مقالات

الموقف الحضاري لعلماء الإسلام.. حديث

بقلم محمد إلهامي

في كل عصر غرائب، ثم يأتي العلم فإما أن يثبت أنها خرافة، وإما أن يعطي التفسير العلمي لهذه الظاهرة الغريبة.. وفي كل عصر شجعان تصدوا لمحاربة الخرافات، وهؤلاء يكونون روَّاد النهضات وجذورها..

في هذه الدراسة سنرى كيف تعامل العلماء المسلمون مع ظاهرة غريبة، هي انتقال المرض من شخص إلى آخر، لم يكن العلم قد أثبت أن العدوى حقيقة علمية، ثم جاء الشرع بنصوص تحتمل بعض الأوجه، فتعددت الأفهام في المسألة، كل فهم على قدر ما أوتي من الذكاء ومن معارف العصر.. وسنرى أيضا كيف كان منهج العلماء في التعامل مع نصوص القرآن والسنة في ضوء ما يستجد من العلوم والمعارف.

ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث لم نعرف إعجازها العلمي إلا في أيامنا هذه، مثل قوله –صلى الله عليه وسلم- “إِذَا سَمِعْتُمْ بِالطَّاعُونِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوهَا وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا مِنْهَا”[1].

وقوله: “لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ[2] وَلاَ هَامَةَ[3] وَلاَ صَفَرَ[4]، وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ”[5].

وما ورد من أنه –صلى الله عليه وسلم- حين كان يستقبل وفود القبائل للمبايعة، كَانَ فِى وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِىُّ: “إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ”[6]، ولم يستقبله أو يصافحه كما هو المعهود في أخذ البيعة.

ولكن ورد عنه حديثين آخرين يفيدان في ظاهرهما لأول الأمر نفي وجود العدوى، حديث أبي هريرة أنه –صلى الله عليه وسلم- قال: “لَا عَدْوَى وَلَا صَفَرَ وَلَا هَامَةَ فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا فَقَالَ فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ”[7] .

كما روى جابر (رضي الله عنه) أنه – صلى الله عليه وسلم- أخذ بيد مجذوم فأدخله معه في القصعة ثم قال “كل بسم الله ثقة بالله وتوكلا عليه”[8]، أي أكل معه.

وجوّ الأحاديث هي أنها تنهى عن التشاؤم والوساوس والتعلق بالأوهام، وتؤكد الإيمان والتسليم بقدر الله تعالى، وأن كل شئ يجري بأمره، فكان طبيعيا أن يختلف علماء العصور الماضية في التوفيق بين هذه الأحاديث.

إن الموقف الذي يحترمه العقل، والذي هو موقف متطور في ذلك الزمان، أن يرفض العلماء تعليق الناس بالأساطير والخرافات والأوهام، وأن يحاربوا الاعتقادات المبنية على الظنون وعلى التشاؤم أو على الكهانة أو على قراءة الطالع، وبالمجمل: أن يرفضوا كل ما من شأنه ألا يقوم في العقل على أساس متين.

وفي عصر لم يثبت فيه بشكل قاطع وجود شيء اسمه “العدوى” في المرض، كان من الطبيعي أن يظن كثير من العلماء عدم وجود العدوى أساسا، تعلقا بقوله صلى الله عليه وسلم “لا عدوى”، وأن تصبح العدوى حينها شيء من خرافات الناس وأوهامهم مثل تشاؤمهم ببعض الأشياء، ومثل تعلقهم بالأنواء والودع وقراءة طوالع النجوم، وكان طبيعيا أكثر أن يختلفوا في الترجيح بين هذه النصوص التي يبدو في ظاهرها التعارض، وأن يميل كثير منهم إلى محاولة تفهم الحكمة من أقوال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الإطار.. إطار رفض ونفي ومحاربة أوهام الناس واعتقاداتهم الباطلة التي ليس لها أساس.

والحقيقة أن الموضوع لا يمكن فهمه بشكله الصحيح إلا بعد أن ثبت وجود العدوى بشكل علمي قطعي في الأمراض. وهذا ما لا يمكن أن نطلبه ممن عاش قبل قرون[9].

