بسم الله الرحمن الرحيم
النبي صلى الله عليه وسلم عربي أصيل
بقلم: د. محمد أكرم الندوي (خاص بالمنتدى)
كتب إلي فضيلة شيخنا الجليل الأستاذ خير رمضان يوسف المؤرخ البحاثة: “ونسب إبراهيم عليه السلام القومي يبقى فيه إشكال؟ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلى نسبا في العرب، وأفضله في قريش، وهو من نسب إبراهيم عليه السلام، وإذا لم يكن عربيا فلا يكون نبينا في هذا النسب العالي، الصافي، بل يكون من العرب المستعربة.
قلت:
يزعم المؤرخون والنسابون أن العرب ثلاثة أقسام: العرب البائدة، والعرب العاربة، والعرب المستعربة، وأن العرب البائدة هم عاد، وثمود، وجديس، وسائر من اندثرت آثارهم، وأن العرب العاربة هم القحطانيون، أبناء قحطان بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح، وأن العرب المستعربة أو المتعربة العدنانيون، أو النزاريون، أو المعديون، وهم من صلب سيدنا إسماعيل بن إبراهيم عليهما الصلاة والسلام، الذي تزوج من رعلة الجرهمية، فتعلم منهم العربية، فسموا المستعربة، وصار نسلهم من العرب، واندمجوا فيهم.
قلت: إن هذا الذي زعموه فيه إجمال، ويحتاج إلى تفصيل، والتفصيل أن الأمم السامية الأولى )القبائل السامية القديمة) المتحدرة من سام بن نوح كانت أقدم سكان بلاد العرب، ونزحت فروع منها لأسباب مختلفة وانتشرت في بلاد بابل ومصر والشام، ويسمي المؤرخون أصول تلك القبائل “العرب العاربة”، وهي التي تعرف بالعمالقة، فإنها كانت العرب الأقحاح ولم تحتك بالجنسيات الأخرى، وتسمى فروع منها وبطون “الأمم البائدة”، لأنها تدفقت من بلادها وذهبت أدراج الرياح، أو أن حوادث الدهر وتطورات الزمان قضت عليها.
لا يسمي علماء الآثار الأوربيون هذه الأمم بأسمائها المختلفة، وإنما يسمونها بالساميين، أما العرب فيسمون كل قبيلة منها باسمها الذي عرفت به في عهودها المختلفة، فمنها عاد، وثمود، وجرهم، ولحيان، وطسم، وجديس، وكانت عاد أكبر هذه القبائل وأوسعها، وتفردت بالسلطة بين سائر العرب البائدة، وكانت لها – حسب الأخبار العربية – دول قوية جبارة في بلاد العرب وخارجها في بابل ومصر وسائر الشرق الأوسط.
يرى عامة المؤرخين العرب أن نسب هذه القبائل ينتهي إلى إرم بن سام وفروعه المختلفة، وأن الأراضي التي انتشرت فيها هذه القبائل الآرامية السامية سميت “إرم”، فالتوراة تسمي ما بين النهرين (العراق) إرم نهرائم، وفدان إرم، وبلاد الشام “إرم”، و”إرم دمشق”، وشمالي العرب “إرام”، وإن النقوش التي تم العثور عليها في بابل وأشور والشام وكنعان وفينيقيا وشمالي العرب معظمها باللغة الآرامية أو تكثر فيها الكلمات الآرامية.
جينما تظفر أمة كبيرة بالسلطة فإن جزءا واحدًا منها يتميز بين سائر أجزائها، وتعرف الأمة بكاملها متسلطة قوية لانتسابها إلى ذلك الجزء، فلا بد إذًا بين جمعية الأمم السامية الكثيرة الأفراد أن يمتاز جزء منها بالقوة الحاكمة، وتحضع لها سائر الأجزاء، مهما يكن اسم هذا الجزء فإن العرب تسميه عادًا ولا مشاحة في الاصطلاحات.
يتحدث القرآن الكريم عن حقيقة عاد قائلاً: “ألم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد”، فظهر من هذه الآية أن عادًا جزء من إرم، ويقول الله تعالى في مكان آخر: “واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح” (الأعراف 9).
فأول دولة قوية ظهرت في العرب بعد هلاك قوم نوح هي عاد في لغة القرآن الكريم، فالأمم السامية القديمة وعاد اسمان مترادفان.
كان مسكن عاد المركزي في أفضل أجزاء العرب أي في اليمن وحضرموت من سواحل خليج فارس إلى حدود العراق، وكان مركز دولتهم بلد اليمن، وكانت دولتهم ممتدة على السواحل من خليج فارس إلى العراق، وبهذا يمكن أن نعرف بسهولة الطريق الذي انتهجته فانتشرت من بلاد العرب في العراق، ثم من العراق في البلاد الأخرى، وهذا هو طريق الأمم السامية حسب البحوث الحديثة.
