الملك العاري والنساج المحتال – الحاشية المنافقة وعلماء السوء
بقلم أحمد معاذ الخطيب
في ذاكرتي من أيام المرحلة الابتدائية قصة من أمتع وأفيد ما قرأت، وهي قصة (الملك العاري والنساج المحتال) .. والتي تتحدث عن ملك ساذج، وجد نسَّاجٌ محتالٌ طريقاً إليه وأقنعه بأن يصنع له ثياباً نفيسة (وبالطبع مكلفة جداً) و ذات ميزة عظيمة وهي أن الأغبياء وحدهم لا يرونها!
صدق الملك قليل الخبرة كلام النساج وفي اليوم الموعود اجتمع أركان الدولة في القصر العظيم، بعدما أُمر الشعب المسكين بالاحتشاد لإظهار الفرحة بالثياب العظيمة لمولانا الملك!
أمام الجميع وفي القصر بدأ النساج المحتال بخلع ثياب الملك قطعة قطعة وإلباسه بدلاً عنها ذلك القماش المزعوم، وبدأ تهريج الحاشية: ماشاء الله يامولاي، شيء عظيم.. ثياب رائعة … ولم يصدق كبير الحكماء عينيه فقد بدأ الملك يتحول إلى رجل عارٍ ، ولكنه (كما هي عادة المنافقين) خشي أن يقول الحق.
الملك نفسه بدأ يشك بنفسه فهاهي ثيابه تخلع عنه قطعة وراء أخرى ولا بديل عنها! ولكن الملك قال في نفسه بين حشود المنافقين: هل من المعقول أن الكل يراها! وأنا .. فقط .. أنا الذي لا يراها! هل يعني ذلك أنني الغبي الوحيد هنا! ثم التفت فجأة نحو كبير حكمائه قائلاً بزهو الأغبياء: مارأيك ياكبير الحكماء؟ ولم يكن ذلك الكبير يرى إلا العري القبيح ولكنه شهق قائلاً: مولاي ماهذه الثياب المدهشة بالفعل إنها شيء لا يصدق، والتفت برأسه نحو النساج المحتال قائلاً بضيق مكتوم: إن النساج الذي صنع هذه الثياب الباهرة لجد ماهر ومتقن!
النساج المحتال رد على كلام كبير الحكماء بانحناءة رأس ماكرة! وتعالت صيحات الإعجاب … الكل أقسم أنه لم ير مثل تلك الثياب من قبل، والكل جزم بأن الملك موفق جداً في اختيار نساجه المبدع، والكل أصر أن تلك الثياب لائقة جداً جداً بالملك ..
حياة النفاق جعلت كل أفراد البلاط يسكتون، و لأن تلك الثياب البديعة وحدهم الأغبياء لا يرونها وخشية أن يتهم واحدهم بالغباء رضي الجميع بأن يباع الملك دون ثمن ..
وأخيراً أصبح الملك عارياً حتى من ورقة التوت التي تغطي عورته … فقد ألبسه النساج بدل كل قطعة خلعها عنه قطعة أخرى بديعة الصنع ،ووحدهم الأغبياء لا يرونها!! وصار الملك يوزع ابتساماته البلهاء بين الحضور … وهم يبادلونه الحماس .. حتى أن رئيس صناديق المملكة قد تأثر لدرجة البكاء وهو يتحسس طرف العباءة المزيفة التي يرتديها الملك صارخاً بانفعال شديد: شيء لا يصدق .. لا يصدق أبداً يا مولاي … أهنئكم على هذا الذوق الرفيع..
نظرات الافتتان والتقدير بُذلت من الحاشية دون حساب وصيحات الإعجاب بدت مثل سيل هادر انتقل زخمه إلى القطيع الموجود خارج القصر الذي كان ينتظر على أحر من الجمر طلة الملك البهية مرتدياً ثيابه الذكية (كشافة الأغبياء) والتي أصبحت حديث كل لسان..
وأخيراُ فتح باب القصر وأطل الملك بعريه الكامل لتحييه الجماهير .. فقط ثوان من الذهول اعترت القطيع الكبير ثم ما لبثت أن تبدلت إلى نشوة عارمة عندما صاح أحد المرتزقة .. فليحيا مولانا الملك بثيابه العظيمة… ورددت الجماهير المحتشدة: فليحيا الملك .. وثيابه العظيمة …
ومثل البرق سرت الصيحات: أوه … شيء رائع شيء عظيم … جميل مدهش .. فتان … لا يصدق … بل إن التأثر بلغ بالبعض إلى حد الإغماء … بينما قام الباقون بالدبك بكل قوة تعبيراً عن الامتنان والشكر الدفين الذي يكنه القطيع الكبير في أعماق فؤاده لمولانا الملك ..
