بقلم محمد الفوزان
لم تنته مصيبة المسلمين في الأندلس بزوال حكمهم ورحيل سلطانهم أبي عبد الله الصغير إلى المغرب، فقد ذكرت المصادر التاريخية أن المسلمين الباقين في الأندلس عاشوا حياة صعبة بعد زوال الحكم الإسلامي عن إسبانيا، بل حلت مصيبة كبرى بهم؛ حيث نقض الملكان الكاثوليكيان المتطرفان، فرديناند و إيزابيلا العهد الذي أبرم معهم، ووضعا خطة إبادة للمسلمين في الأندلس لعقيدتهم الدينية، فشكَّلا محاكم التفتيش التي تتعقب من يؤدي شعائر الإسلام بأي صورة، فكان من جرّاء ذلك أن أظهر عدد من المسلمين المسيحية وأبطنوا الإسلام، وهم الموريسكيون
(Los Moriscos) أي المسلمون الصغار.
وبقي المسلمون في الأندلس، أو الموريسكيون، هؤلاء يقاومون الاضطهاد ما يزيد على القرن من الزمان، ورغم كل وسائل العنف والإرهاب التي استعملتها السلطات ومحاكم التفتيش في تنصير الموريسكيين، إلا أنهم استمروا في ممارسة شعائر دينهم بسرية، فكانوا يؤدون فروض الصلاة سرا في بيوتهم، ويصومون سرا، ويغلقون بيوتهم يوم الأحد حتى تعتقد السلطات الإسبانية المُجرمة ذهابهم إلى الكنيسة.
ولكي يدخل الموريسكيون النصرانية كان لا بد من تعميدهم وتعميد أطفالهم، فكانوا يذهبون قسرا للكنيسة لإجراء عملية التعميد، ثم يقومون بغسل أطفالهم بعد رجوعهم إلى بيوتهم مباشرة، وكانوا يعقدون حفلات الزواج على الطريقة الإسلامية سرا بعد إجراء الاحتفال العلني في الكنيسة.
ولهذا أصبحت تعاليم الإسلام وممارساته تقاليد موروثة، يتوارثها الأبناء عن الآباء، جيلًا بعد جيل في حلقات مغلقة، لها صفة المجالس السرية.
اليوم عادت هذه الممارسات في طمس هوية المسلمين في مكان آخر، وهو تركستان الشرقية، التي دخلها الإسلام في أواخر القرن الأول الهجري، وقامت فيها ممالك إسلامية، وكانت المنطقة، على مدى قرون، حلقة الوصل بين الصين والعالم الغربي عبر ما كان يسمى “طريق الحرير”، وفي العام 1949 ضمتها الصين إليها، ومنذ ذلك التاريخ وهي تحاول جاهدة طمس هويتها وتغيير ثقافتها، بهدم المساجد وملاحقة العلماء والدعاة وتغييبهم في السجون، واستهداف الشباب المسلم بشتى الوسائل، ومنها “مراكز التأهيل لتعاليم الحزب الشيوعي الصيني” التي هي أسوأ من السجون في جميع أنحاء تركستان الشرقية، وبدأت هذه منذ مطلع 2016، ويقدر عدد المعتقلين فيها ما يزيد عن مليون مسلم، وكل من احتجز فيها لم يخرج، وهي أشبه بمعسكرات نازية لإبادة شعب الأويغور، وأغلب محتجزيها من المتدينين والعلماء والمثقفين.
خلال سنتين تم هدم نحو 20 ألف مسجد من أصل 24 ألفا، ويعتبر وجود مصحف وسجادة صلاة في البيوت جريمة، والقرى والمدن أصبحت خالية من الرجال، لأن الملايين في السجونمن دون تُهم!
