المقاصد الاقتصادية الإسلامية (3) .. التنمية الاقتصادية والاجتماعية
بقلم د. أشرف دوابة
بعد أن تناولنا في المقالين السابقين مقصدين من المقاصد الاقتصادية للإسلام، وهما: مقصد الاستخلاف، ومقصد حفظ المال وتنميته، نتناول في هذا المقال، مقصدين آخرين، وهما: مقصد التنمية الاقتصادية، ومقصد التنمية الاجتماعية.
3- مقصد التنمية الاقتصادية:
تعتبر التنمية الاقتصادية من المقاصد الكلية للاقتصاد الإسلامي؛ فإعمار الأرض تكليف شرعي لتحقيق استمرارية الحياة الطيبة، وبقدر كفاءة الاستثمارات وقدرتها على التخصيص الأمثل للموارد، وكذلك انضباط الحاجات، بقدر ما يساهم ذلك في تحقيق التنمية الاقتصادية.
ومن ثم حرص الإسلام على المواءمة بين الموارد والحاجات، وزيادة مصادر وموارد المجتمع ما أمكن، وتحقيق التوازن التنموي بين القطاعات المختلفة وكذلك بين الأقاليم المتعددة، فضلاً عن إعداد فئة من العمال المهرة، وترسيخ مفهوم الاعتماد على الذات لا التبعية للغير.
كما أنه في سبيل تحقيق مقصد التنمية الاقتصادية حث الإسلام على مراعاة الأولويات الإسلامية من ضروريات، وحاجيات، وتحسينات؛ إنتاجاً، وتوزيعاً، واستهلاكاً.
أولاً: الضروريات:
وتعني الأشياء التي لا بد منها لقيام مصالح الدين والدنيا من حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال، فالضروريات لازمة لقوام حياة الناس واستقامتها ولا غنى للناس عنها وإلا اختل نظام حياتهم.
ويأتي في مقدمة تلك الضروريات توجيه الأموال للاستثمار في مشروعات تحفظ للناس حياتهم وأمنهم، وتلبي أولوياتهم، كالمشروعات اللازمة لتوفير المأكل والمشرب والملبس والأمن والتعليم والصحة، فضلاً عن اعتماد أولويات الناس في استيفاء حاجتهم المعيشية والاستهلاكية على ذلك بصورة تحقق الرشادة الاقتصادية.
وأساس ذلك قول الله تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش)، وروى ابن ماجة عن سلمة بن عبيدالله بن محصن الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أصبح منكم معافى في جسده آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا”، ويعتبر تحقيق تلك الضروريات من فروض الكفايات، التي تعمر بها الأرض، وتستكين عليها حياة الناس، والتقصير أو الإهمال فيها يعد إثماً لمخالفة ما أوجبه الله تعالى.
ثانياً: الحاجيات:
وهي التي تجعل حياة الناس أكثر يسراً وأقل عناء، فيحتاج إليها لرفع الضيق والحرج، فيمكن تحمل الحياة بدونها، ولكن بمشقة زائدة، وتوفير تلك الحاجيات يعتبر من قبيل المستحب.
ثالثاً: التحسينات أو الكماليات:
وهي التي تجعل حياة الناس أكثر رغداً ومتعة دون إسراف أو تبذير أو ترف، ويطلق عليها التحسينات؛ لأنها تشير إلى ما استحسن عادة من غير احتياج إليه، ومن أمثلتها المأكل والمشرب الطيب، والملبس الناعم، والمركب الهنيء، وغير ذلك من الأشياء التي تجعل الحياة على أحسن حال، وهي تتفق والمقاصد الشرعية في قوله صلى الله عليه وسلم: “من سعادة المرء الجار الصالح والمركب الهنيء والمسكن الواسع” (رواه أحمد)، وتوفيرها يعد من قبيل المباح.
وتبدو أهمية الالتزام بتلك الأولويات؛ إنتاجاً وتوزيعاً واستهلاكاً، مع أهمية تنويع مجالات الاستثمار من صناعة وزراعة وتجارة وخدمات، وكذلك توازن الاستثمارات بين الأقاليم، لسد الحاجات المقررة للمجتمع، حتى يكتفي المجتمع، ويستغني عن غيره.
ولا ينبغي الاهتمام بالكماليات على حساب الضروريات والحاجيات، أو الاهتمام بالسلع الاستهلاكية على حساب السلع الإنتاجية؛ لما يترتب على ذلك من خدمة شريحة أقل في المجتمع، ومن ثم ضياع جزء كبير من موارده، كان يمكن توجيهها لإنتاج السلع والخدمات التي تحتاج إليها الشريحة الكبرى فيه، التي تمثل لها ضرورة من الضروريات وحاجة من الحاجات؛ ما يؤثر سلباً على تخصيص الموارد.
4- مقصد التنمية الاجتماعية:
التنمية الاجتماعية والتنمية الاقتصادية وجهان لعملة واحدة، وهما من المقاصد الكلية للاقتصاد الإسلامي الذي يحرص على تحقيق الكفاءة في توزيع الدخل والثروة، وتقريب الفوارق بين طبقات المجتمع، ومعالجة مشكلة البطالة وتوفير فرص للتوظف، وتوفير المساكن الملائمة، وتحقيق الأمن النفسي والغذائي، وتوفير وسائل الصحة والتعليم.