ولقد استعرض الحافظ ابن حجر مسالك العلماء في التوفيق بين الأحاديث فبلغت ثلاثة مسالك، ورغم أن لكل فريق أدلته فسيرى القارئ كم هي توفيقات ضعيفة ومتهافتة للخطأ في “فهم” النصوص وتوقف هذه الأفهام عند العلوم والمعارف في عصرها:

  1. بعضهم رأى عدم الفرار من المجذوم وقال بأن الأحاديث التي قالت هذا منسوخة.
  2. ورفض الأكثرون دعوى النسخ لأنه لابد للنسخ من دليل قوي، وبما أنه لا دليل على ذلك فقد قالوا بجواز القرب من المجذوم والأكل معه ولكن يستحب الابتعاد عنه أو الفرار منه.
  3. وسلك آخرون مسلكا في الترجيح بين هذه النصوص، ففريق يرجح نصوص وجود العدوى ويبحث عن تضعيف للأحاديث التي تنفيها، وفريق يرجح نصوص عدم وجود العدوى ويبحث عن تضعيف للأحاديث التي تُثبتها. ولكن، وحيث أن الحقيقة أن النصوص التي تنفي العدوى وتثبتها نصوص صحيحة، كان مسلك الجمهور هو الجمع بين هذه الأحاديث والتوفيق بينها، وبلغت محاولات التوفيق فيها ستة آراء، ذكرها ابن حجر، ملخصها:

– فريق قال بأنه لا وجود للعدوى، وحديث “فر من المجذوم” إنما هو رعاية لمشاعر المجذوم الذي يُحزنه أن يرى السليم المعافى.

– وفريق قال بأنه لا وجود للعدوى فلهذا كان الاقتراب من المجذوم والأكل معه جائزا لذي اليقين والتوكل على الله والذي لن يَشك في أنه لو أصيب فإنما أصيب بقدر الله، وأما نهي النبي عن الاقتراب من المجذوم ودخول أرض الطاعون فهي لعامة الناس ممن يُخشى على إيمانهم ويقينهم، فهم إذا أصيبوا آمنوا بالعدوى وضعف إيمانهم في أن كل شئ بأمر الله وقضائه فلهذا نهاهم النبي لئلا يتعرضوا لهذه المحنة في الدين.

– فريق قال بأنه لا وجود للعدوى إلا في أمور الجذام والبرص والجرب، فاعتبر النص العام هو نفي العدوى، ويخصصه نص الجذام.

– أما القول الصحيح وهو الذي قال به الجمهور من العلماء، ويغلب على الظن أنه المعنى الصحيح للحديث فهو أن العدوى موجودة ولكن قوله صلى الله عليه وسلم “لا عدوى” إنما يعني أن الأشياء والأمراض ليست لها قدرة خارجة عن قدرة الله، فالنفي في الحديث كان نفيا لاعتقاد الجاهليين من إضافة الفعل إلى غير الله تعالى، ولكن الله يجعل مخالطة الصحيح للمريض بمرض معد من الأسباب التي يمرض بها الصحيح.

وذكر ابن حجر أن هذا مذهب أكثر الشافعية، ومذهب ابن الصلاح وآخرين[10]، ورجح النووي هذا الرأي وقال بأنه رأي الجمهور: “فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء ويتعين المصير إليه”[11].

وإذاً، فكل هذا الخلاف الدائر كان لسبب واحد، ألا وهو أن الدليل العقلي (العلمي) لم يكن قطعيا (مؤكدا)، ولو أن العدوى كانت ثابتة بيقين لما ظهر الخلاف، ولاجتمعت الأقوال عند تفسير الحديث بأن المراد من النفي هو نفي استقلال الأشياء عن إرادة الله وقدرة الله (وهو الرأي الأخير)، وحينئذ ينتهي الخلاف تماما. وبهذا تجتمع الأحاديث الصحيحة وتتفق مع بعضها ومع العلم الحديث.

ولا يمكننا، إذا أردنا الإنصاف، أن نناقش هذه الأقوال بمعزل عن المعركة التي كانت تخوضها، معركة نسف الأساطير والخرافات والأوهام والتعلق بالظنون، فموقف نفي العدوى في وقته وحينه كان موقفا حضاريا ومتقدما وعقلانيا أيضا، فضلا عن كونه منسجما مع وجه تأويل للنص الشرعي.

ومثل هذا كثير جدا في أقوال العلماء القدامي الكبار، وهم -مهما بلغوا- أبناء عصرهم، فإذا جاء من يُخرج لنا اختياراتهم “العصرية” هكذا بغير خلفية الزمان والمكان والمعركة التي يخوضونها في وقتهم، ومبلغ العلوم في عصرهم، لأساء لهم إساءة بالغة، وشوه سيرتهم واتهم علمهم، بل الحق لأساء إلى نفسه ومنهجه وأبان عن ضيق أفق وقلة نظر، وكان كالحاطب بليل، ومثل هذا لا يقبل منه بعدئذ شهادة ولا حكم.

ولهذا فما إن ثبت وجود “العدوى” كحقيقة علمية إلا وقاد العلماء مهمة نفي “الأفهام” الخاطئة، وكان على رأسهم في هذا السبيل رجل كالإمام ابن القيم[12] الذي انتهى به الرأي إلى التشكيك في الحديث الصحيح لأجل الدليل العقلي القطعي، فكان أن أفرد فصلا في كتابه (زاد المعاد) عنوانه “فصل في هديه صلى الله عليه وسلم في التحرز من الأدواء المعدية بطبعها وإرشاده الأصحاء إلى مجانبة أهلها”[13]، وقال فيه خلاصة رأيه فذهب إلى أن الأحاديث التي تنفي العدوى غير ثابتة، واعتبر أن سكوت أبي هريرة وتوقفه عن التحديث بما ينفي العدوى يشير إلى أنه وَهِمَ فيه، وضَعَّفَ حديث جابر {، ثم قال: “فهذا شأن هذين الحديثين اللذين عورض بهما أحاديث النهي أحدهما: رجع أبو هريرة عن التحديث به وأنكره، والثاني: لا يصح عن رسول الله r والله أعلم”[14].

مع أن حديث أبي هريرة هذا له طرق أخرى صحيحة من غير طريق أبي هريرة كما قال ابن القيم نفسه من قبل في مفتاح دار السعادة[15]. ولكن ابن القيم الذي ثبت عنده بالدليل القطعي وجود العدوى يسير على قاعدة واضحة في التعامل مع النصوص الشرعية التي ظاهرها التعارض، وهي قوله:

“فإذا وقع التعارض فإما أن يكون أحد الحديثين ليس من كلامه صلى الله عليه وسلم وقد غلط فيه بعض الرواة مع كونه ثقة ثبتا فالثقة يغلط أو يكون أحد الحديثين ناسخا للآخر إذا كان مما يقبل النسخ أو يكون التعارض في فهم السامع لا في نفس كلامه صلى الله عليه وسلم فلا بد من وجه من هذه الوجوه الثلاثة. وأما حديثان صحيحان صريحان متناقضان من كل وجه ليس أحدهما ناسخا للآخر فهذا لا يوجد أصلا ومعاذ الله أن يوجد في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج من بين شفتيه إلا الحق والآفة من التقصير في معرفة المنقول والتمييز بين صحيحه ومعلوله أو من القصور في فهم مراده صلى الله عليه وسلم كلامه على غير ما عناه به أو منهما معا ومن ها هنا وقع من الاختلاف والفساد ما وقع”[16].

إن منهج العلماء من قديم أن يعيدوا النظر في “فهمهم” و”فهم أسلافهم” للنصوص إذا ثبت بالعلم ما يخالف ظاهرها، ودائما يوجد وجه الجمع بين معارف العلم الحديث ونصوص القرآن والسنة، وهذا من الإعجاز القرآني والنبوي ومن دليل صلاحه لكل زمان، فأهل كل زمان يفهمون منه على قدر معارفهم حتى تظهر معارف أخرى جديدة فنجد للحديث أو للآية معنى آخر هو أشد إعجازا.

———————————

[1] البخاري (5396) ومسلم (2218).

[2] الطيرة: هي التشاؤم

[3] الهامة: طائر كانت العرب تتشاءم منه، وقيل هي البومة، أو هو نفي النبي لما كانت العرب تعتقده من أن عظام الميت أو روحه تنقلب هامة تطير. انظر: النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج،، دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة الثانية، 1392هـ. 14/214، 215.

