المقاومة الفلسطينية إذ تُجدِّد شرعيتها
بقلم محسن محمد صالح
مشهدان متقاربان في الزمن متعارضان في المسارات، شكّلا علامة فارقة في التطور المعاصر لقضية فلسطين، وفي الحالتين كان مركزهما الأقصى والقدس.
الأول قرار محمود عباس وقيادة فتح في 29 أبريل/نيسان 2021 تعطيل الانتخابات ومسار إصلاح البيت الفلسطيني بذريعة عدم القدرة على إجرائها في القدس، والثاني قرار حماس وقوى المقاومة في 10 مايو/أيار 2021 قصف الكيان الصهيوني بالصواريخ دعماً لصمود أهلنا في القدس ومنعاً لتغوُّل الصهاينة في تهويد الأقصى وحي الشيخ جراح والقدس.
لا يفصل بين المشهدين أكثر من أسبوعين ولكنهما أدخلا الوضع الفلسطيني أمام فرصة التحوّل إلى مسار جديد ذي طبيعة استراتيجية، وكلاهما وفّر قفزات نوعية لحماس والمقاومة الفلسطينية التي كسبت معركة المصداقية وتحمُّل المسؤولية التاريخية والاستجابة لتطلعات الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية.
أراد عباس وقيادة فتح إدارة “لعبة الشرعية” على هواها والهروب من الخسارة المحتملة، إذ أظهرت المؤشرات انتصاراً انتخابياً وشعبياً لحماس وخط المقاومة. غير أن احتفاظ قيادة فتح بورقة “الشرعية” القائمة على عكازات إقليمية ودولية سيبقى مؤقتاً، في الوقت الذي فقدت فيه القيادة الفلسطينية الحالية “الثقة والمصداقية”، وتسببت بحالة سخط شعبي شامل ضدّها، ووجدت نفسها معزولة عن الأحداث وعن التأثير في مساراتها.
المقاومة الفلسطينية التي انسجمت مع نفسها في الحرص على الوحدة الوطنية وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني ولو على حساب بعض التنازلات هي نفسها التي انسجمت مع نفسها وتحمَّلت مسؤولياتها تجاه الأقصى وحي الشيخ جراح والقدس فأطلقت طاقاتها الشعبية والانتفاضية في القدس وفي داخل فلسطين وخارجها كما أطلقت صواريخها من قطاع غزة.
ربما تأجل استحقاق الانتخابات وتأجَّل استلام قوى المقاومة لموقعها الحقيقي في المنظومة السياسية الفلسطينية (وتحديداً منظمة التحرير)، غير أن المقاومة واصلت صعودها وتوسيع تأثيرها في قلوب الشعب الفلسطيني وعقوله، وأصبحت المُعبِّر الفعلي عن آماله والممثل الحقيقي لتطلعاته بل وتطلعات الأمة، وبالتالي فقد أكدت وجددت “شرعيتها” على الأرض.
لقد أراد عباس الهرب من الخسارة فتضاعفت خسارته وانسجمت المقاومة مع نفسها فتضاعفت مكاسبها، بل ولم تضطر قوى المقاومة إلى دفع أي من الفواتير والاستحقاقات التي أرادها عباس وداعموه من خلال محاولة استيعاب هذه القوى تحت سقف المنظومة السياسية الحالية المرتهَنة لأوسلو ومسار التسوية.
في هذا الموقف نتذكر قوله سبحانه على لسان يوسف عليه السلام: “إن ربي لطيف لما يشاء” وكيف يقدّر الله سبحانه الأقدار، على أفضل مما كانت تريده المقاومة وعلى أسوأ مما كان يريده منافسوها أو خصومها. ولعل البعض رأى الخير في “غير ذات الشوكة”، لكن الله سبحانه أراد أن “يُحقَّ الحقَّ بكلماته” وأن يُدبِّر للمقاومة الصادقة بلطفه وكرمه، ويعيد توجيه البوصلة ومسار الصراع إلى طبيعته بحكمته وفضله.
فلو لم يعلن عباس تعطيل الانتخابات وإفشال مسار ترتيب البيت الفلسطيني لربما وجدت حماس حرجاً في إطلاق الصواريخ والدخول في حرب مع الكيان الصهيوني، ولربما راجعت حساباتها مرات حتى لا تُتهم بتعطيل “العرس الديموقراطي” وإفشال الانتخابات، ولربما سارع “المرجفون” بوصفها بأشنع الصفات والاتهامات. أما وإن عباس وقيادة فتح عطلوا بأنفسهم المسار فقد جلبوا لأنفسهم السخط، بينما لم تَعد حماس ولا قوى المقاومة ملزمة بالتهدئة ولا بسقف المقاومة الشعبية المعلن عنه في التفاهمات وأصبحت حرة بإطلاق العنان لمقاومتها من دون سقف لحدودها. وفوق ذلك كان خلفها إجماع شعبي فلسطيني ودعم شعبي عربي وإسلامي ودولي مع جاهزية فلسطينية عالية للتضحية وتوسيع دائرة الانتفاضة في الضفة الغربية وفلسطين المحتلة سنة 1948. وأخذت بذلك القدس مكانها الطبيعي في بؤرة الصراع، وليس مجرد “قميص عثمان” تتحجج به القيادة الفلسطينية الحالية للهرب من استحقاقاتها.