ومن أن أهم ما يميز الاقتصاد الإسلامي تبنيه للمسؤولية الاجتماعية؛ فرسالته السامية تقتضي منه تحسس حاجات المجتمع، وتلبيتها، ومراعاة ما يعود على المجتمع من منافع، وتجنب ما يلحق به من أضرار، تطبيقاً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا ضرر ولا ضرار”؛ فلا مجال –مثلاً- لتحقيق الضرر في المجتمع بإقامة مشروعات تؤدي إلى تلوث المياه، أو تلوث الهواء، أو التلوث الأخلاقي، ونحو ذلك.
والإسلام كذلك يحث على التوجه بالاستثمارات نحو الأنشطة الاقتصادية التي تولد نفعاً لأكبر عدد من الفقراء والمحتاجين لرفع كفايتهم، من خلال إعطاء الأولوية للاستثمارات التي تعطي وزناً أكبر للسلع الضرورية والحاجية التي ينفق الفقراء غالب دخلهم عليها؛ ما يساهم عادة في تخفيض أسعارها، وزيادة فائض المستهلك المتولد منها، فضلاً عن إعطاء وزن أكبر للدخل الذي يولده الاستثمار ويذهب للفقراء من خلال الزكاة، وهو في الوقت نفسه يعمل على استخدام وزن مناسب من زكاة الاستثمارات لتكون أداة تمويلية إنتاجية -وليست استهلاكية فحسب- لتحفيز الاستثمار لفقراء المسلمين، من خلال توجيهها لمن يستخدمها في إقامة مشروع صغير أو حرفي يكف به وجهه عن المسألة.
إن الاقتصاد الإسلامي بمقاصده السامية يجعل الفرد حريصاً على مصلحة الجماعة، ويجعل الجماعة حريصة على كرامة الفرد، ويوفر شبكة من أدوات التنمية الاجتماعية يكمل بعضها بعضاً، وترتبط بالإيمان زيادة ونقصاً؛ فهي لا تؤتي ثمارها إلا بقوة الدافع الإيماني بالدرجة الأولى، وكلما ضعف الدافع الإيماني في المجتمع ضعف أثر هذه الأدوات؛ لأنها ثمرة التربية الإسلامية، ومن هذه الأدوات: الزكاة، وصدقات التطوع، والوقف، والقرض الحسن، والنفقات الواجبة للأولاد والزوجة والأقارب، والكفارات، والأضحية، والعارية، وضمان الدولة لحد الكفاية، وحد الكفاية التامة للفرد ومن يعول من غير إسراف ولا تقتير.
كما تمتد يد الدولة لتحقيق التوازن الاجتماعي بين أفراد المجتمع في مستوى المعيشة عندما يختل اختلالاً كبيراً وبيّناً يجعل المال دُولَةً بين فئة دون بقية المجتمع، كما هي عليه الحال في النظام الرأسمالي، ويسلك الإسلام لتحقيق التوازن الاجتماعي مسالك شتى منها فرض الزكاة، ونظام الميراث، ووجوب تداول الثروة.
وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مراعاة التوازن الاجتماعي بعد هجرته للمدينة مباشرة بالإخاء بين المهاجرين -الذين تركوا متاع الدنيا بمكة وهاجروا طاعة لله ورسوله- والأنصار أهل دار الهجرة والثروة، وقد حكى القرآن الكريم عن تلك الصورة المضيئة في قوله تعالى: (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر: 9).
كما حرص النبي صلى الله عليه وسلم على مراعاة التوازن الاجتماعي بعد غزوة بني النَّضِيْر حيث وزَّع فيئها على المهاجرين خاصة، عدا رجلين فقيرين من الأنصار، وكان هذا بوحي من الله عز وجل، قال تعالى: (مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ) (الحشر: 7).
وتحقيقاً للتوازن الاجتماعي يرغب الإسلام في مراعاة التوازن الاجتماعي الإقليمي من خلال مراعاة التوازن التنموي بين الأقاليم، فضلاً عن التوازن الاجتماعي بين الأجيال من خلال الموازنة بين ثروات الأجيال الحالية والقادمة؛ لأن الأجيال القادمة لها حق في ثروات الأجيال الحاضرة، فالإسلام يحث الآباء على ترك أولادهم أغنياء لا فقراء، وفي هذا روى البخاري وصية الرسول صلى الله عليه وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قائلاً: “إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس”.
وقد راعى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه التوازن الاجتماعي بين الأجيال في تقسيم الأرض التي افتتحت عنوة بين المسلمين، حينما قال له معاذ رضي الله عنه: والله إذن ليكوننَّ ما تكره؛ إنك إن قسمتها صار الرَّيْع العظيم في أيدي القوم، ثم يبيدون فيصير ذلك إلى الرجل الواحد أو المرأة، ثم يأتي من بعدهم قومٌ يسدُّون من الإسلام مسدّاً، وهم لا يجدون شيئاً، فانظر أمراً يسع أوَّلهم وآخِرَهُمْ”، فصار عمر إلى قول معاذ.
والإسلام يرجو من وراء كل ذلك تحقيق الرفاه والسعادة للفرد والمجتمع في الدنيا والآخرة، من خلال التوازن بين مصلحة الفرد والمجتمع، بضمان حد الكفاية للأفراد، وتوفير السبل لإشباع كافة الحاجات الإنسانية الأساسية، وبناء وتنمية العنصر البشري الصالح الذي يعد أساس التنمية، ومن ثم تحسين مستوى الحياة على الصعيدين المادي والروحي.
المصدر: مجلة المجتمع