الملحدون الجُدد
بقلم وليد دمشقية
عندما يصل حال إنسان زماننا هذا في ضياعه الفكري وانحرافه الفطري إلى الإلحاد أو مقدّماته، لا بدّ من مقاربات علاجيّة للمشكلة تحاكي أمراض النّفس المستجدّة والسّائدة في هذا العصر، وتداويها من جملة العلاجات المناسبة بواحد من أهمّها استناداً على حديث رسول الله ووصيّته صلّى الله عليه وسلّم “خاطبوا النّاس على قدر عقولهم”..يعني أفهامهم، بحدودها وخلفيّاتها ونوازعها والمؤثرات الّتي يمكن أن تحرّك أحاسيسهم ووجدانهم..
بدايةً لا بدّ أن نسلّط الضّوء برأيي ونفرّق على أنّ الإلحاد عند غير المسلمين ناتج عن فراغ تامّ ورفض لأيّة عقيدة لا تربطهم بالواقع المرئيّ أو الحسيّ التجريبي..بينما عند من وُلِد مسلماً فهو ناتج عن غياب جزئي أو تامّ لوابل من إجابات لأسئلة تُطرح عليه تارةً في وعيه وتاراتٍ في لا وعيه، في زمن عولمة متوحّشة، وحدود حضاريّة مفتوحة، وحرّيّة متفلّتة من أيّة قيود أو خطوط حمر..
ثمّ أنّه لا بدّ أن نعي ونعترف ابتداءً أنّنا نعاصر زمناً غير مسبوق في العديد من مكوّناته الأساسيّة، نوعاً وكمّاً، بآثاره السلبيّة ومآلاته المؤثّرة على بني البشر، كلّ البشر، والسّمة المشتركة والمهيمنة عليهم جميعاً تكمن في تعرّضهم ليل نهار لكمّ هائل متسارع جداً وغير مسبوق في تاريخ البشريّة..من المعلومات والأفكار والطّروحات من شتّى الألوان والأنواع الّتي تلازم ظلالهم وتكاد تدخل فراشهم، من دون أيّة فرصة عمليّاً ليراجعوا فضلاً عن أن يُحلّلوا ويتفكّروا فيما تتعرّض له أدمغتهم وتستقبله قلوبهم في لا وعيها المخدّر وفكرها المغيّب، والّذي لم يعد يدري بماذا يبدأ وأين ينتهي به المطاف..
دوّامة ووابل من المعلومات والمستجدّات المتلاحقة استحوذت على العقول وهيمنت على القلوب..
والمسلمون عموماً ليسوا مستثنون من ذلك، بل إنّهم بسبب جهلهم وضحالة علمهم وثقافتهم من جهة، وخلفيّة التّقاليد البالية فضلاً عن التّخلّف الحضاري المركّب الّذي ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، والّذي أوغلوا فيه جهلاً وضياعاً بدل أن يغيّروا الحال نحو الأفضل، تراهم عرضة لصراعات نفسيَّة أكبر وأكثر من غيرهم في هذا المضمار..
أمواج متلاطمة تأخذهم يَمنةً وأخرى تقذف بهم يَسرة، خاصّةً في ظلّ الهجمة الشّرسة الّتي تتعرّض لها الأمّة مادّياً وحضارياً لتغيير هويّتها وتشويه جذورها وأصالتها ومنابع حضارتها..
إذاً، فإنّ ما يميّز النّفس البشريّة اليوم عن سابقاتها في العصور الّتي مضت هو شدّة التّعقيد والتّشابك في مكوّناتها، حتّى أصبح المرء في غربة عن ذاته، لا يملك السيطرة عليها كونه لا يسيطر على الجزئيّات الوافدة عليها والمؤثّرة بها..وحتّى أصبح كلّ فرد يمثّل عالماً غامضاً خاصّاً بذاته، لا يشبهه أحد، له شيفرة خاصّة يكاد يستحيل فكّها وتحليل أرقامها بالطّرق التّقليديّة المعروفة..
من هنا، تصبح الحلول التّجميليّة والتّقليديّة قليلة النّفع والجدوى، وإن نفعت فعلى مستوى الأفراد القلائل بل النّوادر، حيث تيّار التّحدّيات الفكريّة والمعروضات الغرائزية أقوى بكثير من أن تحدّه بعض التّرقيعات هنا أو هناك أو أن يواجهه تسطيحات فكريّة من أشباه العلماء والمفكّرين، لا تمتّ لواقعها بصلة وقد عفا عنها وعن أساليبها الزّمن..
في ظلّ هذا الواقع المستجدّ وغير المسبوق في الكثير من مكوّناته الأساسيّة كما سبق وذكرنا، لا بدّ برأيي من مقاربة في العمق، مظنّة أن تطال الفكر الجماعي حضارياً بدءاً بكلّ مخلوق عاقل على هذه الأرض، مقاربة في الحقيقة لا ترتبط بهذا الزّمان فحسب، لكنّها تبرز وتتجلّى اليوم أولى وأهمّ من أيّ زمن مضى، لعلّ من أهمّ أركانها:
١) معرفة الله الخالق أوّلاً وقبل الولوج إلى أيّ شيء آخر، عبر التركيز على عظيم صفاته وإعجاز خلقه..
٢) فقه مقاصد الدّين وأهمّيّته في حياة الإنسان لجهة انعكاس ذلك فعليّاً على واقع عيشه وسلوكيّاته ومعاملاته..
٣) شرح عقيدة القضاء والقدر بلغة وأسلوب مبسّط سهل ومقنع..
٤)أسلوب يحاكي الواقع ومُحركّاته وآثاره النّفسيّة على البشر عموماً وعلى الشباب منهم خصوصاً..
تلك هي البداية الحتميّة الضروريّة لأيّ إنسان ضالّ، سواء تاه عن الحقيقة ولم يعد يبحث عنها، أو أنّه تاه عن الإجابة عن أسئلة واستفسارات تراود ذهنه وتحيّر عقله..
والأمّة على وجه الخصوص أمام حقيقة مؤلمة وشاقّة جداً على النّفس: المسلمون بعمومهم غائبون مغيّبون عن أبجديّات دينهم، ولم يعد يربط الكثير منهم إلى حدّ بعيد ومرعب سوى الشكل وبطاقة الهُويّة..(أتكلّم عن ظاهرة الإلحاد والرّدّة الفكريّة والنّفسيّة، والّتي تسبق بأشواط ومراحل تلك الجهريّة إن حصلت..)، حيث أنّنا أمام واقع وظاهرة أبعد ما تكون عن أن نبدأ معها بتفاصيل تتعلّق بطرق الالتزام الديني المعروفة، والخوض في أشكال الحلال والحرام، أو التذكير بيوم الحساب..قبل أن نربطهم بخالقهم لجعلهم يستوعبوا ضرورة علاقة المخلوق بخالقه العظيم ومركزيّة الرّسالات السّماويّة في الردّ على الأسئلة الوجوديّة، وأخيراً مدى أهمّية ذلك على مسار حياتهم وسعادتهم أو شقائهم..
يعني باختصار شديد، لحرف خياراتهم من العبث والضياع إلى الهداية والصّواب بأسلوب يستشعروا معه “مصلحتهم المادّية فضلاً عن راحتهم النّفسيّة في خياراتهم تلك”..
وحول طرق العلاج فالحديث لا زال طويلاً
..ولكنّه ضروري ومستعجل لا يحتمل التّسويف والإنتظار..
والله الحكيم القدير وليّ الأمر والتّدبير والتّغيير.
(المصدر: رابطة العلماء السوريين)