[4] الصفر: قيل هو دود يسبب مرضا في البطن، وهو مُعدٍ، وكانت العرب تخاف منه أكثر من الجرب، وقيل هو شهر صفر والمراد هنا النهي عن النسئ الذي كانت تفعله العرب وهو تأخير حرمة القتال من الأشهر الحرم إلى غيرها، ومنها تأخير المحرم إلى صفر. انظر: النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 14/214، 215.

[5] البخاري (5707).

[6] مسلم (2231)، ابن ماجه (3544).

[7] البخاري (5387) ومسلم (2220).

[8] الترمذي (1817). وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث يونس بن محمد عن المفضل بن فضالة، وضعفه الألباني في التعليق على سنن الترمذي.

[9] ومن يدري ربما كان للأحاديث فهم آخر أصح من هذا سيكتشفه من بعدنا بقرون، وسينظرون إلى كلامنا الآن كما نظرنا نحن إلى كلام أسلافنا رحمهم الله.

[10] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ. 10/158: 163.

[11] النووي: المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج 14/213.

[12] لابد من الإشارة هنا إلى أن المختصين بالطب من علماء الحضارة الإسلامية أثبتوا وجود العدوى، بل الحقيقة أنهم أول من أثبت هذا علميا، وهذه شهادة المستشرق الكبير والطبيب المختص بالعيون “ماكس مايرهوف” في مبحثه (العلوم والطب) المنشور بكتاب (تراث الإسلام – بإشراف أرنولد)، وفيه يذكر أقدم أقوال في ثبوت العدوى وهو قول لسان الدين بن الخطيب (وهو المؤرخ المشهور صاحب كتاب الإحاطة في أخبار غرناطة – ت 776 هـ = 1374م) “وقد ثبت وجود العدوى بالتجربة والاستقراء والحس والمشاهدة والأخبار المتواترة وهذه مواد البرهان”، كما نقل عن ابن خاتمة (ت771 هـ = 1369م) قوله “وجدت بعد طول معاناة، أن المرء إذا ما لامس مريضا، أصابه الداء وظهرت عليه علاماته، فإن نرف الأول دما، نزف الآخر، وإن ظهر في الأول ورم ظهر على الآخر أيضا… وهذا هو سبيل انتقاله من المريض الثاني إلى الثالث…”، انظر: تراث الإسلام بإشراف أرنولد، ترجمة جرجيس ترجمة جرجس فتح الله – بيروت، 1973م. ص487، 488. (ولم أستطع الحصول على المصادر الأصلية، ورسالة ابن خاتمة في الطاعون ما تزال مخطوطة لم تطبع على حد علمي)، وكلا الطبيبين –ابن الخطيب وابن خاتمة- كانا معاصرين لابن القيم الذي توفي عام 751هـ.   إلا أنه ينبغي أن نضيف –للحقيقة العلمية والتاريخية- أن علماء الطب المسلمين كانوا قد اكتشفوا العدوى قبل ذلك بأكثر من ثلاثة قرون على أقل تقدير، وهذا الطبيب النابغة علي بن العباس المجوسي (توفي نحو 400هـ = 1009م)، يقول في كتابه (الكامل في الصناعة الطبية) بوضوح: “فأما التحرز من الأمراض المعدية كالجذام والجرب والسل والبرسام والجدري والرمد، فإن هذه الأمراض تُعدي من يجالس صاحبها؛ فينبغي أن لا يجالس الإنسان أمثال هؤلاء، ولا يأوي مع من هذه حالته في بيت واحد، وأن يتباعد عنهم إلى مواضع تكون فوق الرمح”. انظر: الكامل في الصناعة الطبية، علي بن العباس المجوسي، ص64، 65. فهذا يؤكد أن المسلمين عرفوا أمر العدوى في الأوساط الطبية منذ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري على الأقل.

[13] ابن القيم: زاد المعاد في هدي خير العباد مؤسسة الرسالة، بيروت الطبعة السابعة والعشرون , 1415هـ /1994م. 4/134.

[14] ابن القيم: زاد المعاد 4/134.

[15] انظر: مفتاح دار السعادة 2/264، وبصحة الطرق الأخرى قال النووي في المنهاج 14/214، وكذا قال ابن حجر في الفتح 10/160.

[16] ابن القيم: زاد المعاد 4/134.

المصدر: رابطة العلماء السوريين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى