مقالاتمقالات مختارة

المنظومة القيمية في الإسلام

بقلم خديجة مستعد – مدونات الجزيرة

لقد كانت القضية القيمية بؤرة اهتمام السابقين والمفكرين واتسعت دائرة البحث عندهم لتشمل موضوعات وعلوم عدة “علم السلوك ” كما جاء في إحياء علوم الدين للإمام الغزالي اهتموا بتهذيب النفس والسمو الروحي والتزكية. هذا التصور الأساسي الذي اعتنى به علماء المسلمين يختلف في جوهره عن الفلسفات والمدارس الوضعية التي تعمل على إلغاء دور الدين أو تهميشه عند الحديث عن القيم وفلسفتها.

في حين يتخذ المنهج التربوي الإسلامي طريقا مغايرا مختلفا، إذ يقر المصادر السابقة ولكنه في نفس الوقت يؤصل مرجعية عليا تحكم القيم هي مرجعية الشرع كتاب الله وسنة الحبيب صلى الله عليه وسلم والتي في إطارها تتحدد منظومة القيم ويتأطر منهج التعامل. والمسلم لا يشك أن الوحي بصفة عامة والقرآن الكريم خاصة محكم لإصلاح البشرية حيث كلام رب العالمين، قال الله تعالى: “إِنَّ هذا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا” الإسراء 9.

فالإسلام دين القيم العليا، والمثل السامية ورسالته رسالة القيم الإنسانية التي تتسم بالربانية والشمولية والثبات والتوازن والعالمية، وهذا ما يعني أنها صحيحة ودائمة و شاملة لكل ما يراد للإنسان ويتمثلها و يعيشها لتحقق مصالحه كلها و نسقها منظم متكامل متناغم لا تضاد و لا تضارب، كما لا ينفك بعضها عن بعض، واحكام الشرع الحنيف ماهي الا معايير قيمية سامية توضح للإنسان سبل السلوك الإنساني السوي، فكل حكم شرعي يحمل قيمة محددة إما مرغوب فيها وإما مرغوب عنها فما أمر الله به مرغوب فيه وما نهى الحق عنه مرغوب عنه.

ثم إن الباحث في مفهوم القيم وماهيتها يجد أن مدلولها لا يتغير إذا أضفنا عليه كلمة الإسلامية ولكنه يتحدد برؤية الإسلام وتصوراته المعرفية والوجدانية والسلوكية، وبمصادر اشتقاقها وبمنهجه في غرس القيم واكتسابها وبطبيعة المعايير التي يقررها لإصدار الاحكام على الأشياء من حيث قبولها وردها. إن منظومة القيم في الثقافة الإسلامية تقوم على التعاليم الدينية وهي السمة التي تميزها عن غيرها من المنظومات التي لا تقيم للدين اعتبار بل تعتبر القيم تقوم على الحيادية والحرية الشخصية وغير ملزمة مما يجعلها فضفاضة لا معيار لها، الشيء الذي جعل تفاقم المشكلة القيمية في الثقافة الغربية المعاصرة.

وقد جمع القرآن الكريم والسنة المعطرة بين الاعتقاد القلبي وبين السلوك القيمي أو العمل الصالح “أُولَٰئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ” البينة 7. وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة دالة على ذلك لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” رواه البخاري في كتاب الإيمان. فالسلوك الإسلامي سلوك إنساني قويم منبعه العقيدة السليمة والتصورات الصحيحة التي تميز منظومة القيم الإسلامية ومنها تنبثق جميع القيم وتستمد شرعيتها وقوتها.

والقيم الإسلامية تبنى على إعطاء الفرد حرية الاختيار والإرادة لما يختاره من قيم، ولكنها في الوقت نفسه تربط بين الحرية والجزاء، فالإنسان حر في اختياره حتى ولو تعلق ذلك بأسمى القيم على الإطلاق، بين الايمان والكفر قال الحق سبحانه: “وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” الكهف. ولكن هذه الحرية لها أبعادها في مسؤولية الإنسان وفي تلقيه الجزاء حيث قال رب العالمين: “إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا” الكهف 30.

وتقوم منظومة القيم الإسلامية على مبدأ التعاون، فتنمية القيم وغرسها مسؤولية يشارك فيها جميع أفراد المجتمع ومؤسساته، بدءا بالفرد. وتعد الاسرة والمدرسة والمسجد ووسائل الاعلام، اهم تلك المؤسسات وأبلغها أثرا في تنمية القيم الإسلامية وتعزيزها. وحينما نتأمل طريقة الوحي في حث الناس على الإصلاح بما يحقق لهم السعادة والعيش الرغيد والسلامة ويؤمن لهم حسن الخاتمة، يتضح لنا أن هناك قوانين تكفل بتحقيق النتائج، فلا يلتبس سبيل النجاة بسبيل الهلاك، وأن الاختيار لأحد السبيلين اختيار مستوف لشروط الإمكان، وهذا ما يؤكد أن لله سننا ثابتة في معاملة الناس قال الحق سبحانه: “سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا” الأحزاب 62.

ولقد دل القرآن الكريم على أن كل شيء يحدث بسبب ولا مجال للعبث أو الصدفة وأن ذلك سنته سبحانه لا تتبدل، وهو نظام يمضي إلى نتائج حتما بإذن الله تعالى، ولا تستطيع قوة مهما كانت أن تقف في مساره. فالأفراد والأمم في جميع أحوالهم يخضعون لهذه السنة الإلهية في سعادتهم وشقائهم، وأن هلاك الأمم السابقة كان باتصافهم لما يخالف دعوة الله لهم، ووضعهم الشيء في غير موضعه وبذلك ظلموا أنفسهم. فمعالجة حياة الناس ومجتمعهم مرتبط ارتباطا دقيقا بقوانين الله تعالى في سننه الثابتة، ولهذا فمن يبني قيم الإنسان خارج هذه الحدود -سنن الله في الكون- فقد أعده لغير غايته وحمله ما لا يصلح له فوقاه أو عالجه بما لا ينفعه ووعده بما لا يمكن الوفاء به، وحركه للخراب لا للعمار.

وبذلك فإن ترسيخ القيم ضرورة دينية وحاجة ملحة لا مفر منها ولا بديل عنها ولا يمكن ذلك إلا عبر الممارسات اليومية الدائمة، إذ أن مزاولة القيم الحميدة في الحياة يضبط السلوك ويعمق المسؤولية فتصبح القيمة بذلك ملكة وسجية. وتختلف المعتقدات والتصورات باختلاف الثقافات ومن ذلك تختلف المنظومة القيمية النابعة منها، وأمة الإسلام متميزة بثقافتها وثقافتنا كفيلة بحفظ منظومتنا القيمية صافية نقية ما دمنا مؤمنين متمسكين. ففقدان منظومتنا القيمية وضياع لهويتنا الثقافية والحضارية يفسح المجال للقيم الوافدة لأخد مكانها والسيطرة على عقول شبابنا.

وفي عصرنا هذا نحن مطالبون أكثر أن نراعي عند غرس القيم وتعليمها على مراعاة ترسيخ المعتقدات الإسلامية معتمدين على منهج الإقناع العقلي الذي يقوم على توضيح الدليل والبرهان والتعليل على تأسيس القيم وفق منهج التفكير الصحيح القائم على الاستدلال والمقارنة والنظر في الإيجابيات والسلبيات، وتحمل العواقب والنتائج.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى