المقدرات الذهنية .. ابن تيمية وابن خلدون: استئناف النظر والعمل
بقلم البروفيسور ابو يعرب المرزوقي
قياسا على نظرية ابن تيمية الذي ميز بين العلم الكلي الذي لا يوجد إلا في ما سماه “المقدرات الذهنية” ونفاه عما عداها من العلوم التي تدرس موضوعات ذات قيام لا تستمده من العلم نفسه الذي يفترض موضوعا بتقديره الذهني ميزت بين الفنون عامة والآداب خاصة والتاريخ أو قص الموجود الخارجي.
لم أضع نظرية في الفن والأدب بل عممت نظرية ابن تيمية التي تقابل بين علوم المقدرات الذهنية وعلوم الموجودات التي لا تدين بوجودها للتقدير الذهبي بل مهمة الذهن فيها هي تطبيق التقدير الذهني عليها قيسا لها به لأن قوانينها مجهولة فيعلم الممكن منها بالقياس إلى الحاصل من قوانين المقدرات. وهذا التعميم مكنني من اكتشاف خمس مجالات مختلفة في المعرفة الإنسانية:
1-المقدرات الذهنية الرمزية عامة والرياضية التي يكون فيها العلم واضعا للعلم والمعلوم في مجال الضرورة المنطقية
2-المقدرات الذهنية الفنية عامة والادبية خاصة وهي مقيسة على الأولى ولكن في مجال الحرية الخلقية عامة ويترتب على هيذن المجالين الأولين الرياضي والأدبي في التقدير الذهني:
3-علوم الطبيعة التي تبنى على المجال الأول إذا طبقناه على التجربة الطبيعية التي تطلعنا على معطيات الطبيعة إما فرضيا أو فعليا.
4-علوم الإنسان التي تبنى على المجال الثاني إذا طبقناه على التجربة الخلقية التي تطلعنا على معطيات التاريخ بنفس الصورة.أما المجال الأخير:
5-فهو أصل هذه المجالات كلها. وهو قبلها وبعدها أي إننا نكتشفه بعدها لكننا خلال ذلك الاكتشاف ندرك أنه مضمر فيها جميعا ومن ثم فهو أصلها المقدم عليها على الاقل في الوجود وليس في العلم أو في الوعي به: إنه قيس كل شيء على ما في وعي الإنسان بأفعال من مضطر وحر.
ولهذه العلة فإني اعترف بأني مدين لابن تيمية وابن خلدون بكل ما أحاول التعبير عنه ليس في قراءة القرآن فحسب بل وكذلك في بيان الواحد في الديني والفلسفي إذا تعلق الأمر بما فيهما من ابستمولوجي (نظرية النظر والعقد) وأكسيولوجي (نظرية العمل والشرع) بصورة تقطع نهائيا مع الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي.
وقد شرحت القصد بالكاريكاتورين. لكن لا بأس من التذكير بالقصد منهما: كاريكاتورالتأصيل هو فكر من يتصور علوم الملة معبرة حقا عن فلسفة القرآن الكريم ورؤاه في النظروالعقد وفي العمل والشرع.وكاريكاتور التحديث هو فكرمن يتصور تخريف الحداثيين العرب معبرا حقا عن فلسفة الحداثة ورؤاها فيهما.
ولأبدأ بكاريكاتور التحديث عند الحداثيين العرب. فهم كلهم دون استثناء ضحايا النكوص الهيجلي الماركسي للقول بنظرية المطابقة في الننظروالعقد وبنظرية المطابقة في العمل والشرع بمعنى أنهم يتصورون العلم محيطا والعمل مطلقا. وكلاهما لا يقول به كل من أدرك حدود العقل وحدود القدرة الإنسانيين.
ومن العلامات التي لا تكذب التعصب النظري والعقدي عند الحداثيين والكراهية المطلقة التي تجدها لديهم للديموقرطية في الأفعال بخلاف ما يصرحون به في الاقوال. ولذلك فحداثتهم لا يمكن أن تكون إلامعتمدة على عنصرية أرواح الشعوب الهيجلة وعلى دكتاتورية الطبقة الماركسية بمن في ذلك ليبراليوهم.
فكلهم لهم موقف عنصري من الشعوب التي يعتبرونها قاصرة ويتصورون أنفسهم أوصياء عليهم وهي رؤية هيجلية لأرواح الشعوب التي تجعلها انديجان في مقابل أصحاب المهمة التحضيرية التي تتوهم نخب العرب الحداثية أنها البديل من الاستعمار نيابة عنه في هذه المهمة التحضيرية العنيفية بقوة الدولة.