وهي مع ذلك يمنى كل ذلك بالفشل بسبب تمسك المسلمين بهويتهم الثقافية والدينية، ويبدو أنّ السلطات الصينية استنفدت جميع وسائلها لطمس الهوية الإسلامية في تركستان الشرقية، إقليم شينغيانغ حالياً، وقرّرت اللجوء إلى وسيلة أشدّ وطأة، في محاولة منها لثني المسلمين عن دينهم، والتضييق على شعائرهم الدينية، فقد توصلت عقلية سلطات بكين إلى اتخاذ قرار غير مسبوق ضد أقلية الإيغور المسلمة التي تشكل غالبية سكان تركستان، وهو حظر تداول كلّ ما هو إسلامي، بما في ذلك نسخ المصحف الشريف، وسجادة الصلاة ، وطالبت السلطات المسلمين بتسليم كل متعلقاتهم الدينية، وتوعدت المخالفين في الوقت نفسه.ما تفعله الصين في تركستان الشرقية ليس جديداً، إذ سبق لها أن منعت المسلمين من الصوم خلال شهر رمضان مرات، ومنعت المطبوعات الإسلامية من التداول في مناطق الإقليم، ولم يكن قرار حظر المصحف الشريف إلا امتداداً لسلسلة طويلة من الإرهاب الفكري الذي تمارسه سلطات بكين ضد الإيغور.
أنّ تحظر الصين المصحف في منطقة يقطنها 22 مليون مسلم، من دون أدنى احترام لحرية الإعتقاد، تلك إهانة ليس لهؤلاء الملايين فقط، إنّما لمليار ونصف المليار مسلم، وهذا يستوجب تحرّكا إسلاميا لوقف هذا الأمر، والعمل على منح مسلمي تركستان حقهم في حرية الاعتقاد، والتي كفلها حتى الدستور الصيني نفسه، كما على الشعوب المسلمة أن تضغط بكل ما تقدر على الحكومات والأنظمة، لتتحرك نصرة للحقوق الأساسية والإنسانية للمسلمين من أقلية الإيغور، والضغط على حكومة بكين لوقف ممارساتها الآخذة في التصعيد، خصوصاً في الفترة الأخيرة.
تدرك الصين جيداً أنّها كلّما ضيّقت الخناق على المسلمين في دينهم دفعهم ذلك إلى التمسك به، وقرارها أخيرا حظر المصحف إنّما يعكس حالة التخبّط والخيبة التي أصابت السلطات، وهي تشاهد تعثر خطواتها في طمس الهوية الإسلامية.
قد تنجح الصين في مصادرة نسخ المصحف الشريف، لكنها لن تستطيع انتزاع القرآن من قلوب مسلمي الإيغور وحياتهم العملية، وكل المحاولات تثبت أنّ الممارسات القمعية تؤتي ثمارها بما لا يشتهي حاكم بكين.
في ظل الصراع الذي تشهده المنطقة العربية، تذهب بعض القضايا المهمة في مهب الريح، ويُراد لها أن تمحى من أذهان الأجيال المسلمة، ومنها تبرز تركستان الشرقية التي أصبحت تعرف باسم شينغيانغ، وهي منطقة يقطنها ملايين المسلمين، وتحرمهم السلطات الصينية من التمتع بالثروات الغنية التي يملكها الإقليم، فضلا عن محاربتهم بشتى السبل، لكونهم مسلمين فقط.
ومن باب الإنصاف، ما كان للصين أن تمارس الإرهاب بحق مسلمي تركستان، لولا وجود تواطؤ إسلامي ضد الأقلية المسلمة هناك، ولولا انشغال المسلمين بصراعاتهم العبثية فيما بينهم.
عذراً أحبابنا في تركستان، لم يعد في الأمة قتيبة بن مسلم، فلقد تنافس المسلمون على حب الدنيا، والعداوة والبغضاء بدت بينهم، وجلبوا الأعداء ليستعينوا على قتل بعضهم بعضا…عذرا تركستان فحالنا اليوم أسوأ منكم، فعدوكم واضح وضوح الشمس، وعدونا له ألف وجه ووجه.لكن الأمل بالله أن يبعث فينا روح “محمد” (صلى الله عليه وسلم) من جديد.
(المصدر: جريدة السياسة الكويتية الالكترونية)