المورسكيون والتزامهم بالإسلام
بقلم د. عبد الرحمن الحجي
المورسكيون (Moriscos ,The Los Moriscos): المسلمون الأندلسيون الذين بَقَوْا في الأندلس بعد سقوط غَرْناطة، واجهوا مظالمَ محاكم التفتيش التي استمرتْ أربعةَ قرون ويَزيد، فوقَ عَشرة أجيال، مارَسَتْ معهم أفانينَ القتل والتعذيب والتنكيل، وأَجْبَرَتْهُم على التَّنَصُّرِ، وإلا فليس لهم غيرُ الموت والحرق بالنار، أَمْرٌ أَقَرَّتْ به السلطاتُ الكنسية والرسمية الإسبانية، وهما وجهان لعملة واحدة.
للمورسكيين قصص عجيبة في مُعاناتهم وثباتهم، تَسْرِي على كافة أمورهم وأفعالهم ومنجزاتهم، سواء مَن بَقِيَ منهم في الأندلس أو غادرها؛ فقد نَجَا مَنْ أمكنه الهربُ.
حيثما حَلَّ المورسكي بَدَتْ عليه مخايلُ إيمانه العميق بالإسلام والحفاظ عليه، وعَمِلَ بكل طاقاته وأُمنياته المتنوعة ومهاراته المُبْدِعة، وُجْهَتُه ومثابرتُه وجُهُودُه، لم يبخل بها، ظَهَرَ جهادُهم براً وبحراً، كُلُّها أبانتْ بَراعاتِهم وإبداعاتهم وعبقرياتهم وإخلاصَهم ودقتَهم وإتقانَهم وجِدَّهم، أعمالاً ومِهَناً وتوجيهاً، أقاموا –في البلدان التي هاجروا إليها، لا سيما الشمال الأفريقي- حيث المدن الجميلة الباهرة المِعْمَار، وحدائقها المتنوعة المبدِعة، بأزهارها الغَنَّاء الفارعة، حيث تركتْ أجملَ الآثار، التي ما زالت تُعْتَبَر رائدةً، وقَدَّمَتْ أروعَ الثِّمار.
حينما يُذْكَرُ المورسكيون يَسْتَهِين بعضُ الناس بالتزامهم الإسلامي، بينما واقعهم عكس ذلك؛ فكيف لهؤلاء أَنْ يُنْتَقَصوا أو يُتَّهَموا بالتقصير، وهم حَقُّهم أن يُعْتَبَروا قُدْوةً في الثبات على الدين والإيمان والالتزام العملي الفَعَّال المِقْدَام، دليلُ الفهم العميق الأمين المَكين للإسلام، وهو أمرٌ يقودهم للممارسة العملية في جميع الظروف والأحوال والأجواء، مع التَكَيُّف المحمود.
كُلُّ هذه المَشاهد، التي بَدَتْ عليهم، كانت خيرَ دليلٍ، رغم قلة المعلومات، سواء ما أمكن توافره، أو ما تناثر منها وضاع في الطريق بالحريق أو التمزيق، حيث لم يمكنهم الكتابة عن أحوالهم ومواجهاتهم ومجْرَيات حياتهم، أمامَ وَطْأة ظروفِ محاكم التفتيش الغاشمة الظالمة وبَطْشِها العنيف، رغم عدم كفاية الدراسات اللازمة عنهم، سيما باللغة العربية، بل إنَّ دراساتٍ غربيةً تحاول تهميشَ قضاياهم، لحساب الأمور المُتَعَلِّقَة بدينهم.
مِن علامات روعة التزامهم بالإسلام واعتزازهم به واعتباره قضيتَهم الأولى حرصُهم الشديد على تَوْريث أبنائهم الإسلامَ؛ بنينَ وبنات – منذ نعومة أظفارهم وبداية وَعْيِهم وتفتُّحِ عيونهم على الحياة، لِعُمْرِ أربعِ سنوات– في تلك الظروف القاهرة والمتابَعة والمراقبة، بالتجسس والتجنيد والتحشيد لفئات كثيرة من عموم الناس، ولم يتوقف التوريث رغم كل هذه الأجواء والظروف والأحوال والمُلاحقات الماحقة.
