مقالاتمقالات مختارة

النخب السياسية.. لماذا تفشل في مناهضة الاستبداد؟

بقلم عبد الجبار الغراز – كاتب مغربي

ما الذي يجعل نخبنا السياسيةََ العربية بمختلف مشاربها تفشل في مواجهة أنظمة الاستبداد، فتزيغ عن طريقها الثوري الذي رسمته لنفسها منذ اندلاع ما سمي بثورات الربيع الديمقراطي، وبالتالي تفقد -جزئيا أو كليا- مصداقيتها الشعبية فيشوب وحدة صفها التشتت والتشرذم والانقسام إلى ملل ونحل ومذاهب متناحرة؟

لا شك أن التفكير في عوامل هذا الفشل يجعلنا نقول بأن هناك شروطا ذاتية وموضوعية لم يتم استيعابها بشكل واف من طرف هذه النخب المعارضة، تجعلها تعي ذاتها بشكل جيد كتنظيمات تطرح نفسها كبديل يحمل مشروعا مجتمعيا يسعى إلى إحداث تغييرات جذرية في المجتمعات العربية. وعليه، فعدم توفر شرط الوعي بالذات هذا لا يجعل من تلك النخب المعارضة -في أعين الأنظمة العربية الاستبدادية- خصما نديا قويا، كما لا يجعلها -في أعين شعوبها- ممثلا حقيقيا لهذه الأخيرة أجدر بالثقة في الدفاع عن الحقوق المهضومة.

فكيف يتحقق إذن شرط الوعي بالذات لدى نخبنا السياسية المعارضة لأنظمة الاستبداد؟ للإجابة عن هذا التساؤل يقتضي منا الأمر أن نقارب هذا الموضوع بحسب المنظور الفلسفي “الهيجلي”، الذي يفيد أن الوجود الإنساني يتأسس وفق جدلية “النفي والإثبات”، وأنه لا يمكن أن يتحقق شرط الوعي بالذات إلا إذا أخذ هذا الوجود البشري شكل صراع متبادل بين ذات وآخرها، لانتزاعِ الاعتراف بالوجود، مع إلغاء رغبة المنهزم في السيادة (العبد) وتثبيت رغبة المنتصر (السيد).

الإنسان العربي الفاعل في تاريخه، يعتبر مغيبا قد تم تعطيل فاعليته بسبب ما يعيشه من غبن مُقصٍ لذاتيته، وقلة كرامة ماسحة به الأرض، وجهل مركب سالبٍ لإرادته التواقة للتغيير

نفهم من هذه المقولة أنه لا يكون الجدل حقيقيا إذا كان نتاجا للمماثلة والتطابق بين الذوات، بل ينبغي أن يكون نتاج حركية ديناميكية تطبع الأشياء والموجودات لتنتقل من صيغة الإثبات إلى صيغة النفي (والعكس أيضا صحيح). فالجدل بهذا المعنى هو نتاج لأفعالِ المغايرةِ والاختلاف وليس نتاجا لأفعال المماثلة والمطابقة.

فالراصد لأشكال الصراع -قديمه وحديثه- بين نخبنا السياسية العربية المعارضة وأنظمة الاستبداد، سيرى أن هذين القطبين المتصارعين يُعتبران وجهين لعملة سيادية واحدة أصيبت بالعقم السياسي، لكونهما قد قدما ولا زالا يقدمان في هذا الإطار نموذجا لعلاقة تقابلية غير مثمرة بين كائن ممسوخ وكائن عقيم؛ فالأول يتمثل في الأنظمة العربية الاستبدادية، والثاني يتمثل في المعارضات العربية؛ فالممسوخ اعتبر كذلك لكونه يعيش خارج التاريخ بسبب فعله الاستبدادي، والعقيم اعتبر كذلك لكونه عاجز عن إنتاج الفعل التاريخي الأصيل المتولد عن جدلية “عبد/ سيد” حقيقية كما ساقها لنا هيجل.

بعد هذا الإجراء التحليلي لهذه الجدلية، يمكن القول أن السيادة الحقيقية الفاعلة والمثمرة التي ينبغي على نخبنا السياسية العربية المعارضة أن تتماهى بها حتى لا تكون عقيمة هي تلك السيادة التي تجعل من الانتفاضات ضد الاستبداد ترقى إلى مستوى الثورات التاريخية الكبرى، فهذه الأخيرة قد استمدت مشروعيتها من الأسس الديمقراطية التي جعلت من الإنسان منذ بداية العصور الحديثة، قيمة القيم.

الإنسان العربي الفاعل في تاريخه بناء على هذا الشرط، يعتبر مغيَّبا قد تم تعطيل فاعليته بسبب ما يعيشه من غبن مقصٍ لذاتيته، وقلةِ كرامةٍ ماسحة به الأرض، وجهل مركب سالب لإرادته التواقة إلى التغيير، وفقر مادي وفكري يجعله يحس باغتراب عن كل فعل تاريخي منسوب إليه.

فـ”العبد” الذي يقبع في ركن قصي وعميق في لاشعورنا الجمعي العربي، والذي قد يصبح في يوم من أيامنا غير المشرقة “سيدا” بقدرة انتفاضة أو ثورة منقوصة الأركان، لا يستطيع بالتأكيد أن يمارس الفعل التاريخي الحقيقي الذي يقوده إلى إنتاج مجتمع التقدم والرخاء والرفاه، لأنه كائن لم يستوعب بعد شروط وجوده كإنسان لكي يستطيع تجاوز وضعية العبودية المخزية وينتقل، بالتالي، إلى وضعية السيادة الحقيقية المشرِّفة.

وعليه، فـ”السيد العربي”، الذي تتعايش معه، قسرا، شعوبنا العربية في هذه الألفية الثالثة، هو في حقيقة أمره مجرد عبد لأدوات سياسية سالبة لإرادته، يعيش معها حالة اغتراب لأنها ليست من ابتكاراته وإبداعاته.. إنه في حقيقة أمره عبد “مخصي سياسيا”، وقد لبس في الظاهر جبّة الأسياد. أما “العبيد” الذين أصبحوا بانتفاضتهم عليه “أسيادا”، فهم كينونة “جديدة” لكنها تحمل في طياتها بذرة الاستبداد، وسترتد بفعل ذلك -إن آجلا أو عاجلا- إلى أصلها، لكن هذه المرة في شكل صور أكثر رداءة..، يمكن في الختام طرح تساؤلات أخرى :

كيف يمكن تكسير طوقِ دائرةِ هذه الجدلية العقيمة؟ وهل من سبيل إلى نهضةٍ عربية حقيقة قِوامها العلم والمعرفة؟ وبأي معنى يمكن فهم أن الإنسان العربي هو كائن يعيش على الهوامش.. فاقدا للأهلية الفكرية والسياسية القادرتين على جعله سيد نفسه؟ وما هي شروط تحرره من هذه الوضعية القاتلة؟

هذه جملة تساؤلات نطرحها لكي نفتح بها باب الاجتهاد على مصراعيه، لمعرفة ممكنات فعلنا الثوري الحقيقي وحدود اشتغاله، عمليا ونظريا، والخيارات التي تتيحها هذه المرحلة الصعبة التي تجتازها أمتنا العربية حتى لا نسقط، كمعارَضات، في مطبِّ عمل أقبح مما تقوم به الأنظمة الاستبدادية، عند تسلم زمام الأمور.

(المصدر: مدونات الجزيرة)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى