الموقف اليهودي من الحروب الصليبية
بقلم د. قاسم قاسم
منذ بدأت أحداث الحروب الصليبية بدأ المؤرخون يكتبون عنها ولم يتوقفوا عن الكتابة حتى الآن ، فقد انكب عشرات من المؤرخين والباحثين يفتشون بين غبار المعارك وأشلاء الضحايا وأنَّات الجرحى وزفرات المهزومين، بين صليل السيوف وصيحات النصر عن أجزاء الصورة التي يريدون استردادها من ذمة التاريخ ، وأخرجت أقلام النساخين وآلات الطباعة سيلاً من المؤلفات والدراسات التي تدور جميعها حول موضوع واحد هو الحروب الصليبية.
لقد اهتم الغرب الأوربي والأمريكي بقصة هذه الحروب التي اتخذت الصليب شعارًا والقدس هدفًا، وفي ظل الشعار والهدف ارتكبت أبشع ما يمكن للبشر أن يتصوره حتى بمقاييس العصور الوسطى التي اشتهرت بالقسوة وقلة الاهتمام بالجوانب الإنسانية في الحروب، وعلى الرغم من أن كثيرين في الغرب قد أدانوا الحروب الصليبية فإن هذه الإدانة في رأينا نابعة من حقيقة أن الحروب الصليبية فشلت في أن تحقق شيئًا على الرغم من أن فصولها الرئيسية قد دارت على مدى ما يقرب من قرنين من الزمان ، ومع ذلك فإن بعض أولئك الباحثين يرى أن الأراضي التي استهدفتها الحروب الصليبية حق للمسيحيين الكاثوليك في الغرب الأوربي، وأن الصليبيين قد فشلوا في استردادها ، بيد أن هذه لا ينفي وجود بعض المؤرخين الذين جعلوا البحث العلمي والتعرف على الحقيقة أيًا كانت هدفًا ينبغي الوصول إليه.
أما في المنطقة العربية الإسلامية فإن الدراسات الحقيقية لهذه الحركة ما تزال قليلة حقًا ، وعلى الرغم من محاولات قليلة جيدة وقام بها بعض الباحثين من أستاذة الجيل السابق فإن محاولات جيلنا في هذا الصدد ما تزال قاصرة على الوفاء بما تتطلبه هذه الظاهرة من دراسة وتحليل ، وعلى الرغم من أننا كطرف وقع عليه العدوان الصليبي ينبغي أن نوفي الظاهرة حقها من الدراسة والتأمل العلمي فإن معظم المؤلفات العربية توقفت عند حد رواية الأحداث العسكرية والسياسية بطريقة سردية ، كما لجأ البعض إلى الدراسة الانتقائية بهدف دغدغة مشاعر الفخر والزهو الكاذبة في نفوسنا.
وعلى الرغم من أن الحروب الصليبية كانت في أساسها مواجهة بين المسلمين والمسيحيين فإن المؤرخين والباحثين اليهود قد اتخذوا لأنفسهم موقفًا من الحرب الصليبية يمكن القول بأنه موقف مختلف عن موقف كل من المسلمين والمسيحيين، فاليهود لم يكونوا طرفًا أساسيًا في هذه المواجهة “العسكرية/الحضارية” الطويلة، ومن ثم فإنه لا يمكن القول بأن لهم انحيازًا إلى جانب أحد الطرفين المتصارعين؛ بيد أن الموقف اليهودي من الحروب الصليبية يخدم الأهداف الصهيونية الأساسية من عدة جوانب فهو تعبير عن الاتجاه الصهيوني العام الذي يخلق مجموعة من الأكاذيب التاريخية ويروج لها لتحقيق مكاسب جديدة للحركة الصهيونية.
وتحاول القراءة الصهيونية لتاريخ الحركة الصليبية توظيف هذه الظاهرة لصالح الكيان الصهيوني من جوانب عديدة تستغل الانحياز العاطفي لدى الغرب الأوروبي والأمريكي والتراجع العربي على كافة المستويات، هذا الموقف اليهودي من الحروب الصليبية يتخذ مسارات أساسية ثلاثة:
أولاً: محاولة تصوير الاضطهادات التي أوقعها الصليبيون باليهود في أوروبا الغربية على أنها حلقة من ضمن سلسة الظاهرة التي أطلقوا عليها معاداة السامية وهي ظاهرة اختلقوها وروجوا لها ليبتزوا بها ضمير العالم، بل إنهم يوحون إلى جماهير العامة في شتى أرجاء الدنيا أنهم وحدهم الساميون وهذه كذبة تدحضها حقائق العلم على أية حال.