الشعب الفلسطيني في القدس كما في باقي الضفة الغربية وقطاع غزة وفي فلسطين المحتلة 1948 كما في الخارج “صوَّت” للمقاومة وأكد شرعيتها الشعبية وشرعيتها المقاومة من خلال وقوفه خلفها في تصعيدها الانتفاضي والمسلح ضدّ الاحتلال.
والشعوب العربية والإسلامية “صوَّتت” للمقاومة بعد أن تفاعلت بشكل هائل مع الحالة الانتفاضية في القدس ومع التصعيد المقاوم في فلسطين، وبعد أن ظنّت الأنظمة المُطبّعة أنها تمكنت من عزل الشعوب عن قضيتها المركزية، وعن قلبها النابض في الأقصى. واضطر العديد من الأنظمة إلى فرملة قطار التطبيع ومحاولة استيعاب الموجة من خلال رفع سقف التصريحات السياسية وزيادة “جرعات” الإدانة للكيان الصهيوني، بعد أن أدركت أن المقاومة على الأرض ستعيدها إلى “المربع الأول” وستعصف بمسارات التطبيع أو تُعطّلها على الأقل، بل وقد تتسبب بتصاعد غضب شعوبها تجاهها.
والمقاومة فرضت احترام العالم لفلسطين وقضيتها، وأعادتها إلى صدارة الاهتمام العالمي بعد أن فشل مسار التسوية ومسار التطبيع بأن يقدم شيئاً للشعب الفلسطيني، فضلاً عن استخدامه كغطاء لمزيد من تهويد الأرض والإنسان والمقدسات، واستخدام وكلائه في السلطة والأنظمة العربية كأدوات للتنسيق الأمني مع العدو ومطاردة قوى المقاومة وخنقها. لقد أثبتت الدراسات أن العالم يتفاعل إيجاباً مع قضية فلسطين ويزيد التصويت لصالحها في الأمم المتحدة عندما تتصاعد المقاومة (حتى وإن كانت موسومة لدى البعض بالإرهاب) وليس عندما ينشط مسار التسوية.
الغليان الذي شهدته القاعدة الفتحاوية وانضمام شبابها إلى الفاعليات الانتفاضية والمقاومة يشير إلى أن هذه القاعدة الوطنية “صوتت” للمقاومة وتجاوزت قيادتها المرتبكة المنعزلة، كما تجاوزت جماعة التنسيق الأمني. ومحاولة قيادة فتح اللحاق بالموجة وركوبها هو سلوك معتاد سواء كان ذلك خشية لخسارة قاعدتها الشعبية الوطنية وسعياً للبقاء في صدارة المشهد الفلسطيني ولتحصيل حصة من المكاسب التي جنتها المقاومة.
هذه القيادة الفلسطينية التي حصلت على توافق فلسطيني منذ صيف 2020 بتصعيد المقاومة الشعبية لم تصدر غير بيان يتيم فشل في أن يُتَرجم على الأرض طوال أكثر من ثمانية أشهر. وعندما أخذت المقاومة زمام المبادرة وفرضت أجندتها أخذنا نسمع رموزاً من هذه القيادة يصطنعون إنجازات موهومة (تخالف حقيقةَ سلوكهم وأدائهم وتنسيقهم مع الاحتلال وخصومتهم للمقاومة)، ليحاولوا “سرقة” اللحظة التاريخية ويحرموا المقاومة من ألق انتصاراتها وتضحياتها.
غير أن المهم في هذه المرة أن حماس وقوى المقاومة هي التي جرَّت تيار التسوية وقاعدته الشعبية إلى مربع المقاومة وأنها فرضت عليهم أجندتها ولو إلى حين.
مرة بعد أخرى وكما أكدنا مراراً يُثبت الأقصى وتُثبت القدس أنها “عصب الأمة” وأنها “مؤشر” عزتها وكرامتها وأنها خطّها الأحمر وأن الشعب يثور ويضحي ويستشهد لأجل الأقصى والقدس وفلسطين ولكنه لا يحرك ساكناً لأجل مسار التسوية. ومرة بعد مرة ومنذ نحو قرن من الزمان (منذ ثورة القدس 1920) تؤكد القدس وما تمثله من بُعد ديني عميق في قلب الأمة أنها توحد الشعب والأمة على أجندتها عندما تكون أجندة مقاومة وأنها الرافعة لمن يرفعها ويرعاها ويحميها وأنها الخافضة الكاشفة الفاضحة لمن يخذلها وأنها في كل منعطف تاريخي تعيد توجيه البوصلة نحو الصراع مع العدو ونحو مشروع المقاومة والتحرير وأنها التي تقطع الطريق على مسارات التطبيع وهيمنة العدو على المنطقة وأن ارتباطاً جوهرياً بين مسار صمود القدس وصعود مشروع المقاومة في مواجهة الاحتلال، وبين مسار نهضة الأمة ووحدتها وقوتها.
وهذا ما يعني مرة أخرى أن الأقصى والقدس “يصوِّتان” أيضاً للمقاومة.
(المصدر: تي آر تي TRT عربي)