ولذلك فجلهم حلفاء القيائل والعسكر التي نصبها الاستعمار على المحميات العربية لتكون ممثلة لهذه العنصرية المقيتة. ولافرق بينهم وبين الماركسيين لان ما يقوله هيجل عن أرواح الشعوب يقوله ماركس عن الطبقات. والليبراليون العرب كذبة لأن أغلبهم أيضا حلفاء إما للعسكر أو للقبائل المنصبين.
ولا فائدة من إطالة القول في كاريكاتور التاصيل. فكلهم لهم نفس المواقف ولكن بدلا من أن تكون مبينة على هيجل وماركس في النكوص الفكري عن نظرية النظر والعقد النقدية ونظرية العمل والشرع المترتبة عليها هو يبنون نفس الوصاية على الشعوب باسم قراءتهم الفاسدة للقرآن والسنة.
ومثلما تجد الهيجلي والماركسي في كاريكاتور التحديث العنيف تجد السلفي والإخواني في كاريكاتور التاصيل العنيف. والأربعة يعتمودن العنف بمعنيين عند ابن خلدون: عنف التربية المبني على الوساطة إما بين العقل والإنسان أو بين الله والإنسان في النظر والعقد وعلى الوصاية عليه في العمل والشرع.
والوساطة نفاها القرآن لما قال الله للرسول “إنما أنت مذكر” بمعنى أنك في التربية لست ذا سلطة على المتعلم. والوساطة نفها القرآن كذلك لما قال للرسول “لست عليهم بمسيطر” بمعنى أنك في الحكم لست ذا سلطة على المواطن. فالتذكير في التربية من جنس التوليد السقراطي. ودور الحأكم من جنس دور الحَكم المحدد قرآنيا (النساء 58) بالأمانة (لأن الأمر أمر الجماعة الشورى 38) والعدل علامة الأمانة: الحاكم نائب مؤقت للجماعة وهو مؤتمن على أمرها مدة النيابة تحت مراقبتها (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين).
فلا يكون النظر والعقد في التربية فرض عين ولايكون العمل والشرع في الحكم فرض عين بل الأول يصبح تابعا لوسطاء من التحديثي أو التأصيلي في التربية والثاني تابعا لأوصياء منهما في الحكم: إنها الرؤية التي نكصت إليها الهيجلية والماركسية لتخليهما عن فلسفة النقد للنظر والعقد والعمل والشرع.
وهذا النكوص عودة إلى القرون الوسطى التي كانت تقول بهما وتدعي أن الوحي والعقل يدركان الوجود بإطلاق ويبنيان عليه النظر والعقد والعمل والشرع ولايريان مسافة بين الوجود وإلإدراك الإنساني سواء كان معرفيا أو خلقيا خلافا للعقل وللوحي: القرآن يستثني الغيب والعلم فيه محيط والعمل غير مطلق. وهذان الموقفان هما ما يجعل الأمة اليوم تعاني من داعشين:
داعش كاريكاتور التأصيل
وداعش كاريكاتور التحديث.
ومن لم يلحظ التوازي التام بين مواقفهما سلوكهما في النظر والعقد وفي العمل والشرع لا يمكن أن يفهم عجزهم مثلاعن فهم نظرية عدم التاثيم الخلدونية ومعنى الاجتهاد والجهاد القرآنيين.
قدمت للمحاولة بهذا المدخل الذي يبين الفاعلية التفسيرية لحال الأمة لهذه النظرية ذات المجالات الخمسة التي اعتمدت فيها على نظرية ابن تيمية في النظر والعقد وما يترتب عليه في العمل والشرع وعلى نظرية ابن خلدون في العمل والشرع وما يترتب عليها في النظروالعقد لكن غرضي ليس التطبيق.
ذلك أني اعتقد أن التطبيق مهم ومهم جدا لكنه ليس هو مطلبي لأني أومن بأن النظر المطلوب لذاته غاية لذاته أهم من التطبيق لأن التطبيق محدود بظرف معين والنظر يمكن أن يكون أكثر انفتاحا على الممكن دون أن يكون مطلق التحرر من الظرفيات. لكن دورها دون دورالتطبيق إغراقا في الخصوصيات.
وفي ختام هذا الفصل التمهيدي لنظرية المجالات الخمسة أود أن أحسم إشكالية العلاقة بين الخصوص والكوني في الفكرين الديني والفلسفي وبصورة أدق في الفكر عامة إذ لا فكر إلا الواحد فيهما أعني طبيعة العلاقة بين الكلي والعيني أو بين ما يغلب عليه التقدير الذهني وما يغلب عليه التعيين الفعلي.
والمعلوم أن هيجل استعمل معنى يمكن اعتباره متضمنا مثل هذا المعنى: مفهوم الكلي المتعين. لكنه مختلف تماما عما أقصده. فالمتعين ليس الكلي بل هو أحد وجوهه. إنه المطابقة الظرفية التي له مع تعين ما دون أن يكون إياه. فالكلي هو قانون المتعين الذي يشبه اللسان بالقياس إلى المعاني المنطقية ويشبه الرسم الذي نعمل عليه لعلاج مشكل رياضي نعينه فيه ونعلم أنه عين من الكلي وليس الكلي أو المثال الذي نقدمه لشرح فكره للمتعلم.
ولا معنى لسؤال فيم يقوم الكلي: هل هو في الأذهان فيكون ظاهرة نفسية أم في الأعيان فيكون من جنس المثل الأفلاطونية أو في العناية بالمعنى السينوي فيكون في علم الله أو في اللوح المحفوظ كما في الإسلام. ليس لهذا السؤال جواب مقنع: كلها تصورات لمحل قيام الكلي. وعندي أنه أحد تمظهرات الغيب المحجوب الذي يتمظهر في قدرة الإنسان على التقدير الذهني لمعان لها وجه انطباق جزئي على الوجود الخارجي المدرك بالحواس.
لذلك فكل من يعتبر الفلسفي أو الديني متعلقا بالخصوصيات يشبه من يتصور الدائرة الرياضية مثلا هي الاعيان التي نرسمها في الاستدلال الرياضي مثلا تيسيرا لتصور المفهوم هي الدائرة الرياضية وهي موضوع الفكر الرياضي. الأشكال للتعيين لاعلاقة لها بالكلي المعين بل بتيسير إدراكه لا غير.
فإذا سمعت متفلسفا يلح على الخصوصي فاعلم أنه لم يشم بعد رائحة الفلسفة وفضلا عن النظر والعقد وعلاقتهما بالعمل والشرع. فالكلي الذي يعنى به الفكر الفلسفي والفكر بصورة عامة -إذ لا فكر إلا وهو في آن وحدة الفلسفي والديني بمعنى طلب الحقيقة دون ادعاء حيازتها فتكون بما هي فلسفية حب الحكمة وبما هي دينية حكمة الحب-وتلك هي الأداة الوحيدة لإدراك الجزئي والخصوصي والغاية الوحيدة لفاعلية الفكر في المجالات الـخمسة هو جوهر فعل الفكر الإنساني في الدينـي والفلسفي.
موضوع المحاولة أن ندرس:
1-الفاعلية الإنسانية في المقدرات الذهنية وفروعها الأربعة:
أي في صنفيها:
2-الصنف الذي حدده ابن تيمية (الرموز عامة والرياضيات خاصة).
3-والصنف الذي اضفته أنا قياسا عليه (الفنون عامة والأدب خاصة)
وفي صنفي تطبيقاتهما أي:
4-عالم الطبيعة والضرورة
5-وفي عالم التاريخ والحرية.
ومن يدرك أن الواحد في الأديان وفي الفلسفات ووحدة هذين الواحدين أي وحدة الديني والفلسفي هو فاعلية الإنسان في النظر والعقد وفي العمل والشرع وهو ما يفسر موقفي من الدين ومن الفلسفة وبوصفهما رؤى لهذين الوجهين من الفاعلية الإنسانية في الرياضيات والأدب وفي الطبيعيات والإنسانيات.
وما أريد بيانه ليس رأيي الشخصي فحسب بل ما يترتب على رأي ابن تيمية وابن خلدون لو تمكن قراؤهما من تجاوز الاقتصار على القياسات السطحية طلبا للسبق بالقياس إلى ما يتنافى تماما مع فكرهما.
فمثلا ابن خلدون لا يمكن أن يقاس لا بماركس ولا بأوغست كونت ولا حتى بأفلاطون أو بأرسطو. ومثله ابن تيمية. ذلك أن سبق الأول في فلسفة العمل والشرع وسبق الثاني في فلسفة النظر والعقد ليس لهما مثيل كما سنبين في فصول هذه المحاولة.
(المصدر: صفحة البروفيسور أبو يعرب المرزوقي على الفيسبوك)