التوريث الذي كان يَتِمُّ في المحْضَن الأول الأساس الرئيس؛ الأسرة، ولهذا مدلولٌ بارع؛ الأمرُ الذي أَبْقَى هذه الأجيالَ على الدين، بينما نجد كُلَّ المؤثراتِ الأُخرى لا تُحْدِثَ مثلَ هذه الوراثة؛ مستوىً ومدة وتأثيراً ونوعيةً، إلا في حدود من جيل إلى جيل، بمثل هذه القوة والتأثير والتدفق والرُّسُوخ، كيف إذن لو تَمَّتْ في ظرفٍ مفتوح ومُتاح؟ إذن لكان أكثرَ روعةً وجَدارةً بالتمجيد والإعجاب والإكبار.
هذا يقود إلى معرفة نوعية ما كان عليه أهلُ الأندلس أيامَ تمكنهم المتحرر المستقر، من رسوخ الدين وعمق جذوره وموقعه ومنزلته الرفيعة لديهم، ويمكن إدراكُ تلك النوعيةِ مِن خلال قراءة بعض ما بقي من كتابات المورسكيين، لمعرفة نوعيتهم الإسلامية.
ذلك أَنَّ المورسكيين اعْتَبَروا الأندلسَ بلدَهم المحبوب؛ وطنَهم وديارَهم الكريمة –قبل أي أحد– حيث كانت كثرتُهم الكاثرة من أهل البلاد الأصليين اعتنقوا الإسلامَ، كان أعزَ عزيزٍ عليهم، غدا أكثرَ وأَوْلَى بالبذل والتضحية للحفاظ عليه، مِنْ أنفسهم وأغلى من حياتهم جميعاً، وقد واجهوا أنواعاً مِنْ عُنْفِ إجراءات محاكم التفتيش التعسفية المُرْهِقة المُنْهِكة، التي حَرَّمَتْ كُلَّ ما يتعلق بالإسلام ومَنَعَتْهم ممارستَه، بخطَطٍ قاهرة، أبادت الإيمان والبيان والإنسان باسم الدين، وكان هدفُها القضاءُ عليه.
تَبَيَّن أَنَّ تنفيذَ هذا الأمر يحتاج إلى وقت طويل وأساليب هوجاء، لا اعتبار فيها لأي قِيَم ولا خُلُق، بَلْهَ تعاليمَ دين، ومما عَرَضُوه عليهم ابتداءً الرحيل الذي عَزَّ عليهم، وقد قَبِلَه البعضُ فراراً بدينهم، رغم المخاطر التي تحتويه، حيث يمكن أن يُقْتَل في الطريق أو يذهب بالتغريق، كما البقاء بالحريق، إذ قد بَلَغَ الأمرُ أَنَّ مَن يقرأ العربية يُحْكَمُ عليه بالموت حَرْقاً، هكذا كان يتم الحُكْمُ بالإعدام حَرْقاً، لمن يجدونه يقرأ العربية وكُتُبَ المسلمين(1)، كل ذلك لإفناء شعب متميز بأكمله.
احتار المورسكيون ماذا يفعلون أمامَ القُوَى المتمكِّنة للحفاظ على دينهم، فذهبوا يستفتون فقهاءَ المغرب، منهم من قال بضرورة الرحيل، ومنهم من دعا إلى البقاء في البلد، ومواجهة تلك السياسات وإيجاد السبيل للتعامل معها، حفاظاً على الدين والوطن، بكل طاقة لديهم، ولو بالاستماتة من أجله ثباتاً عليه، واجهوا ما لم تعهد الإنسانية مِن قَبْل، اهتدوا إلى طريق، لا أدري كيف اتفقوا عليه، أفضل أُسلوب يَحفظ لهم ما يريدون، لكنَّ تكاليفَه باهظةٌ مليئة بالمخاطر يُظهرون النصرانية ويُبْطِنون الإسلامَ، عُرِفُوا باسم: Crypto-Muslims Musulmanes Secretos.
اختار هؤلاء المورسكيون البقاءَ في الأندلس مهما كانت النتائج، واضعين في حسابهم كُلَّ الاحتمالات حتى الموت، بدأتْ محاكمُ التفتيش بالسجون، بكل ما فيها من تعذيبٍ لا نهاية له، يتمنى أَحَدُهم بَدَلاً منه الموتَ.
كُلُّ مَن يبدو عليه أنه ما يزال مسلماً يؤخذ إلى الموت، رجالاً ونساءً وأطفالاً، لا ينفعه الإنكار، أَخَذوا مِن سن الخامسة عشرة إلى سن الخامسة والسبعين، سِيقوا إلى ساحات الموت حرقاً بالنار، كانت تتم جماعياً، في ساحات المدن الكبرى لتكون عِبْرةً للجميع وتفعيلاً وتَشَفِّياً لحقدهم الأسود، أَنْ يَتِمَّ ذلك في أحفالٍ جماعية اعتبروها إيمانية، سَمَّوْها من أحفال الإيمان (Auto-da-Fé)، برعاية الكَنَسِيين بكل رُتَبِهم، وبحضور الملك وعائلته وحاشيته ورجال الشرطة والفِرَق الموسيقية وعموم الناس، لا شك أن العديد من المورسكيين شاهدوها، يتم ذلك بأن يُوضَعَ تَلٌ من الخشب في وَسْط الساحة، يُجْلَس فوقَها المحكومُ عليهم، تُشْعَل فيهم النار، والموسيقى تَصْدَح بمرافقة الأناشيد الدينية، حتى يتفحموا ويكونوا رماداً.
أَقَرّ ملكُهم “فيليب الثالث” الملقب بـ”الوَرِع”! مُفاخِراً بهذا الإنجاز الكبير، أصدر في 22/9/1609م (13 جُمَادَى الثانية 1018هـ)(2) مرسوماً بطرد المورسكيين من إسبانيا بإيعاز وتشجيع كبير أساقفة بلنسية «خوان دي ربيرا»، باتهامهم بالبقاء على دينهم ومساعدة المجاهدين على سواحل إسبانيا.
احتمل الأندلسيون المورسكيون الذين حَكَمَتْ عليهم دواوينُ محاكم التفتيش كُلَّ هذه المواجهات لقرون، ولم يتزحزح أحد منهم عن موقفه الإيماني والتزامه وتَمَسُّكه بهذا الدين، لدينا على ذلك الأمثلة، المَكْتُوبُ عنه جِدُّ قليل، ضاع منه الكثير، أحياناً تَظهر شَذَراتٌ هنا وهناك، مما يُعَبِّر عنه، مثل بعض اللوحات المرسومة لرسامين إسبان.
كان يتم الحرق في ساحات المدن الكبرى، كساحة مدريد المعروفة بـ»الساحة الكبرى»، التي تُمَثِّل قلبَ مدينة مدريد الإسلامية.
تُكْتَشَفُ وثائق أُفْرِجَ عنها في أراشيف إسبانيا والبرتغال، كتلك المرأة المورسكية البرتغالية التي دَعَتْ بعضَ نساء جيرانها النصارى لوليمة، رَأَيْنَها في بداية تناول الطعام تُحَرِّك شَفَـتَيْها، كان ذلك دليلاً على ذكر دعاء الأكل، وَشَيْنَ بها إلى محاكم التفتيش، أُخِذَتْ ولم يُعْرَفْ خبرُها بعد ذلك.
كان المورسكيون إذا واجهوا الأذى يزدادون شجاعةً، لم يَرحلوا ابتداءً، وأصرّوا على البقاء، أسرة الكامبنيرو في مدينة سَرَقُسْطَة وأسرة بني غيش بمُرْسِيَة، بعد الطَّرْد الأخير (الطرد الكبير)، الشاب «خوان» من أسرة الكامبنيرو، حُكِمَ عليه بالموت حَرْقَاً سنة 1582م رَمَى صليباً كان يحمله جبراً، رَفَعَ سَبَّابتَه يقرأ الشهادة قبل الموت، أما باقي الأسرة فقد أُحْرِقَ مِنْ نسائها ورجالها وشبابها الكثير، قُضِيَ عليهم جميعاً، حين اكْتُشِفَ أمرُهم.
يَظْهَرُ هذا البَغْيُ بمعرفةِ بعضِ المَقابر الجماعية، منها ما اكْتُشِفَ بكنيسة مدينة يرينا عام 1979م، وعُرِفَ أَمْرُها بعد إخفاء، بعض جثث هذه المقبرة الجماعية نُشِرَتْ في الصحف الإسبانية.
مع أن جميع المورسكيين لم يواجهوا الدولة ابتداءً ولا أي سلطة أو مسؤولين، منذ ذَهاب سلطانهم السياسي، الذي أحسنوا خلاله معاملةَ غير المسلمين، الذين كانوا يمارسون كافة شعائرهم وأعمالهم وأمورهم بحرية وارتياح وأمان، لكن أمام الاضطهاد الشنيع، أُجْبِرَ المورسكيون على المواجهات المسلحة، دفاعاً عن النفس والدين والالتزام به، رغم معرفتهم أن وراءَه الإبادة الكاملة، حتى النساء والأطفال كانوا يَتَّسِمون بالشجاعة.