ثانيًا: محاولة سرقة التاريخ العربي في فلسطين والمنطقة العربية من خلال اختلاق دور تاريخي لليهود في التصدي للعدوان الصليبي بشكل يوحي أن اليهود أصحاب الأرض، وأنهم تعرضوا للعدوان ودافعوا عن البلاد مثلما فعل العرب ، وهو أمر يحاولون به تأكيد حق اليهود التاريخي المزعوم في الأرض العربية التي سرقوها، ومثلما حاولوا اختلاق إسرائيل القديمة من خلال الأساطير التي روجوها فإنهم يحاولون استمرار تأريخي مزعوم لهذه لدولة إسرائيل في فترات التاريخ المختلفة.
ثالثًا: دراسة الكيان الصليبي مع التركيز على المشكلات الأساسية التي أدت إلى فشله ككيان دخيل، ودراسة إمكانيات النجاح للكيان الصهيوني المشابه مع مراعاة الثوابت والمتغيرات في الحركة التاريخية من ناحية والعلاقات الدولية من ناحية أخرى.
ولابد هنا من إشارة إلى حقيقة تاريخية مهمة وهي أن اليهود أتباع دين وليسوا أمة ، وأن اليهودية ديانة وليست قومية ، ومن ثم فإن الحديث عن التاريخ اليهودي أو الثقافة اليهودية يظل أوهامًا تروجها الصهيونية.
وبطبيعة الحال فإن الموقف اليهودي من الحروب الصليبية لا يستمد تياره من الروافد الأساسية الثلاثة فقط ، وإنما هناك روافد تختلف بدرجة أو بأخرى حسب الرؤية الشخصية أو الخلفية الثقافية الذاتية لكل من الذين تصدوا بالدراسة والبحث في هذا الموضوع، فهناك من يهتم ببعض الإسقاطات المعاصرة على الكيان الإسرائيلي في مسائل الأمن والعلاقة بالدول المجاورة ، وهناك أيضًا من يهتم بترويج بعض الأكاذيب التاريخية ، مثل عدم قدرة المصريين على القتال، ومن يحاول النيل من أبطال التاريخ العربي الإسلامي الكبير في فترة الحروب الصليبية بالتقليل من شأن عبقريتهم العسكرية والتاريخية ، مثلما تحدث البعض عن صلاح الدين الأيوبي؛ هذه كلها أمور أخرى فرعية هي التي تُميز باحثًا يهوديًا عن غيره ، بيد أنهم جميعًا يصبون في الروافد الثلاثة التي تصنع الموقف اليهودي العام من الحروب الصليبية.
أما الموضوع الثاني وهو محاولة سرقة التاريخ العربي من خلال محاولة اختلاق دور تأريخي لليهود في مواجهة الحركة الصليبية على أرض فلسطين فهو أمر يتصل بالدعاية السياسية للحركة الصهيونية وحرصها على استخدام الأدب وكتابة التاريخ كأداة من أدوات الدعاية أو إثارة أكبر قدر ممكن من الضجة حول المشكلة اليهودية على حد تعبير هرتزل فالمؤرخون اليهود يتحدثون عادة عن اليهود الذين قتلوا في فلسطين دفاعًا عن مدنهم وقراهم التي هاجمها الصليبيون ، ويركزون الحديث على يهود مدينة القدس ، ولكن هذا القول مردود بعدد الحقائق التاريخية الواضحة.
أولى هذه الحقائق أن اليهود في فلسطين عند قدوم الحملة الصليبية الأولى وقبلها بزمن طويل لم يكونوا يعيشون ضمن كيانات سياسية مستقلة ، ولكنهم عاشوا في رحاب العالم العربي الإسلامي باعتبارهم أقلية دينية يتمتعون بالحريات الدينية والاقتصادية والاجتماعية التي كفلتها لهم النظرية السياسية والإسلامية وتطبيقاتها التي تجعل من غير المسلمين أهل ذمة في دار الإسلام تجب على المسلمين حمايتهم لقاء ضريبة الجزية، ولأنهم لم يكونوا يعيشون في كيان سياسي مستقل فإنهم لم يكونوا يمتلكون الجيش أو الوسيلة العسكرية التي تمكنهم من التصدي للعدوان الصليبي.
كما أن القول بأن اليهود قد تصدوا لمقاومة العدوان الصليبي على المنطقة العربية الإسلامية التي عاشوا في رحابها آنذاك كان يقوم على عقيدة الجهاد التي هي فرض على المسلمين وحدهم ومن ثم لم يكن ممكنًا أن يلتحق غير المسلمين بالجيش الإسلامي، وإذا كانت المصادر قد حدثتنا عن مساهمات فردية من جانب المسيحيين الشرقيين في أعمال المساعدة العسكرية ضد الصليبين فإن هذه المصادر نفسها لم تذكر لنا مثلاً واحدًا على قيام اليهود بمثل هذه العمل، ومن ناحية أخرى فإن يهود ذلك الزمان لم يكونوا أهل قتال ، وهذه حقيقة وعلى جانب كبير من الأهمية ، لاسيما إذا وضعنا في اعتبارنا أن الجنود والمقاتلين المحترفين كانوا يتفرغون للحياة العسكرية طوال حياتهم نظرًا لما كان القتال يتطلبه آنذاك من مهارات عالية ولياقة جسمانية وتدريب مستمر ، فضلاً عن أنه لم يكن مسموحًا لعامة الناس بامتلاك الخيول والأسلحة باعتبارها من أدوات القتال.
ومن ناحية أخرى فإنه من الثابت تاريخيًا أن الحياة اليهودية داخل المناطق الصليبية قد ازدهرت، وقد ذكر الرحالة اليهودي الأسباني بنيامين التطيلى الذي زار المنطقة زمن نور الدين محمود معلومات طيبة عن أعداد اليهود في فلسطين زمن الحروب الصليبية ، وعن الحرف التي كانوا يشتغلون بها ، ومن خلال الأعداد الضئيلة التي ذكرها هذا الرحالة اليهودي ، ومن خلال حرف اليهود التي ذكرها نستطيع أن ندرك بسهولة أنهم لم يكونوا مؤهلين للقيام بهذا الدور الذي تحاول الدعاية الصهيونية اختلاقه لهم ، وتكشف كلمات بنيامين التطيلى والمقارنة بين أعداد اليهود في المناطق الصليبية وأعدادهم في المناطق الإسلامية عن أن اليهود في المناطق الإسلامية كانوا أكثر عددًا، كما كانت أكثر رقيًا ، ولكن أعدادهم كانت هزيلة بالقدر الذي يجعلنا نرفض قبول مثل هذا التزييف للواقع التاريخي.
ومن اللافت للنظر أيضًا أن حركة المقاومة التي بدأها المسلمون ضد الصليبيين لم تجذب انتباه اليهود في المنطقة العربية ، ولم يقوموا بأي جهد واضح وملحوظ في الصراع السياسي العسكري الذي دار آنذاك بين المسلمين والمستوطنين اللاتين طول ما يقرب من مائتي سنة ، وهو أمر يتمشى مع حقيقة حجمهم العددي ووضعيتهم الاجتماعية في البلدان العربية والمناطق الصليبية على حد سواء.
حقًا لم تفرق سيوف الصليبين بين المسلمين والمسيحيين العرب واليهود في مجزرة بيت المقدس ، فقد كانت النظرة الصليبية الدينية تجاه الفريقين واحدة تقريبًا، لقد قامت الفكرة الصليبية على أساس تكفير المسلمين واليهود باعتبارهم أعداء للمسيحية ، وعلى هذا الأساس منع الصليبيون المسلمين واليهود من دخول بيت المقدس ، وكانت ذريعتهم في ذلك أنه يجب تطهير الأماكن التي شهدت تجسد السيد المسيح ومعاناته وآلامه من أولئك الذين تسببوا في آلامه (اليهود) وأولئك الذين يضطهدون أتباعه المسلمين.
هذه النظرة هي التي حكمت تصرفات اللاتيني في المنطقة العربية تجاه المسلمين واليهود، ولكن بينما تصدى المسلمون لمقاومة الوجود الصليبي بشكل إيجابي كان الموقف اليهودي سلبيًا تمامًا، هذا الدور السلبي لليهود في إطار النظرة الصليبية الموحدة تجاههم هم والمسلمين لا يعطى للمؤرخين اليهود الحق في المساواة بين دور العرب المسلمين ودور اليهود في الصراع ضد الصليبين، ذلك أن مثل هذا الموقف يغفل تمامًا السلبية التي اتسم بها الموقف اليهودي منذ بداية الحركة الصليبية ، حيث قبلت الجماعات اليهودية الاضطهاد الذي حلَّ بها في أوروبا ، ولم تفعل شيئًا سوى الانتحار الجماعي، كما أن الجماعات اليهودية في فلسطين لم تكن تملك سوى أن تستسلم لمصيرها على أيدي الصليبيين.