كل فرد من الحاشية أو الرعية، بل الملك نفسه أخذ يتساءل: ماهذا الحظ التعيس .. حتى أكون أنا وحدي الغبي الذي لا يرى تلك الثياب المدهشة .. وهز الملك رأسه بحيرة بالغة .. وكاد يبكي لكنه تجلد وعاد يتبادل التحيات مع شعبه … ويلوح لهم بقبضته: نعم .. أيها القطيع الرائع … حتى آخر قطعة ثياب ..
العربة المكشوفة سارت بين الجماهير المكتظة … والكل يصفق ويدبك ويرقص … وفجأة حصل مالم يكن في الحسبان …
كان هناك طفل في العاشرة ينتقل مع القطيع وقد شاهد الموكب من أوله … وبدأت الحيرة والشك يتسللان إليه، ولكنه جمع كل قوته ليصعد على عمود عال، ثم استجمع كل شجاعته ليصرخ بصوت اخترق كل ضجيج الراقصين والدبّاكين : أيها الكذابون … إن الملك لا يرتدي أية ثياب!! إن الملك عار … الملك عار ..
ومثل سريان النار في الهشيم دبت الصيحة في القطيع … وكأن بقايا العقل القديم الذي كان فيه قد استيقظ ففر الناس هائمين على وجوههم … وحتى الحاشية المذعورة أصابها الذهول ففرمعظمها وكل فرد منها فتح فمه حتى النهاية وفي عينيه بريق دهشة ممتزجة برهبة الحقيقة المرة ..
بعض الماكرين وقفوا قريباً من عربة الملك وهم يقهقهون وقد أمسكوا خواصرهم من شدة الضحك .. وأحدهم ضرب يده على جبهته وهو يكاد يتمزق من المفارقة العجيبة ..
لم يجد الملك شيئاً يستر به عورته … وحدهم بعض الأتقياء غضوا من أبصارهم احتراماً للملك بينما كان بعض أفراد الحاشية الخبيثة يحملقون بشراهة …
الملك العاري ليس شخصاً في الدول الممحوقة بل ظاهرة .. ومنذ فرعون الأول بدأ العري يدب إلى الملوك وكل منهم يظن أنه قادر على البقاء في ثيابه محترماً موقراً …
لم يفكر أحد ولم يخطربباله أن ماكانت تفعله الحاشية بالمواطنين من تعذيب وتعرية جسدية أو نفسية سوف تفعله بدناءة أكبر مع الملك نفسه …
شاه إيران .. رجل أميركة في المنطقة وضابط الإيقاع … عندما حانت نهايته اشترك الجميع في تعريته والأسبق كانوا هم أسياده الذين أرادوه أن يبقى عارياً حتى من قبر صغير يستر فيه جسمه الفاني فرفضوا أن يدخل أراضيهم، حتى حن عليه أحد رفقاء دربه فمن عليه بمترين من التراب يستران عورته .
هيلا سيلاسي .. وتشاوشيسكو … وصدام … ومن كان قبلهم ومن سيأتي بعدهم حقيقة هم مساكين .. هم وأمثالهم دائماً ينحتون في الشعوب .. وكان الشعب ينحت لهم النهاية كما يريد هو .. يد القمع وكم الأفواه لم تسمح له أن يقول مايريد، ففعل مثلما يريدون، وفي هستيريا جماعية كان يدبك ويرقص ويزمجر باللافتات في وجه الأعداء .. لكنه كان يسن أسنانه كي ينهش من ظلموه .. وقد رأى الناس على الشاشات حاكم العراق قبل هجوم القوات الأميركية وهو يمسك شيئاً معدنياً مستديراً يزعم أنه صاعق قنبلة ذرية … وهجم الأعداء أخيراً … فبقي أكثر الشعب الذي كان يدبك واقفاً يتفرج بل ويشمت … ومن باعه ليسوا أبداً أولئك البؤساء الذين غصت بهم السجون وعاشوا وشربوا الذل حتى آخر قطرة … فدائماً من أعماقهم تنبعث الغيرة والشهامة والكرامة .. ولكن الباعة هم المقربون .. وفي مقدمهم ابن عمه … قائد الحرس الجمهوري العظيم!
ليس في الأمر دعابة، ولم يعد عري الحاكم اليوم مجرد ثياب تنتزع منه بالحيلة، أو مجرد أمر معنوي، لأن أكثر الحكام العرب والمسلمين ليست لهم ثياب أصلاً، وهم ولدوا عراة من كل شرعية، ولن يجدوا شيئاً يلبسونه فكل ثيابهم صنعها نساجون محتالون، وحاشية منافقة، وقد فرضوا أنفسهم فرضاً والشعوب تصفق وتدبك! أما في الأعماق … فسل التاريخ القريب يذهلك مافيه.
لست أبالي كثيراً بأصحاب المصالح الدنيوية، فطبيعة الاحتيال الدنيوي تملي عليهم النفاق الدائم، وربما يساكنهم الرعب المبين من الحكام وأزلامهم، ولكني مذهول حقاً ممن يلبسون العمائم البيضاء الطاهرة فتستحيل على رؤوسهم قطعاً من الفحم الأسود، وأنا أعتقد لو أن بعضهم عاند الحاكم لا حباً في العناد بل إصراراً على مصلحة الأمة والدولة والشعب والحاكم لنجا الجميع من مآزق لا تظهر آثارها إلا بعدما يكون الوقت قد فات لإصلاحها.
زعم أحدهم زوراً يوماً أن الملك فاروق ينحدر من السلالة النبوية الطاهرة … ومضى فاروق وبقي صاحب العمامة الكذوب عبرة لأهل الاحتيال والنفاق.
وقام أحدهم معقباً على كلمة أحد الحكام فقال : لقد اهتز عرش الرحمن لكلمة الرئيس القائد …. وسكت الجميع بين منافق أو غبي أو جبان، وكأن الإسلام سوف يموت إن مضى واحدهم للقاء الله سعيداً شهيداً… ومكر الجالسون جميعاً بالرئيس المغرور، ثم دارت الأيام وأعدم السيد الرئيس القائد … بحبل ملفوف حول عنقه وفي مكان لا يليق إلا بعصابات الإجرام والأشقياء، وبقي بعض من غشوه ينتشرون في الأرض هنا وهناك يبحثون عن صيد آخر يفترسونه ويبيعونه المكر والنفاق.
وحصلت مرة مواجهات مسلحة بين جماعة إسلامية وإحدى الحكومات فلم يكن دور بعض العلماء حل الإشكالات ولا تعطيف قلوب الحكام على التائهين من الشباب، ولا رد الشباب إلى الصواب، بل كانوا أسبق من الحكام في التنكيل فلم يعطوا أبناء الإسلام حتى صفة البغي ، بل أعلنوا أن حد الحرابة هو الذي يجب أن يطبق على الشباب المسلم، وغمسوا أيديهم في دماء الأمة بما لم تنغمس به يد حاكم ولا فرعون.
ربما يجد الحكام مبررات لهم إن اتخذوا الحزم (الذي ترضاه الشريعة ويبيحه القانون ويليق بكرامة ابن آدم ) في بعض المواطن فقد تضيع دولة بكاملها من وراء التهاون في بعض الأمور، ولكن الذي لا يفهم أن ينبري بعض أصحاب العمائم فيكونوا ملكيين أكثر من الملك، ويقدموا من المبررات مالا تحلم به دولة ولاحاكم، ويكون عملهم هو التهريج والكذب وكتمان الحق، أما حقوق الإنسان وعدالة القانون وإيقاف النهب والسلب للأموال العامة ومنع الرشوة والمطالبة بإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ورد المظالم وإلغاء سيطرة الحزب الواحد فقد تعافوا من ذلك تماماً وتركوا ذلك لغيرهم، وقد كانوا الأجدر في الريادة فيه.
لقد قام أحدهم مرة (وعمامته بحاجة إلى جمل صغير ليحملها) فقال : إن الله قد حبس الأنبياء فيونس صار في بطن الحوت، ويوسف في الجب!! فإذا اعتقلت الدولة بعض المواطنين فماهي المشكلة!
ويتناقل الناس أن أحدهم قال مخاطباً أحد الحكام: (إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله … ) وبحثت في كل التفاسير التي وصلت إليها يدي لأجد شبهة تدفع ما هو قريب من الكفر بهذه الجراءة على الله فلم أجد، إذ أن الآية خاصة بالنبي الهادي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا يجوز أن تقال لعمر بن الخطاب ولا لعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وأرضاهما.
لا ألوم الحاكم الذي يمتلئ بالغرور إن سمع أشباه ذلك الكلام، فهو بشر والنفس أمارة بالسوء، ولكني ألوم تلك العمائم التي تتزلف بالليل والنهار وتبيع الحاكم والمحكوم، وهي تماماً أسوأ جزء من الحاشية الفاسدة، لأن الحاكم مهما انحرف، ومهما كانت حاشيته فاسدة، فإنه في أعماق قلبه يميل إلى سماع رأي أهل العلم والدين، وتطمئن نفسه إن وجد في كلام بعض أهل العلم له سنداً، فإن كان بعضهم هم النساجون المحتالون، فاقرأ على الدولة والأمة والحاكم والمحكوم كلهم السلام!
لم يعد أي حاكم اليوم معبراً عن نفسه، بل إن أي تصرف ينعكس بشكل إيجابي أو سلبي على كل الناس، وانظر إلى رعونة صدام ، فقد رضي أن يدمر العراق تدميراً، ولم يرض أن يتنازل عن الحكم للأمة، أو يؤسس لحكم جماعي يتآلف به الناس، بل بقي يكابر ويغتر بمن يدبكون ويصرخون ويرقصون، وظل يتحدث عن النشامى .. والماجدات … وحاشيته تزين له النصر والقوة والتمكن، وحب الشعب اللاهب له، وسوس الفساد والظلم ينخر في الأمة … وهو يدري أو لا يدري .. وربما لو تقدم بين يديه جمع من العلماء يذكرونه (مهما غضب) ويصرون على رجعته مهما ابتعد (ولو سجنهم .. وحتى لو أعدمهم) … إذاً لَوَ فَّروا لا على العراق، بل على أمة الإسلام شراً مستطيراً، ولَحَمَوْا وحدة أهل العراق، ودين وكرامة واستقلال أهل العراق، بل بلاد المسلمين كلها. ومهما كانت ضريبة الحرية غالية فإن ضريبة الذل أفدح بكثير ..
للإمام الغزالي لفتات عظيمة ومنها قوله: أن الإنسان بحاجة إلى عدو مشاحن أكثر من حاجته إلى صديق مداهن .. وذلك لأن المشاحن يعين على إصلاح النفس، والمداهن يزكيها كل لحظة، بل ويمنع من رؤية عيوبها فيزداد الخلل وتتسع الثغرات.
كلنا يجب أن يكون ذلك الطفل الذي يصرخ .. وربما كانت صرخاته هي منفذ النجاة الوحيد، وعلينا أن لانُموِّه الأمور أو نُغيِّر من حقائقها، وحرصاً على أن لا يكون هناك نساج محتال، فلنرفع أصواتنا متكلمين عن الحق، غير آبهين بالباطل، ولتأخذ الأسماء حقائقها ، ولنقل للمنافق: أنه ينافق، وللمزاود: أنه مزاود . ولنحذر من الفتنة عن بعض ما أنزل الله إلينا، ومن ضياع الحق على أيدينا …
يجب أن نكون مع ذلك الصبي الشجاع ولا نسمح للحاشية المنافقة بتعرية أحد، حاكماً كان أم محكوماً، فالعري اليوم هو كشف للغطاء السياسي والدولي عن الدولة، وتخريب للاستقرار ونحت في تماسك الأمة، وإيقاد لمشكلات نحن في غنى عنها، والبعض لا يهمُّه كل ذلك مقابل مكاسب هزيلة ، ومن يتسلقون اليوم على أكتاف الأمة، ويبيعون دينها بثمن بخس دراهم معدودات كي تتم تزكيتهم في توزيعات المناصب القادمة، هم أكثر الناس بيعاً للبلاد والعباد، ولا دين لمن لا أمانة له، ومن يعلم أن الإسلام دين التوحيد، وأن جماليات الإيمان وخصوصيات الفن الإسلامي تمنع من وضع صور لأحد على جدران المساجد ثم بعد ذلك يعلقونها فهم يبيعون الدين للحكام، ويبيعون الحكام للناس، ويبيعون الناس والأمة للشيطان.
قال تعالى:
– (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً فويل لهم مما كتبت أيديهم وويل لهم مما يكسبون). سورة البقرة- 79.
– (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) سورة البقرة – 159 صدق الله العظيم
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)