لم يتمكن أَحَدٌ أن يَكْتُبَ شيئاً مطلقاً في تلك الأجواء المظلمة؛ فإننا لا نَجِدُ معلوماتٍ كُتِبَتْ مِن قِبَل مَن بَقِيَ منهم في الأندلس.
لكن وَجَدْنا كتاب «نبذة العصر في أخبار بني نصر»، معاصراً لأحداث غرناطة الأخيرة، كَتَبَه صاحبه بعد خمسين عاماً مِنْ ذهاب سلطان المسلمين، عَمَدَ ألا يَكْتُبَ اسمَه، إلا بعض المعلومات التي كُتِبَتْ بعده، لأولئك الذين أمكنهم الفِرار إلى المغرب، مثل محمد بن عبدالرفيع، الذي أَلْحَق كتابَه «الأنوار النبوية في آباء خير البرية» بمعلومات عنهم.
كذلك فعل الشِّهَاب الحَجَري أحمد بن قاسم بن أحمد بن الفقيه قاسم بن الشيخ الحَجَري الأندلسي، في كتاب «العِزُّ والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع»(4)، كَتَبَه بالإسبانية في تونس الرئيس إبراهيم بن أحمد بن غانم بن محمد بن زكريا الرَّبَّاش الأندلسي المورسكي، عَرَّبَه الشِّهاب الحَجَرِي، وأضاف إليه أخباراً تاريخية جيدة ومهمة في بدايته ونهايته.
كانت آمالُ المورسكيين دوماً متيقظةً وإيمانُهم متدفقاً، حافَظوا على دينهم والتزامهم ولغتهم ولو حروفاً، كان بعضهم فقيهاً وراعياً للآخرين بأمواله كذلك؛ نساءً ورجالاً وأطفالاً، يتولون التدريس والرعاية، ويستعملون كُلَّ إمكانية وطاقة للحفاظ على دِينهم وأهلهم، حتى لو افتدوه بالنفوس، أمَّا الأجيال التالية التي التزمت فقد نَشَأَتْ تحت وَطْأَة نير مظالم محاكم التفتيش، وبَقِيَتْ مستمرةً تحافظ على هويتها الإسلامية، وأدركوا أنهم لا يستطيعون مواجهتَها، وانشغلوا بالحفاظ على دينهم وتوريثه أبناءَهم، واعتبروه مهمتَهم ووسيلتَهم لبقاء الإسلام في الأندلس، وعاشوا بنوع من الارتباط.
لاحظتُ منذ وقت طويل، وأنا أسأل نفسي: هل أسلم أحد في ظروف محاكم التفتيش هذه؟ ثم وَجَدْتُ ذلك: يَذْكُر الشِّهَابُ الحَجَرِي (تونس 1051هـ/ 1641م) في كتابه «ناصر الدين على القوم الكافرين»، بعضَ مَن أسلموا في العهود الأندلسية الأخيرة أيامَ محاكم التفتيش، أمرٌ يثير الدهشة وله مدلول أي مدلول، مثل عبدالله التُرْجُمان، الذي ألف كتاب «تحفة الأريب في الرد على أهل الصليب».
ظهرت كتب أخرى ألفها هؤلاء، مثل «النور الباهر في نصرة الدين الطاهر»، ليوسف الحكيم، المهاجر الأندلسي إلى المغرب، الحَبْر اليهودي المعروف، أسلم بُعَيْد الطرد الأخير.
لدينا كتاب «السيف الممدود في الرد على أحبار اليهود»، تأليف الشيخ محمد عبدالحقّ الإسلامي السبتي الأسلمي، المكنى بـ»المهدي»، أَلَّفَه في مدينة سبتة أواخر القرن الثامن الهجري (الرابع عشر الميلادي).
___________________
الهوامش
(1) ناصر الدين على القوم الكافرين، الشهاب الحجري، 24. تحقيق الدكاترة: كوننكزفلد، قاسم السامرائي، فيخرز.
(2) ناصر الدين على القوم الكافرين، الشهاب الحجري، 151 – 154. حوليات الجامعة التونسية، الأستاذ عبدالمجيد التركي، 4/30 – 39.
(3) يبدو أن الاختلاف في هذا التاريخ متعلق بصدور المرسوم وتنفيذه ابتداءً وانتهاءً.
(4) تَمَّ تأليفه في حلق الوادي في مدينة تونس سنةَ 1040 – 22 ربيع الأول 1042هـ، ثم عَرَّبَه الشِّهَابُ الحَجَري في 13 ربيع الأول – 10 ربيع الثاني 1048هـ (1639م).
(المصدر: مجلة المجتمع)