة أكثر مما ذُكر بكثير.

وللعلم؛ فإنَّ القانون الغربي بما فيه من الصَّرامة هو العامل الأول لنَزاهة الأفراد الذين تَحكمهم تلك القوانين، فلا ينبغي المبالغة في الانبهار بصِدقهم وأمانتِهم، فبشهادتهم يَظهر ذلك؛ حيث يقول هيه (Hieh 2011): “إنَّ الجمع بين مبادئ النَّزاهة والبراغماتية يعدُّ من أصعب التحدِّيات التي ستواجهنا؛ لأنَّ الهدف أن يتكوَّن لدى القادة البراغماتيين شعورٌ بالقيم الأخلاقية”.

وسأتناول النَّزاهة في هذا المقال بشيء من التفصيل في جانبين مهمَّين يشكِّلان التأصيل والتطبيق لهذا المفهوم؛ فأمَّا جانب التأصيل، فسألقي الضَّوء عليه من حيث الجانِب الخُلقي والجانب السُّلوكي في القرآن والسنَّة، أمَّا الجانب الآخر، فسأتناوله في جانب التطبيق والسُّلوك الممثل لقيَم النَّزاهة السامية، وما يضادها من القِيم السلبيَّة.

فأما التأصيل، فسأبدؤه بالمفهوم وما يعنيه، وكيف تناوَله علماؤنا مِن قبل:

فمصطلح النَّزاهة في أصله اللغوي يعني: “البعد عن السوء وترك الشبهات”.

ومعنى النَّزاهة في عرف اللغويين: “ترفُّع النَّفس وتباعدها عن كلِّ قبح ومعصية”، وهي بذلك تعدُّ ظاهرة إنسانيَّة تحكمها قوانين الإنسان وقيَمُه أفردًا ومجتمعات، وهذه الظاهرة توصل إلى ظاهرة الإصلاح والصلاح، ورغم أنَّ مصطلح النَّزاهة قد يتداخَل مع بعض المصطلحات – مثل مصطلح الأمانة، والأخلاق – فإنه أوسَع منها بكثير؛ إذ تشتمل النَّزاهة على قيَم الكفاءة، والاحترام، والحفاظ على الالتزامات، وتظهر النَّزاهة جلية لدى الفرد حين تَصطدم قراراته وأفعاله بالمصلحة الشخصية.

وتعرف النَّزاهة اصطلاحًا في الدراسات التربوية بأنها: “البعد عن الشرِّ”، وترتبط بالبعد عن اللوم، ونَزاهة الخلق، وتتحقق النَّزاهة من خلال مَنظومة من القيَم للمحافظة على الموارد والممتلكات، واستئصال الفساد؛ منها قيمة الصِّدق، والأمانة، وعدم الإضرار.

وقد ينتابك شيء من الاستغراب حين تَقرأ كيف تناول علماؤنا الأوائل النَّزاهةَ؛ فقد سبقوا إلى ترسيخ مَبدأ النَّزاهة من مصادر الشريعة الإسلامية:

♦قال ابن حزم: “نَزَاهة النَّفس؛ وهذه صِفة فاضلة مُتَرَكِّبة من النَّجدة والجود، والعدلِ والفهم؛ لأنَّه فَهِم قلَّة الفائدة في استعمال ضدِّها، فاستعملها، وكانت فيه نجدة أنتجت له عزَّة نفسه، فتنزَّه، وكانت فيه طبيعة سخاوة نَفس، فلم يهتمَّ لما فاته، وكانت فيه طبيعة عَدل، حببَت إليه القُنوع وقلَّة الطَّمع”.

♦وقال ابن الجوزي: “دليل كَمال صورة الباطن حُسن الطَّبائع والأخلاق؛ فالطَّبائع: العِفَّة والنَّزاهة والأنَفة من الجهل، ومُبَاعدة الشَّرَه، والأخلاق: الكَرَم والإيثار وسَتْر العيوب، وابتداء المعروف، والحِلْم عن الجاهل، فمَن رُزِق هذه الأشياء، رَقَّته إلى الكمال، وظهر عنه أشرف الخِلال، وإن نقصت خُلَّة، أوجبَت النَّقص”.

♦وقال الماوردي: “والنَّفس الشَّريفة تطلب الصِّيانة، وتُـرَاعي النَّزاهة، وتحتمل من الضُّرِّ ما احتملَت، ومن الشِّدَّة ما طاقت، فيبقى تحمُّلها، ويدوم تصوُّنها”.

♦وقال أبو يزيد الفيض نقلًا عن ابن أبي الدنيا: “سألت موسى بن أَعْيَنَ عن قول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ﴾ [المائدة: 27]، قال: تنزَّهوا عن أشياء من الحَلال؛ مَخافة أن يقعوا في الحرام، فسمَّاهم متَّقين”.

وكل هذه المفاهيم والاستنباطات مَصدرها القرآن والسنَّة، ولا يتَّسع المقام لسرد عشرات الآيات في ذلك، ولعلَّها تكون في مقال آخر.

