المنهج الإلهي في مواجهة المناهج البشرية الوضعية
بقلم د. محمد إبراهيم الحلواني
تتميز الثقافة الإسلامية عن غيرها من الثقافات بأنها ربانية المصدر خلافاً للثقافات الأخرى التي تحددها العادات والتقاليد والمناهج التي يضعها المفكرون في البلدان التي لا تدين بالإسلام، كما تتميز هذه الثقافة بالشمول فهي ليست لجنس دون جنس أو طائفة دون طائفة؛ بل تشمل كل البشر على اختلاف أجناسهم وألوانهم، فالثقافة الإسلامية تَسَع البشرية كلها لأنها من لدن عليم خبير. أما الثقافات البشرية البعيدة عن الوحي الإلهي فهي من وضع أناس غلَّبوا الجانب المادي على الجانب الروحي، ووجَّهوا أفكارهم ومناهجهم لطائفة دون طائفة، وهو ما أدى إلى حصول العُقَد النفسية والصراعات الداخلية والخارجية وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124]، فلا خلاص للبشرية مما هي فيه إلا بالسير على منهج الله عز وجل كما أراده الله سبحانه وتعالى وكما يفهمه العلماء الراسخون؛ لا كما يتأوَّله الجاهلون أو ينْتحِله المبطلون أو يَجنح إليه الغالون.
تعمير الكون وَفْقاً للمنهج الإلهي هدف إسلامي أصيل:
لا يختلف أحد في أن غاية المسلم في هذه الحياة هي تعمير الكون وَفْقاً للمنهج الإلهي أداءً لأمانة المسؤولية التي حملها الإنسان وأبَتْ السماوات والأرض والجبال أن يحملنها وأشفقن منها، فالفوز برضا الله عز وجل هدف رئيسي للمسلم في هذه الحياة، ولا بد لهذا الهدف من نية صادقة وهي اقتناع العقل وعزم القلب وانبعاث الهمة والعمل الذي هو التعبير الإيجابي عن القناعة العقائدية والفكرية، والدليل على ذلك قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْـمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْـجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]، وقوله صلى الله عليه وسلم لسفيانَ بن عبد الله الثَّقفِي حينما سأله قائلاً: قل لي قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك قال: «قل آمنت بالله ثم استقم»[1]، فالاستقامة يراد بها التطبيق العملي لشريعة الله وأحكام دينه القويم، ولهذا اختلف المنهج الإلهي عن نظرات الفلاسفة ومعارفهم الباردة العاجزة؛ إذ لم يبقَ لنظرات الفلاسفة إلا بعض القيمة التاريخية التي لم تتجاوز الكتب والمكتبات ولم يكن لها نصيب يذكر من التغيير الاجتماعي.
عناية الإسلام بالجانبين (المادي والروحي):
اهتم الإسلام بالجانبين (المادي والروحي) على السواء، فلم يُهْمل جانباً على حساب الجانب الآخر، فقد نشأ الإسلام في الجزيرة العربية التي لا تعرف من الحضارة المادية إلا القليل الذي يهبط عليها من أصقاع الأرض، ولم يشغل العرب أذهانهم في ذلك الوقت بالعلوم التجريبية نظراً لانشغالهم بالأشعار والحروب القَبَلية. فلما جاء الإسلام بعث هذه العلوم المادية بعثاً عنيفاً متدفقاً كأنما هي سَيْل ينحدر من ارتفاع شاهق يملأ السهول والوديان. وساهمت إنجازات العلماء المسلمين في مجال علوم الطبيعة في ازدهار المذهب التجريبي باعتراف الأوروبيين أنفسهم، ووَفْقاً لهذا لا توجد عداوة بين الإسلام والكفاح في هذه الأرض من خلال طلب العلم ونشره لتحقيق العدالة الاجتماعية في ظل المنهج الإسلامي والشريعة الإسلامية. لقد أثبت الواقع فشل النُّظم الوضعية والنظريات السياسية؛ إذ ساءت في ظلها الأحوال وفسدت الأوضاع وتزعزعت القيم والأخلاق، ولم تستطع هذه المذاهب والنظريات أن تحقق التقدم المنشود وأن تسير بالنهضة في طريقها الصحيح.
رفض الثقافة الإسلامية التبعية والانقياد للثقافات غير الإسلامية:
تحاول المجتمعات غير الإسلامية فرض ثقافاتها ومناهجها الفكرية على مجتمعاتنا الإسلامية، ولم تتوقف هذه الأمم يوماً عن السعي وراء هذه الغاية بهدف القضاء على المنهج الرباني الأصيل المتمثل في كتاب الله عز وجل وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم ، وتحقيق الانقياد الكامل لهذه الأمم في الفكر والسياسة والاقتصاد، لكن الله عز وجل دعانا إلى التمسك بصراطه المستقيم قائلاً: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153]؛ ذلك إن الانحراف عن منهجه عز وجل خَبْطٌ في بيداء التيه وجَنْي للشقاء المر الذي هوت فيه الشعوب التي لا تدين بالإسلام، والرسول الكريم صلوات ربي وسلامه عليه قد أمرنا بكل شيء يقربنا إلى الله عز وجل ونهانا عن كل شيء يبعدنا عنه قائلاً: «مَا تَرَكْتُ شَيْئاً مِمَّا أَمَرَكُمُ اللهُ بِهِ، إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، وَلَا تَرَكْتُ شَيئاً مِمَّا نَهَاكُمُ اللهُ عَنْهُ، إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ»[2]، فعباداتنا ومعاملاتنا يجب أن تكون مُحْكمة بحكم الشرع في أمره ونهيه، جارية على نهجه، موافقة لطريقته، وما سوى ذلك فمردود على صاحبه. هذا التشريع يربي أتباعه تربية فريدة، يصبغهم صبغة إسلامية لا نظير لها؛ فالمؤمن كامل الإيمان لا يقبل أن يذوب في بوْتقات شرقية أو غربية تصطدم مع منهجه الإلهي، لكن ضعيف الإيمان سرعان ما يذوب في هذه الثقافات، يقول الشيخ محمد الغزالي رحمه الله: «الأمة ستنحدر في سلوكها، والسلوك نتيجة الخلق ونتيجة المعرفة والثقافة، ومع هذا لم أرَ بحثاً في تتبعنا لليهود والنصارى في تفكيرنا، في أخلاقنا، في أعمالنا، بل ببساطة انحدرنا وانتهى الأمر، استطعنا أن نقلدهم بانهيارهم، ولم نستطع أن نقلدهم بنهوضهم، وانتقلت إلينا عِلَلُ التدين، كان مقتضى ذلك أن تنتقل إلينا من هذه الأقوام أسباب النهوض، أعتقد أن ما حدث اليوم في الأمة الإسلامية هو ما حصل في الأمم الأخرى تاريخياً، والعقاب الإلهي أن الله نزع قيادة البشرية من أيدي المتدينين ووضعها في أيدي العلمانيين»[3].
المناهج البشرية لا تملك الأجوبة الكافية لمعضلات الوجود:
إن الثقافة الغربية قد عجزت عن الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بالمصير وأهداف الوجود ومسوغاته، وإن ظهور الحركات النازية والفاشية والعنصرية المتطرفة قد جاء نتيجة إبعاد الدين عن دائرة الاهتمام والتوجيه، والحضارة الغربية قد عجزت عن تلبية حاجات الإنسان الروحية والفطرية بسبب عنايتها بالجانب المادي وإهمالها للجانب الروحي، وهذا ما أكده الرئيس الأمريكي السابق نيكسون قائلاً: «لم يكونوا [أي مؤسسو أمريكا] بُلهاء أو مصلحين حمقى، ولكنهم آمنوا بالقيم الأخلاقية والروحية، وكان حَرِيّاً بهم أن تروعهم الفلسفة التي يلوح أنها على هذه الدرجة من الطغيان في العالم الرأسمالي اليوم، حيث لا يحرك الكثيرين إلا دوافع من قيم الأنانية والعلمانية والمادية، والمال عندهم هو الخير الوحيد»[4]. وقد أخفقت الثقافة الغربية اجتماعياً وأخلاقياً؛ إذ ازدادت أعداد الأطفال غير الشرعيين من أمهات مراهقات، وكثرت حالات الإجهاض، وأهمل الآباء تربية أطفالهم، فخرجوا من أيديهم إلى غير رجعة، وانتشر القلق، وساد الاكتئاب، إضافة إلى التلوث البيئي الناجم عن التقدم الصناعي، وقد بيَّنت بعض الدراسات ارتفاع درجة حرارة سطح الأرض بمقدار (25 – 140) درجة، وهذا سيؤدي إلى غمر المدن الساحلية والمناطق الزراعية المنخفضة[5].
من خلال ما سبق فإنه يجب علينا أن نبني نموذجاً حضارياً نظرياً يتناسب مع عقيدتنا وتطلعاتنا وحاجاتنا المختلفة في إطار رؤية شاملة لا تفصل بين الدنيا والآخرة، وما فائدة الأبنية الشاهقة والمصانع الشامخة والشوارع النظيفة وخليفة الله على أرضه مقطوع الصلة بربه، ولهذا قام الرسول صلى الله عليه وسلم بهندسة الشخصية الإسلامية وَفْقاً للمنهج الإلهي، لأن إغفال هذا المنهج الإلهي يجعل الإنسان عبداً للأشياء، وهذا هو المشاهَد في المجتمعات التي أعرضت عن الحق، واتخذت من أفكار أُناسٍ مثلهم أساساً لحضارتهم كأنها وحي سماوي، وكيف يستقيم من يطبق منهج ناقصٍ مثله؟
[1] أخرجه ابن حبان في صحيحه: 3/221، رقم (942)، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط: الثانية، 1993م، تحقيق: شعيب الأرناؤوط.
[2] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى: 7/121، رقم (13443)، عن المطَّلِبِ بْنِ حَنْطَب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط: الثالثة، 2003م، تحقيق: محمد عبد القادر عطا.
[3] محمد الغزالي، كيف نتعامل مع القرآن؟ ص167، دار نهضة مصر، ط: الأولى.
[4] ريتشارد نيكسون، نصر بلا حرب، ص320، مركز الأهرام للترجمة والنشر، ط: الأولى، 1409هـ، تقديم: محمد عبد الحليم أبو غزالة.
[5] اللجنة العالمية للبيئة والتنمية، مستقبلنا المشترك، ص255 – 256، سلسلة عالم المعرفة، ط: الأولى، 1410هـ، ترجمة: محمد كامل عارف.
المصدر: مجلة البيان