وفي تصورنا أن هذا الموقف السلبي ناتج عن تشابه وضع الأقليات اليهودية في كل من أوربا والمنطقة العربية، وفي الحقيقة إن يهود المنطقة العربية قد عاشوا حياة أكثر أمنًا وتحركوا بحرية أكثر، وتقلدوا المناصب ، ولعبوا دورًا أكبر في حياة المجتمع ، ولكنهم ظلوا يتصرفون بعقلية الأقلية الغربية التي لا تريد لنفسها التورط في الدفاع عن شيء لا تملكه ،ولذلك كانت المقاومة السلبية من جانب الجماعات اليهودية في حوض الراين أشبه باستسلام الأقلية اليهودية في فلسطين، لقد اقتصر دور الجماعات اليهودية على إرسال رسائل التحذير من الصليبيين لرفاق دينهم وعلى طقوس الانتحار الجماعي ، ولكن هذه المقاومة السلبية لم تكن لتوقف المد الصليبي في أراضي الشرق أو تساعد على تغيير مجريات الأحداث.
ومن الأمور ذات الدلالة أن الحي اليهودي في مدينة بيت المقدس كان هو نقطة الضعف التي استفاد منها الصليبيون في حصارهم للمدينة ومنها شقوا طريقهم إلى داخل المدينة المقدسة.
هكذا إذن لا يمكننا أن نوافق على أن اليهود قد لعبوا دورًا مساويًا لدور العرب المسلمين في التصدي للغزو الصليبي ،وهو آمر نراه طبيعيًا لأن العرب هم أصحاب البلاد ،وقد جعلهم الغزو يتحولون في بعض المناطق من حكام إلى محكومين ومن أكثرية إلى أقلية، ولذلك كان لابد لهم من التصدي لهذه الحركة، وقد ظل العرب على مقاومتهم العنيدة قرابة قرنين من الزمان حتى تم لهم طرد الصليبين واسترداد بلادهم، وهو أمر يختلف تمامًا عن نظرة الأقلية اليهودية التي كانت أعدادها قليلة كما تركز نشاط أفرداها في بعض المهن المالية والصناعية ،ولم يزعجها شيء في استبدال حاكم بآخر سوى احتمال أن يكون الحاكم الجديد أقل تسامحًا من الحاكم السابق.
لقد كان المال هو خط الدفاع العربي الذي يستخدمه اليهود فإذا فشل هذا السلاح في مواجه الصليبين تجرد اليهود من كل سلاح، وعلى أية حال فإن محاولة سرقة التاريخ العربي وانتحال دور إيجابي لليهود أثناء فترة الحروب الصليبية ليس بالأمر الجديد أو الغريب على الاتجاه الفكري للحركة الدعائية الصهيونية إذ أن هذه هي الملامح الأساسية للقراءة الصهيونية للتاريخ عمومًا ولتاريخ الحركة الصليبية خصوصًا، ذلك أن كتاب الأدب والتاريخ واليهود منذ القرن التاسع عشر راحوا يعيدون قراءة التاريخ وفقًا للخطوط العامة للقراءة الصهيونية للتاريخ ولم يقف الأمر إلى القيام بعملية تشويه منظمة للتاريخ العربي، ولم تقتصر حركة التأليف اليهودي على الدفاع عن صورة اليهودي من جانب والتشويه لصورة العربي والمسلم من جانب آخر وإنما أخذت لنفسها بُعدًا ثالثًا يحاول إيجاد عملية ربط وتتابع بين ما أسموه زورًا وبهتانًا (الحضارة اليهودية) والحضارة المسيحية.
هذه الحركة التي كانت تهدف إلى إحياء ما يسمي بالوعي القومي اليهودي والدفاع عن الطابع القومي اليهودي في شتى أنحاء العالم لم تكن تملك لغتها القومية الخاصة إنما كانت تستخدم لغة المجتمع الذي تعيش في رحابه أو خليط من تلك اللغة مع بعض الكلمات والمصطلحات العبرية، كما أنها عاشت وفق العادات والتقاليد والثقافة السائدة في المجتمعات التي عاشوا في رحابها بحيث أن اليهود القادمين من أوروبا إلى المنطقة العربية في تلك العصور كانوا يبدون دهشتهم من عادات وتقاليد يهود العالم العربي.
وفيما يتعلق بالموضوع الأول أي الاضطهادات الصليبية ليهود أوروبا فالواضح أن المؤرخين اليهود يفضلون عادة أن يناقشوا موقف الصليبين من يهود أوروبا في إطار الموضوعات المتعلقة بتاريخ معاداة السامية، وهنا ينبغي أن نناقش هذه المسالة لنتبين حقيقة هذه الاضطهادات الصليبية ليهود أوروبا إبَّان أحداث الحركة الصليبية.
كانت المستعمرات اليهودية قد قامت منذ عدة قرون على طول الطرق التجارية في غرب أوروبا، وكان سكان هذه المستعمرات من اليهود السفارديم الذين نزح أجدادهم من عالم البحر المتوسط في العصور الوسطى الباكرة، وكان هؤلاء على علاقة بأبناء دينهم القاطنين في أرجاء الإمبراطورية البيزنطية والعالم الإسلامي مما أعانهم على القيام بدور مهم في التجارة العالمية في تلك العصور حين تسببت الغزوات الجرمانية وتدهور اقتصاديات غرب أوروبا في اختفاء التجار من غير اليهود من هذه المنطقة.
ومن ناحية أخرى قام أولئك اليهود بإنشاء بيوت لإقراض الأموال في شتى أنحاء الغرب الأوروبي، والواقع أنها لم تكن أكثر من أماكن السكن والإقامة التي عاش فيها المرابون اليهود، وكان الحكام العلمانيون وكبار الأساقفة والأساقفة يظللون هؤلاء اليهود بحمايتهم لقاء ما يقدمونه لهم من أموال.
ولكن الفلاحين والفقراء من سكان المدن الناشئة والذين تزايدت حاجتهم للمال بسبب التطور الاقتصادي في غرب أوروبا -والذي جعل الاقتصاد النقدي يحل تدريجيًا محل الاقتصاد الطبيعي القائم على المقايضة الذي عرفته العصور الوسطى الباكرة- كانوا يتورطون باطراد في ديونهم للمرابين اليهود بالقدر الكافي الذي جعلهم يشعرون بالسخط تجاه أولئك المرابين الذين كانوا يفرضون على عملائهم أرباحًا باهظة وصلت أحيانًا إلى خمسين بالمائة من قيمة الدين ، وخلال القرن الحادي عشر تصاعدت مشاعر العداء تجاه اليهود ؛ نظرًا لأن عدد من يقترضون المال منهم قد تزايدوا ، كما جاءت الحركة الصليبية وما صاحبها من تطرف ديني وهوس أخرى لتصب مزيدًا من السخط على نيران الكراهية ضد اليهود.
لقد كان الأساس الفكري للحركة الصليبية هو العداء للآخر ، سواء كان هذا الآخر هو مسلم أو مسيحي شرقيًا أو يهوديًا، ومن ناحية أخرى كان تجهيز الفارس في العصور الوسطى يتطلب نفقات كثيرة ، وإذا لم يكن لديه الأرض أو الممتلكات التي يستطيع رهنها تعين عليه أن يقترض المال من اليهود بالربا، وحين بدأت الحركة الصليبية كان محتمًا أن يتحول انتباه الناس إلى أولئك الذين عانى المسيح على أيديهم؛ فقد ظهر اتجاه يقول : إن المسلمين هم العدو الحالي لأنهم يضطهدون أتباع المسيح ، ولكن اليهود أسوأ منهم لأنهم اضطهدوا المسيح نفسه ، وأخيرًا هبت العاصفة التي كان نذيرها قد بات يتجمع منذ إعلان لأربان الثاني عن الحملة الصليبية في كليرمون أطاحت رياحها العاتية بالجماعات اليهودية في غرب أوروبا.
ولسنا هنا بصدد التعرض لتفاصيل الاضطهادات الصليبية لليهود في أوروبا ،ولكننا نحب أن نشير إلى حقيقة أن هذه الاضطهادات لا يمكن أن تدخل في السياق العام لما يسمى بمعادة السامية التي ابتدعها اليهود وروجوا لها لخدمة أهداف الحركة الصهيونية، فإذا كان التاريخ اليهودي قد شهد بعض حوادث العنف ضد الجماعات اليهودية في المجتمعات التي عاشوا في رحابها فان كل حادثة كانت إفرازًا لظروف خاصة بالمجتمع والعصر الذي حدثت فيه ،ولا يمكن أن نضعها جميعًا في سياق واحد، وتظل كل كارثة من هذه الكوارث قائمة بذاتها في إطار ظروفها التاريخية الخاصة فلا يمكن أن نضع الحوادث الناتجة عن التعصب الديني في إطار واحد مع الحوادث الناتجة عن التخلخل الاقتصادي أو الاضطراب السياسي مثلاً؛ ومن ثَمَّ فإن ما حدث أثناء فترة الحروب الصليبية لا يمكن ربطه بما حدث لليهود في أسبانيا على يد الغربيين من قبل، أو بما حدث لهم نتيجة لأحداث الوباء الأسود من بعد، كما أنه لا يمكن ربطه بما حدث لهم على أيدي الرومان في سنة 70 ميلادية أو ما حدث لهم في ألمانيا النازية في القرن العشرين، وهي مسألة فيها من الدعاية أكثر مما فيها من الحقائق التاريخية على أية حال.
لقد كانت الحروب الصليبية نفسها ميراثًا تخلف عن القرن الحادي عشر بما ساده من هوس ديني وحماسة وتطرف نتجت عن موجة التدين الشكلي النزق بين صفوف العلمانيين وعن حركة الإصلاح الكنسي ، ومن ثم كان لابد للحركة أن تصب نيرانها على أعداء المسيحية في الداخل والخارج ، ودليلنا في هذا أن الكُتَّاب اليهوديين أنفسهم يعترفون بازدهار الجماعات اليهودية في أوروبا طوال الفترة التي سبقت عصر الحروب الصليبية بغض النظر عما حدث في أسبانيا قبل الفتح الإسلامي.
ومن ناحية أخرى فإن الظروف الاجتماعية والاقتصادية المتغيرة في أوروبا القرن الحادي عشر فرضت الاعتماد على المرابين اليهود الذين حرصوا على إرضاء الحكام وكبار الأساقفة حتى يمكنهم الانفراد بضحاياهم من الفقراء، ولما كان المرابون في أي مجتمع محل كراهية الناس وحقدهم فإن الغطاء الديني الذي وفرته الحركة الصليبية للغضب ضد اليهود يسر لجموع الصليبين الهائجة أن تنتقم لنفسها من المستغلين.
لقد أدت الحمى الأخروية التي ألهبت مشاعر من ساروا في الحملة الشعبية إلى تأجج نيران هذا الغضب بحيث جاءت مذابح سنة 1096 م نهاية للعصر الذهبي ليهود شمال غرب أوروبا ،وكانت كل حملة صليبية تالية ترتكب مذابح مماثلة ضد اليهود ،بحيث عاشت الجماعات اليهودية بشكل مستمر في ظل العزلة والخوف.
ولسنا نقصد هنا الدفاع عن سلوك الصليبين تجاه يهود شمال غرب أوروبا ولكننا نود أن نوضح هذه المذابح والاضطهادات التي جرت على اليهود آنذاك، ويمكن دراستها باعتبارها ظاهرة تاريخية قائمة بذاتها، سواء من حيث الظروف التاريخية التي أفرزتها أو من حيث النتائج التي أدت إليها ، ولكننا لا نستطيع أن نوافق على المحاولة التعسفية لوضعها في السياق العام لما يسمى بمعاداة السامية؛ والناظر في الابتزاز الصهيوني الحالي للأوربيين والأمريكيين بالإفراط في استخدام سلاح معاداة السامية ضد كل من ينتقد السلوك الوحشي للإسرائيليين ضد الفلسطينيين العزل يمكنه أن يفهم بسهولة لماذا تستخدم القراءة الصهيونية لتاريخ الحركة الصليبية ، هذا السلاح في تفسير الأحداث التي جرت منذ حوالي تسعمائة سنة، كما أن البابوية الحديثة “الفاتيكان” قد خضعت لهذا الابتزاز الصهيوني بتبرئة اليهود من دم المسيح في الستينات واعتذرت لهم عما جرى إبان الحروب الصليبية في بداية القرن الحادي والعشرين.
ومن الأمور المثيرة أن الحركة الصليبية قد استخدمت في دعايتها القصص التي ذاعت عن الاضطهادات التي يلقاها مسيحيو الشرق على يد المسلمين ، وانطلق الدعاة والمبشرون يروجون لهذه القصص حتى تأججت نفوس المسيحيين بالرغبة في قتل المسلمين ، ثم امتدت هذه النزعة العدوانية لتحل باليهود باعتبارهم هم من أعداء المسيح والكنيسة ، ثم جاءت الحركة الصهيونية لترتبط منذ بدايتها بالعمل الدعائي والحرب الإعلامية ، إذ قال هرتزل في واحدة من خطبة الأولى: أن نخلق أكبر قسط من الضوء حول المشكلة اليهودية ،وإذا كان استخدام الأدب والفن وكتابة التاريخ إحدى وسائل الدعاية السياسة للحركة الصهيونية فإننا يمكن أن نفهم حقيقة الموقف اليهودي من استغلال المذابح الصليبية ضد اليهود أثناء فترة الحروب الصليبية.
وبعد نجاح الحركة الصهيونية في سرقة الوطن الفلسطيني وزرع الكيان الإسرائيلي عليه بدأ الإسرائيليون يحاولون سرقة التاريخ والتراث العربي ، بل إن المشكلة تعدت حدود البحوث والدراسات التي يمكن الرد عليها وتفنيدها، لقد سرق الصهاينة الوطن الفلسطيني وراحوا يختلقون لأنفسهم وجودًا تاريخيًا على الأرض العربية ، وامتدت أياديهم تسرق التراث والفن والتقاليد العربية وتنسبها إلى الإسرائيليين ، فهناك على سبيل المثال مركز إسرائيلي للدراسات والبحوث الفولكلورية تابع للجامعة العبرية في القدس ، وهو يهتم بجمع وتسجيل ما يسمى بالتراث الفولكلوري الإسرائيلي، لهذا المركز أرشيف يضم آلاف النصوص الشعبية وهو أمر يثير الدهشة والتساؤل على حد تعبير أحد الباحثين ، فكيف يمكن أن يوجد ما يسمى الفلكلور الإسرائيلي ، ولم يكن هناك قبل سنة 1948 شعب اسمه الشعب الإسرائيلي ، ولم تكن هناك دولة اسمها إسرائيل، ذلك أن الحقيقة العلمية تفترض أنه لكي يكون لشعب ما تراث شعبي فإنه ينبغي أن يكون هناك وطن يعيش فيه، ولغة يستطيع أن يبدع فيها ، وأن يعبر بها عن نفسه، ومن الثابت تاريخيًا أن ذلك لم يحدث؛ فالأدب العبري مثلاً مصطلح يطلق على أدب لم يدون في وطن بعينه أو لغة بعينها، بل في مختلف دول الشرق والغرب قديمًا وحديثًا، والقليل منه هو الذي وصلنا في العبرية سواء قبل الميلاد أو بعده.. “.
وما يقال عن اللغة العبرية يقال أيضًا عن الشعب الإسرائيلي الذي يتكون من جماعات تنتسب إلى قوميات مختلفة وثقافات متعددة ومراحل حضارية متفاوتة، ولا يجمع بينهما سوى الدين اليهودي الذي لا يمكن أن يكون وحده أساسًا لقيام الأمة، وإذا سلَّمْنا بوجود تراث شعبي ديني لليهود فإننا لا يمكن أن نوافق على أنه كان لليهود تراث شعبي علماني واحد منفصل عن تراث الشعوب التي عاشوا بين ظهرانيها، وعلى أية حال فإن اليهود يبذلون جهدًا كبيرًا من أجل إيجاد ذاتية لهم وتراث أو ثقافة واحدة تجمعهم، وهم في هذا السبيل يسرقون التراث العربي وينسبونه لأنفسهم وبين يدي العالم الآن آلاف الدراسات فيما يسمى بالفلكلور اليهودي والميثولوجيا اليهودية والعادات والتقاليد والاحتفالات اليهودية وغيرها مما ينسبونه إلى إسرائيل والشعب الإسرائيلي.
ومن المثير أن هذه كلها أمور هي صميم من تراث الشعوب العربية ،فالأمثال العامية التي تتعلق بالولادة وتربية الأطفال مثلاً والتي تنسبها الدعاية الصهيونية إلى اليهود مازالت سارية إلى اليوم في أرجاء العالم العربي.
بل إنهم راحوا يطرحون في الأسواق العالمية لاسيما في أوروبا وأمريكا الملابس العربية المطرزة والحلي والجواهر والمشغولات المعدنية العربية ، فضلاً عن أصناف الحلوى العربية الحلويات الشامية والأطعمة المصرية والفلسطينية والسورية والمغربية وغيرها ، ويدعون أنها جميعًا من نتاج التراث الشعبي أو الإسرائيلي ، وتكتمل جوانب المخطط اليهودي لسرقة التاريخ والتراث العربي بالرقصات والأغنيات الشعبية العربية التي يقدمونها باعتبارها فنونًا شعبية إسرائيلية.
وتأتي سرقة الآثار العربية من المناطق التي يحتلها الإسرائيليون لتكون برهانًا ماديًا على جريمة سرقة التاريخ العربي التي يريدون بها تدعيم سرقتهم للوطن الفلسطيني، فقد اشتهر عدد كبير من قادة الكيان الصهيوني بالتنقيب عن الآثار ، وقد سرقوا كثيرًا من الآثار من فلسطين والأردن وسوريا وسيناء ، كما أنهم نشطوا تمامًا أثناء الغزو الإسرائيلي الأخير للبنان في سرقة الآثار بشكل يهدد السمعة التي تتمتع بها المنطقة العربية في هذا المجال، والمشكلة أفدح وأخطر من أن نغض الطرف عنها ، فقد يأتي يوم ينظر فيه العالم إلى المنطقة العربية على أنها تعيش عالة من الناحية الحضارية على تراث إسرائيل وإبداع الشعب الإسرائيلي المستمر المتواصل عبر الزمان والمكان ، وهم لا يدخرون وسعًا في هذا السبيل، وموقفهم من الحروب الصليبية ومحاولة اختلاق دور إيجابي ليهود العالم العربي في مواجهتها جانب من جوانب هذه المحاولة التي يجب التصدي لها بالعقل والعلم والصبر.
أما الموضوع الثالث في الموقف اليهودي من الحركة الصليبية فهو نابع من إدراكهم لحقيقة الوظيفة الثقافية والاجتماعية للتاريخ كعلم فهم يدرسون تاريخ الحركة الصليبية مع التركيز على الوجود اللاتيني فوق أرض فلسطين وطبيعة علاقات الصليبين بشعوب المنطقة وعوامل النجاح التي حققت لهم الانتصارات الأولية ثم عوامل الفشل والإخفاق التي أدت إلى رحيل الصليبيين من المنطقة العربية ونهاية دولتهم وإذا كنا نؤمن إيمانًا قاطعًا بأن التاريخ لا يعيد نفسه فإننا ندرك أيضًا أن الظروف التاريخية المشابهة يمكن أن تؤدي أيضًا إلى نتائج مشابهة وليست متماثلة، ومع تسليمنا بوجود الكثير من أوجه الاختلاف بين الحركة الصليبية والحركة الصهيونية من ناحية وبين الكيان الصليبي والكيان الإسرائيلي من ناحية أخرى فإن هناك جوانب أساسية للتشابه بينهما ، فكلتا الحركتين استعمارية استيطانية تسربت برداء الدين ، وارتكزت على مفهوم الخلاص وفكرة الشعب المختار والأرض الموعودة ، وهي أفكار أعلنها البابا أربان الثاني صراحة بكليرمون عشية الحروب الصليبية ، كما روجت لها القراءة الصهيونية عشية الهجوم على فلسطين وما تزال ترددها.
وكلٌ من مجموعات بشرية متفاوتة الثقافات والدرجات الحضارية زُرَع في أرض عربية اللسان إسلامية الثقافة شرقية السمات، كما أن الصليبين والصهاينة يشتركون في الاعتماد على مساندة الظهير من خارج المنطقة كما هو الغرب الأوربي في كلتا الحالين ، فضلاً عن جوانب أخرى تشابه فيها الصليبيون الإسرائيليون ، منها الطابع العسكري للمجتمع ، وتوظيف كافة موارد هذا المجتمع من أجل الحرب ، ومنها العنصرية التي تخفى خلف ستار الدين وما إلى ذلك.
هذا التشابه هو الذي يغري الكثيرين من الدراسيين اليهود بدراسة تاريخ الحركة الصليبية وتسخير نتائج دراساتهم في دراسة مستقبل الكيان الصهيوني، ولاشك في أن المتغيرات في تاريخ العلاقات الدولية قد أوجد عوامل جديدة لم تكن قائمة في العصور الوسطى، كما أن التطور التكنولوجي المذهل أوجد حقائق كثيرة في مجال الصراع لاسيما ما يتعلق منه بعمليات التسليح وأساليب الحرب الحديثة وأسلحة الدمار الشامل بكل تداعياتها السياسية والأمنية؛ بيد أن هذا لا يمنع من دراسة تاريخ الحركة الصليبية وعيوننا على الحركة الصليبية ، لاسيما وأن المسرح الذي شهد كلاَ من الحركة الصليبية والحركة الصهيونية واحد، كما أن الشعب العربي هو الذي تصدى للعدوان الصليبي بالأمس وعليه أن يتصدى للعدوان الصليبي اليوم، ويجدر بنا في هذا المقام أن نشير إلى أن مثل هذه الدراسة لم تكن وقفًا على الباحثين اليهود وحدهم ، فقد اهتم كثيرون من الباحثين المسلمين والمسيحيين برصد عوامل الفشل التي قضت على الوجود الصليبي في المنطقة العربية قبل حوالي سبعمائة سنة.
هذه بشكل عام هي المسارات الأساسية الثلاثة للموقف اليهودي من الحروب الصليبية، فإذا انتقلنا إلى دراسة الموقف الإسرائيلي لوجدناه يتوازى مع الموقف اليهودي العام وإن خرجت منه مسارات فرعية تفرضها طبيعية الكيان الإسرائيلي ومن يعيشون في نطاقه مشكلة الأمن والحدود الطبيعية وما تستوجبه من بناء طرق سريعة وإقامة جيش قادر خفيف الحركة، ومحاولات تزييف الوعي بطبيعة الشعوب العربية المتصارعة مع إسرائيل والإسقاطات المعاصرة على تاريخ الحركة الصليبية ومحاولة النَّيل من أبطال التاريخ العربي ورموز الجهاد فيه.. كلها روافد تتضافر مع المسارات الثلاثة الأساسية لتخلق ما يمكن أن نسميه بالقراءة الصهيونية للحروب الصليبية.
(المصدر: هيئة علماء فلسطين في الخارج “نقلاً عن موقع التاريخ”)