كان تفرق عاد وارتحالها إلى البلاد النائية معروفًا ومشتهرًا عند العرب حتى إن الشعراء ذكروا ذلك في تمثيلاتهم، يقول الشاعر الجاهلي محرز بن مكعبر الضبي:
حتى انتهى لمياه الجوف ظاهرةما لم تر قبلهم عاد ولا إرم
يدعي العرب أنهم حكموا بابل في العراق، وأهل العراق يقرون بذلك، والبحوث والاكتشافات الحديثة تؤيد ذلك، يكتب العلامة ابن قتيبة المتوفى سنة 276هـ في تاريخه: “فمنهم العماليق أمم تفرقوا في البلدان، ومنهم فراعنة مصر والجبابرة”، وقال ابن خلدون في تاريخه: “إن قوم عاد والعمالقة ملكوا العراق”.
يدعي الفرس أنهم كانوا مالكين لدولة العراق وبابل القديمة، ويزعمون أن الضحاك العربي استولى على البلاد بعد جمشيد الذي كان معاصرا لبني سام بن نوح، والعرب يعترفون بذلك، وهو الضحاك ين علوان، والضحاك هو نمرود وأن إبراهيم خليل الرحمن ولد في زمانه، وأنه صاحبه الذي أراد إحراقه.
أثبت السيد سليمان الندوي في كتابه (أرض القرآن) مستندا إلى نصوص في العهد القديم، وآثار ونقوش وآراء المؤرخين الغربيين أن ملوك بابل وملوك مصر في عهد إبراهيم عليه السلام كانوا من ذرية عاد، حينما يظهر اسم إبراهيم عليه السلام أول مرة في التوراة نراه مهاجرًا مع أهله من العراق إلى مصر، ويظهر زوجته سارة التي يتصل معها في قرابة أختًا له، ويلتمس منه فرعون مصر المصاهرة، فلما اطلع على أصل القصة زوجه ابنته هاجر، وما في التوراة من كون هاجر أمة فهو من تحريف اليهود، وقد بين ذلك الإمام حميد الدين الفراهي في كتابه (الرأي الصحيح فيمن هو الذبيح) بيانا شافيا.
وجرهم اسم لقبيلتين، كانت جرهم الأولى معاصرة لعاد وكانت من الأمم السامية الأولى، وكانت جرهم الثانية من ذرية جرهم بن قحطان، وكان أخوه يعرب بن قحطان ملكًا لليمن، واستولى جرهم بن قحطان على الحجاز.
تذكر الأخبار العربية أن إسماعيل عليه السلام تزوج في بني جرهم، ولكن ورد في التوراة أن أمه المصرية زوجته من مصرية، ويشير العلماء النصارى إلى هذا الاختلاف بصفة عامة، ولكن لو علموا أن العرب السامية الأولى كانت مالكة آنذاك لمصر، وكانت لهم علاقة مع مصر لما عجبوا من هذا الاختلاف، فيصح أن يقال إن إسماعيل عليه السلام تزوج في جرهم من بني سام كما يصح أن يقال إن زوجته كانت من مصر.
ثبت مما تقدم أن إبراهيم عليه السلام عربي أصيل، وأن هاجر من ذرية ملوك مصر العرب، وأن زوج إسماعيل عليه السلام من جرهم بن قحطان، وبنو قحطان من العرب العاربة.
وكان لإسماعيل عليه السلام اثنا عشر ابنًا وبنت واحدة، والأبناء هم: نبايوط، قيدار، أوبائيل، مبشام، مشماع، دوما، مشاء، حدر، تيماء، يطور، نفيس، قيدماه، وكان الأبناء الاثنا عشر – على البشارة الربانية – اثني عشر رئيسًا لأسرهم، وكان أكبرهم نبايوط، وأصغرهم قيدار، وهما أبرزهم جميعًا في التاريخ القديم، وسكنوا مع أبيهم في الحجاز في حياته، وبعد وفاته بفترة.
وقريش أسرة من مضر بن نزار بن عدنان بن قيدار بن إسماعيل، انقسمت مضر إلى قبائل عديدة وكبيرة، منها قريش، أبوهم فهر، ونسبه: فهر بن مالك بن نضر بن كنانة بن خزيمة … بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان.
وكان فهر يلقب قريشًا، فاختار أبناؤه هذه الكلمة علمًا قبليًّا لهم، وانقسمت قريش إلى عشر بطون: بني هاشم، وبني أمية، وبني نوفل، وبني عبد الدار، وبني أسد، وبني تيم، وبني مخزوم، وبني عدي، وبني جمح، وبني سهم.
ونبينا صلى الله عليه وسلم ابن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم.
وكانت لغة عاد هي العربية، ولما أهلكت تفرقت القبائل العربية في العراق والشام والجزيرة، وعرفت بأسماء مختلفة، بيد أن القبائل الساكنة في الحجاز واليمن وما حولهما احتفظت باسم العرب، واشتهرت بها.
وتفرعت من اللغة العربية القديمة اللغات العبرية، والآرامية، والعربية الحديثة، وكما أن عرب الجزيرة حافظوا على نسبتهم العربية، كذلك حافظوا على اسم لغتهم العربية.
وعاملت العرب الساكنة في الجزيرة سائر اللغات المتفرعة عن اللغة العربية القديمة معاملة اللغات الأعجمية، ومن ثم لم تصرف إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب من الأعلام، فظن الظانون أن هذه أسماء أعجمية، وليس الأمر كذلك كما قد قررنا، ولله الحمد.