أمَّا الجانب الآخر للنَّزاهة، فهو: الجانب السُّلوكي الأخلاقي؛ ويعبِّر عن تمثُّل النَّزاهة في السلوك، وما لهذا التمثل والتطبيق أو الانعكاس على السلوك، وليتضح هذا الجانب يَنبغي الآن الحديث عن ثلاثة جوانب مهمَّة، ويحتاج كلٌّ منها إلى بحثٍ مستقلٍّ، وسوف أشير إليها بإيجاز:

الأول: القناعة؛ وهي الشعور والدَّافع الداخلي عند المرء، الذي يدفعه إلى تحمُّل مسؤوليته الدينيَّة والأخلاقية والوطنية تجاه فِعل من الأفعال، أو تصرُّف من التصرُّفات في أيِّ مجالٍ كان، سواء على المستوى الشخصي أو الوظيفي أو المجتمعي…

وحين أتحدَّث عن القناعة، فنحن معاشر المسلمين لا نحتاج للاقتناع بالقيمة والخُلق؛ فقد اكتَسبناها من قطعية النصوص الربَّانية في الكتاب والسنَّة، ولكن يبقى الالتزام الأخلاقي من خلال تَدعيم المراقبة الذاتيَّة بكل جوانبها.

الثاني: القيَم كموجِّه للسلوك بغضِّ النَّظر عن الاختلافات الفلسفية حولها، وهنا ينبغي أن تكوِّن المبدأ الذي يَنطلق منه الفعل؛ بحيث يكون عن قناعةٍ ومبررات ثابتة لا تقبل الجدل أو التردُّد.

إننا حين نقول: القيمة في سلوك النَّزاهة، نعني بذلك: الالتزامَ الأخلاقي الواجب، الذي يفصل بين المصلحة الشخصيَّة والنزعة الإنسانية حينما تقابل القيمة والمبدأ، فهل سيقبل الرشوة حينما يقدِّمها له صديق مقرَّب في صورة هديَّة تستلمها الزَّوجة بطريقة لا تظهر في العلَن؟! هنا تَحكيم الضمير وتقديم المبدأ.

الثالث: تحمل المسؤولية: وهذا الجانب لا يمكن أن ينفكَّ عن الجانبين السَّابقين؛ فإنَّ تحمل المسؤولية هو دافع العِبادة والتعبُّد، والتعامل والتفاعل، وحكم النفس ومراقبة الذات، والنزاهة وترك المشتبهات…

ولعلَّ المراجعة الذاتيَّة للنَّفس تبيِّن للمرء مدى نزاهته؛ فهو المسؤول الأول، قال تعالى: ﴿ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ ﴾ [الصافات: 24].

إنَّ التحام هذه الجوانب لدى الفَرد المسلم متيسر جدًّا حين يوجد الإيمان الكامل، والمبدأ الصَّادق، والدافع القوي، لكنَّ النفس رغم أنَّها على الفطرة فإن الصَّوارف قد وقعَت، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا… ﴾؛ الآية [النور: 48 – 50].

وفي جانب التَّطبيق يظهر أنَّ بين نزاهة الضمير وموته شَعرةً، لكن الظن أنَّ النَّزاهة لا تكمن إلَّا في المال – من الظنِّ السوء! النَّزاهة شعور بين متردِّد تغالبه التجاذبات؛ جاذبٌ لطمَع النفس، وجاذب يمنعها من امتلاك ما لا يحقُّ لها؛ مالًا كان أو منالًا!

في عالَمنا حقُّ الخلاف، ومصادرة حقِّ الاختلاف، والحث على قبول النَّصيحة، ونرى استحقار المنصوح، تُجبر على السكوت أحيانًا، ويسبُّونك على السكوت بعدها بقليل، ويشدِّدون عليك في احترام الكبير، وينقدون عليك التسامح معه، ويناقضونك في كلِّ وقت، ويتَّهمونك بالتناقض!

يقولون: السُّلوك من المعرفة والقيَم، ويسيِّرون السلوكَ وفق معرفتهم، أصيب بعض الدعاة المشاهير في مَقتل حين تحولوا، ليس عن الثَّوابت؛ فهذا لا يُقبل، وإنَّما عما يظن البُسطاء أنه من الثوابت!

فرض العامَّة بكثرتهم الثَّوابتَ، وألزموا بها، وقدح العامَّةُ في العلماء لقلَّتهم حين تركوا ما يعتقد أنَّه من الثَّوابت!

أفاق البعض بسفَره إلى بلاد الغرب، فقال: “رأيت مسلمين بلا إسلام”، وغربيٌّ زار بلادَ الإسلام فقال حين رجع: “عالَم ثالث”!

لم يكن التحضُّر في العمران؛ فهو وسيلة مادِّية قد تَحصل عليها دول فقيرة، وإنَّما يُقاس بالعدالة والفكر، والحرية والحقوق مجتمعة! فتركها أبناء المسلمين حين أصابهم التغريب، وأخذوا بالمطالبة بالحرِّية دون البقية! ﴿ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 27].

وبدأ المستشرقون يصدِّرون إلينا خبثَ معدنهم، ويزعمون أنَّ منظماتهم تحبنا، وأنَّ حريتنا أساسُ تقدمنا، وأنَّ للحياة الحيوانية رَونق التقدُّم، ألصق التقدُّم بالمجتمع العربي الصلب بلاصق الحرِّية، فسقط اللاصق وظهر العوار؛ فلا حرية اكتسب، ولا ستر بَقي، ولا دمًا حقن، ولا فقرًا طرد.. وكلها مَوقد نار صهرَت به القيم، وأفلتَت في غير قالب، فضاع المعدن في التراب كما كان! ورجع بحاجَة إلى مَن يستخرجه ويعدنه من جديد! بعدما قرأت، كيف ترى نفسك مع النَّزاهة؟!

من كلِّ ذلك نتيقَّن أنَّ الضمير النَّزيه هو النَّزاهة بعينها حين يَنطلق من قَناعة الوحيَين لتصبح مَبدأ المسلمين؛ فـ ((المسلِم مَن سلِم المسلمون من لسانه ويدِه))، وللحديث بقيَّة إن شاء الله.

المصدر: شبكة الألوكة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى