المقاتلون العرب في البوسنة .. الصفحة التي لم تُطو بعد
إعداد مريم تولتش
يروي الرئيس علي عزت بيغوفتش في مذكراته «سيرة ذاتية وأسئلة لا بد منها» الموقف التالي:
لم يحاول اللورد كارينغتون ولو للحظة واحدة إيهامي أن العالم وبالذات أوروبا سوف تهبّ لنجدة البوسنة التي تتعرض للهجوم، بل كان واضحًا حين قال لي: «لا تعتمد على تدخل الغرب، لأن هذا لن يحدث، فعليك أن تحاول التفاوض مع الصرب، إنها الطريقة الوحيدة للخروج من المأزق». ولقد كنا صامتين لدقائق، وبينما كنا ننزل الدرج، وقف فجأة، وسألني: «حسنًا، ماذا تنوي فعله؟» فكان ردي: «سوف نقاتل»، فقال: «ماذا تعني؟ هل تعرف مع من تتعامل؟» فأجبت: «نعم، أعرف، ولكن هل لدينا أي خيار آخر؟» لم يعلّق على ذلك، لكنني متأكد من أنه اعتقد أنني مجنون.[1]
كان ضربًا من الجنون توقّع أن المسلمين البشناق سيجرؤون على مواجهة آلة الحرب الصربية، التي سيطرت بشكل كامل على أسلحة الجيش اليوغسلافي (رابع أكبر جيش في أوروبا آنذاك من حيث العدة والعتاد) بشكل مسبق، ولم يكن للمسلمين البشناق آنذاك أي تشكيل عسكري منظم أو حدود مفتوحة تسمح بتلقي الدعم. كان ضربًا من الجنون، لكنه نجح في الحد من الخسائر في الأرض والأرواح، وإيقاف الالتهام الصربي لأراضي البوسنة عند حده، ويعزى الفضل في ذلك لبسالة الجيش البوسني الذي تشكل على عجل، نصفه من الجنود المسجلين ونصفه الآخر من المتطوعين ورجال الشرطة، وضمن أقسام الجيش كانت هناك مجموعة مهمة، قامت بدور فعال وأثارت الكثير من الجدل فيما بعد؛ المجاهدين.
كثير من المقالات والتقارير التي تناولت «الجهاد العالمي» لم تعط التجربة في البوسنة حقها من الدراسة والتحليل، ربما لأنها لم تدم طويلاً كما في الحالة الأفغانية مثلاً، ولم تحدث دويًا فارقًا في مسيرة الأحداث كما فعلت في العراق وسوريا لاحقًا، ولم تستهدف الأفراد الغربيين بالقتل أو الخطف، وبالتالي لم تشكل تهديدًا للوجود الغربي هناك. وبما أن مسيرة الحراكات «الجهادية» تتطور بتطور التجربة السياسية والاجتماعية والفكرية المصاحبة لها، فالبوسنة شاركت في إحداث نقاط تحول في هذه المسيرة، وهنا نسلط الضوء على المسار الذي سلكته هذه التجربة على صعيد الوضع القانوني، وعلى صعيد الأدوار العسكرية، وعلى صعيد العلاقة مع الحكومة والمجتمع البوسني.
تعريف عام بكتيبة المجاهدين
بدأوا في التوافد عام 1992،منذ بداية العدوان على البوسنة، كان جلّهم مدفوعًا بفكرة أن المسلمين البشناق بلا حول ولا قوة أمام الصرب الذين تقف وراءهم قوة كبرى، هي روسيا، وأمام الكروات المدعومين من البلدان الغربية كفرنسا وألمانيا، بينما المسلمون يقفون وحدهم محاصرين. ويؤكد على حرج وضع البشناق ما تحدّث به الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون في مذكراته عن«خطأ إستراتيجية الأمم المتحدة، فحظرها للأسلحة قد حرم الحكومة البوسنية من التكافؤ مع الصرب»[2]، وكذلك استثارت مشاهد المجازر وقصص الاغتصاب داخل مراكز الاعتقال مشاعر الشباب الذين توافدوا لنصرة المستضعفين من بلدانهم الأصلية، ولم يسبق لهم القتال، وبالمقابل كانت نسبة جيدة منهم قد قدمت من أفغانستان، التي عاشت حينها حربًا أهلية بين قادة الجهاد الأفغاني ضد السوفييت السابقين، شعر بسببها كثير من المقاتلين العرب هناك أن المعركة لا تعنيهم، وكان لابد من بديل يستحق القتال لأجله؛ مسلمي البوسنة والهرسك.
ويعتبر «داريل لي» أحد الباحثين الأمريكيين أن العجز الغربي وعجز الأمم المتحدة من الأسباب الرئيسية وراء قدوم المتطوعين المسلمين للقتال في البوسنة، ويقول في بحثه المنشور في المجلة الأكاديمية الأمريكية (Law & Social Inquiry) وقد كشفت أزمة البوسنة التناقضات: الجماهير في العالم الاسلامي كانت أكثر عرضة للنظر إلى محنة البوسنة كنتيجة تعكس العداء المناهض للمسلم وليس كدليل على العجز أو الشلل. وعندما عمدت الأمم المتحدة إلى تعميق تدخلاتها، كان ينظر إليها في كثير من الأحيان على أنها محاولة لخنق قدرة المسلمين البوسنيين على تولي الأمور بأيديهم. وكان القاسم المشترك في هذه الانتقادات هو اتهام الأمم المتحدة بمعايير مزدوجة في الاستجابة السريعة لاستيلاء العراق على الكويت الغنية بالنفط مع فشلها في وقف الفظائع الجماعية في البوسنة.[3]
ولتنظيم وضع المتطوعين القادمين للمشاركة إلى جانب المسلمين في البوسنة والهرسك، تقرر إنشاء وحدة تجمعهم تحت اسم «كتيبة المجاهدين» في 13 أغسطس/ آب 1993. وتفاوتت التقديرات حول أعداد المتطوعين بين ألف مقاتل وألفين. ولعل السبب الأول لهذا التفاوت هو عدم وجودهم ضمن مجموعة واحدة، فقد كانت هناك مجموعات تضم العرب القادمين من أفغانستان تحت قيادة الزبير الحائلي، ومجموعة تضم أفرادًا معظمهم يأتون للجهاد لأول مرة وهم من كانوا ضمن كتيبة المجاهدين، ومجموعة ثالثة صغيرة كانت ضمن صفوف مقاتلين بوسنيين في منطقة كونيتس تحت قيادة محلية «مجموعة مدرّس». والسبب الثاني لتفاوت التقديرات حول أعداد المجاهدين أنهم لم يتواجدوا جميعًا في وقت واحد، فمنهم من كان يأتي في الصيف فقط خصوصًا القادمين منهم من دول الخليج، ومنهم من يبقى طوال العام.
قدموا من شتى أنحاء العالم ولم يكونوا عربًا فحسب، فقد سُجل تواجد لـ 25 جنسية في صفوفهم، لكن الجنسيات الأكثر كانت المصرية والسعودية والجزائرية. ويثير الاهتمام قبول المتطوعين الانضواء والقتال تحت راية علمانية «الجيش البوسني»، الذي تضمّن في الحقيقة أفرادًا غير مسلمين من الصرب والكروات من الذين اختاروا القتال إلى جوار المحافظة على هوية البلاد البوسنية غير المقسمة، وكان نائب القائد العام لهذا الجيش يوفان ديفياك من صرب البوسنة، فالمجاهدون في البوسنة في هذه الحالة يشكلون استثناء عن الحالات الأخرى للقتال في أفغانستان أو الشيشان أو العراق أو الفلبين وغيرها حيث يكون المجاهدون محاربين غير نظاميين، لهم وضعهم المستقل الذي يرفض الانضواء تحت راية لا ترفع شعارًا إسلاميًا.
وكان ملفتًا للنظر تعاطي الرئيس السابق علي عزت بيغوفتش، الذي شكرهم بصورة شخصية على مساهماتهم، وهناك مقطع فيديو مشهور يظهره جالسًا على طاولة وبجواره عددٌ من قادتهم يتحدث معهم بودّ.[4] وكذلك تدخّل شخصيًا للإفراج عن ثلاثة منهم قبض عليهم الكروات.
المهمات القتالية
تنوّعت المهام التي قام بها المجاهدون، وأهمها تدريب أفراد من الجيش البوسني على مهارات القتال، وتولوا مهمات الإغاثة والإسناد، وشكلوا رأس حربة لأفراد الجيش البوسني في بعض معاركه. ومن إنجازاتهم البارزة مشاركتهم القوية في تحرير مناطق إستراتيجية من السيطرة الصربية، فمثلاً في المعركة الأخيرة التي خاضوها «معركة فوزوتشا»، استردوا طريقًا حيويًا يصل بين مدينتين كبيرتين وبذلك ربطوا أجزاء واسعة ومن وسط البوسنة وشرقها ببعضها.[5]
ويفسر إيفان كولمان في كتابه الأهمية التي كانت لقوات المجاهدين: «كان لجيش البوسنة والهرسك وحداته الخاصة به، لكن في المراحل الأولى من الحرب لم يكونوا على مستوى الجيش الصربي. في الواقع، كان للجانب الصربي ميزة وتفوق في كل شيء تقريبًا. وكان الجيش البوسني بحاجة إلى شيء لموازنة الخوف. المجاهدون كانوا المضاد القوي لهذا الخوف، وهي قوات مناسبة لاستخدامها في الصراع مع القوات الصربية، فقد كانت متفوقة في كسر الحصار، وكيفية الاقتحام، وعبور خطر الألغام الأرضية. هؤلاء هم الأشخاص الذين شاركوا في المعارك، مدربون تدريبًا جيدًا، وسوف يذهبون مباشرة إلى مواقع معادية، ويمرون في حقل ألغام، ويقومون بأشياء لن يفعلها الجنود البوسنيون أبدًا. جاء الأجانب للموت من أجل الإسلام، وكان البوسنيون يريدون العيش من أجله.[6]
وعلى اختلاف المصادر والآراء، هناك ما يشبه الإجماع على محورية دورهم في صد أطماع الصرب ومن بعدهم الكروات الذين انقلبوا على حلفائهم المسلمين في الفترة بين نهاية 1992 وحتى مارس 1994.
وجودهم داخل البوسنة ومشاركتهم القوية سلطت الأضواء عليهم في الإعلام الغربي، وكذلك الإعلام والدعاية الصربية والكرواتية، التي سارعت إلى وصفهم بـ «الإرهابيين المتطرفين» و«المرتزقة»، مع أنه كان في صفوف الصرب والكروات من المتطوعين أيضًا الذين قدموا من هنغاريا وروسيا وغيرها. أما الحكومة البوسنية فقد اعترفت بمشاركتهم المهمة، وحاز المجاهدون على العديد من الأوسمة والتقدير، منها خمس عشرة زنبقة ذهبية وتسعة دروع فضية، وواحد وأربعين ثناءً.[7]
تعاطي الحكومة البوسنية مع المجاهدين بعد انتهاء الحرب
يروي عمر الحاج، وهو جزائري مقيم في البوسنة، سلمته الحكومة البوسنية للحكومة الأمريكية التي اقتادته إلى غوانتانامو: «يوم الإفراج عنا من السجن البوسني، فوجئنا عند بوابة السجن بوجود قوات أمريكية بزي الشرطة البوسنية، أخذونا للقاعدة الأمريكية ومن ثم لمدينة توزلا (في شمال شرق البوسنة) ثم أخذونا بالطيارة ترانزيت إلى برلين ومنها لغوانتانامو، كنا مكبلين وعلى عيوننا غمامات سوداء وسماعات تحجب عنا الأصوات ونرتعش من البرد الشديد، حين وصولنا إلى هناك أدركنا أنه لا تهمة حقيقية ضدنا، فالتهمة التي سلمتنا الحكومة البوسنية بموجبها هي محاولة تفجير السفارة الأمريكية في سراييفو، ولكن في التحقيق لم يسألنا الأمريكان عن أشياء لها صلة بالسفارة، وإنما أسئلة عن علاقاتنا وصلاتنا، ومحاميّ الأمريكي أخبرني أنه لو لم يكن متأكدًا من عدالة قضيتنا لما قبل الترافع عني، خلاصة الأمر أن تسليمنا تم لأغراض سياسية وذهبت ست سنوات من عمرنا هباء في غوانتانامو*. عمر الحاج يعكف الآن على إصدار كتاب حول تجربته في غوانتنامو وحيثياتها.
لكن ما هي خلفية ما جرى مع عمر الحاج ورفاقه؟
في 14 ديسمبر 1995 وقّعت الأحرف الأولى من اتفاقية دايتون التي أنهت الحرب في البوسنة والهرسك، كان من شروط اتفاقية دايتون أن على جميع المقاتلين الأجانب مغادرة البوسنة بحلول عام 1996، وهذا ما حصل، باستثناء أن بعض العرب فضلوا الاستقرار في البوسنة لظروفهم الشخصية، حيث كانوا متزوجين من سيدات بوسنيات، وهناك فئة قليلة كانت ستواجه أحكامًا بالسجن في بلدانها بسبب ادعاءات الإرهاب، كالمصريين ومواطني دول المغرب العربي، وطالب علي عزت بيغوفتش تلك الدول بتقديم الأدلة ضد المطلوبين حتى يسمح بتسليمهم، ولما لم يكن لديهم أدلة، منحهم الرئيس السابق بيغوفتش حرية البقاء حيث حصلوا على الجنسية البوسنية لمشاركتهم في القتال.
تغيرت الأحوال عليهم بعد خمس سنوات، ففي عام 2000 فاز في الانتخابات زلاتكو لاغومجيا ممثل الحزب الاشتراكي والمقرب من السياسة الأمريكية، حكومته كثفت من ملاحقتها ومراقبتها للعرب الموجودين في البوسنة سواء أكانوا من المجاهدين السابقين أو من العاملين في هيئات الإغاثة التي كانت متواجدة بكثرة آنذاك، وتعرضت الحكومة البوسنية للابتزاز عن طريق قطع برنامج «التجهيز والتدريب» الذي كان معونة مقدمة من الحكومة الأمريكية وتعرضت كذلك لضغوط من دول أوروبية مثل إيطاليا وفرنسا، وقدّم حلف شمال الأطلسي أسماء 741 من العرب الحاصلين على الجنسية البوسنية وطلب من القضاء البوسني سحب الجنسية من كل من يتبين أنه كان مقاتلاً أثناء الحرب، ثم كانت تفجيرات نيويورك وواشنطن ومن ثم مدريد ولندن والحرب على العراق منعرجًا خطيرًا في حياة من تبقى من المقاتلين العرب في البوسنة وغيرهم من العرب الذين لم تكن لهم علاقة بالأعمال القتالية، حيث أصبحت تهم الإرهاب تحاصرهم من كل جانب. فتم إغلاق عشرات المؤسسات الخيرية بتهمة دعم الإرهاب بدون تقديم أي أدلة، وهو ما يفسره البعض بالرغبة في إخراج العرب والمقاتلين السابقين منهم بالخصوص من البوسنة بكل الوسائل، كما تم نقل ست جزائريين (عمر الحاج من بينهم) إلى غوانتانامو بعد 11 سبتمبر بتهمة تهديد السفارتين الأميركية والبريطانية في سراييفو، رغم تبرئة القضاء البوسني لهم وحكمه بإطلاق سراحهم.[8]
بصورة ما، كان هناك ربط بين المجاهدين في البوسنة والقاعدة، فقد كانت أمريكا تخشى من فرار بعض أفراد القاعدة من أفغانستان إلى البوسنة، وكذلك حامت الشكوك حول ارتباط تواجد الرأس المدبر لهجمات 11 سبتمبر خالد الشيخ واثنين من المنفّذين خالد المحضار ونواف الحزمي في البوسنة أيام الحرب وبعدها باحتمال تشكيل خلايا للقاعدة فيها، وفي بحثه المعنون بـ «رأي مختص حول الجهاد في البوسنة» نفى داريل لي وجود أدلة حقيقية على صلات بين المجاهدين في البوسنة وتنظيم القاعدة باستثناء بعض الحالات الفرديّة التي انضمت للقاعدة لاحقًا بعد رجوعها من البوسنة.[9]
حجم الدعاية السلبية كان هائلاً، مع أن قائد كتيبة المجاهدين سابقًا في البوسنة عبد القادر المختاري المكنى بـ أبو المعالي نفى أي علاقة للمقاتلين العرب مع تنظيم القاعدة، في اقتباس من حوار له نشر في البوسنة يقول: «الكتيبة لم يكن لها أي علاقة بتنظيم القاعدة، وجميع المحللين الجادين يعرفون الفرق الشاسع بين سياستنا وعملنا العسكري، وما تفعله القاعدة، نحن نختلف عنهم في التفكير والعمل، وأنا آسف لما يحدث في العالم الإسلامي بعد الذي قامت به القاعدة».[10]
اتهام المجاهدين بجرائم الحرب
في الثالث من أغسطس عام 2001، نشر موقع بي بي سي العربي هذا الخبر: غادر ثلاثة من قادة قوات جيش مسلمي البوسنة العاصمة البوسنية سراييفو متوجهين إلى لاهاي للمثول أمام محكمة جرائم الحرب الدولية، وقد ألقي القبض عليهم بناء على طلب المحكمة. وكانت المحكمة الدولية لجرائم الحرب قد كشفت عن تفاصيل التهم المنسوبة للضباط المسلمين الثلاثة، إذ اتهمتهم بارتكاب انتهاكات خطيرة لمعاهدة جنيف في وسط البوسنة عام ثلاثة وتسعين، وذكرت عريضة الاتهامات الموجهة لهم أن أخطر الجرائم المنسوبة لهم ارتكبت على يد عناصر المجاهدين الأجانب الذين كانوا يقاتلون تحت قيادتهم.
وبعد نشر هذا الخبر، وجهت نفس الاتهامات أيضًا لغيرهم من ضباط رفيعي المستوى في الجيش البوسني، ولكن لم تثبت الإدانة بهذه التهمة إلا لواحد منهم هو قائد الأركان العامة للجيش راسم ديليتش، وفي أثناء المحاكمة نجد هذه الشهادة من أحد أفراد جيش صرب البوسنة الذي كان في الأسر لدى كتيبة المجاهدين، ويروي كيف قام جنود الكتيبة بقطع رؤوس ثلاثة من أسرى جيش صرب البوسنة «في إحدى المرات، سمعت أحدًا يصرخ «الله أكبر»، وأتى مجاهدون من إثيوبيا، حاملين رأسًا مقطوعًا. كان الدم يقطر علينا، على ساقينا». وقال إنه شاهد رأسًا آخر مقطوعًا، واعترف بأن كليهما ينتمي إلى أعضاء وحدته.
استأنف ديليتش الحكم الصادر ضده، ولكن عاجله الأجل وتوفي في السجن.[11]
لا يستبعد قائد اللواء الرّابع في الجيش البوسنيّ ناظم خليلوفتش المشهور بلقب «مدرّس» أن يكون للاستخبارات الكرواتية أو الغربية ضلع في حدوث مثل جرائم الحرب تلك المنسوبة للـ «مجاهدين»، فهناك ظروف مريبة تحيط بالحوادث تلك، وكيفية دخول الأفراد المتهمين بارتكاب تلك الجرائم إلى البوسنة، وكيفية ظهور فيديوهات وصور بشكل فجائي توثق هذه الأعمال، معتبرًا أن الهدف من هذا كان تشويه صورة المقاومة البوسنية وإظهارها بصورة مساوية للصرب وتشويه صورة علي عزت بيغوفتش شخصيًا كرمز لها.**
وكذلك اتُهم بعض المجاهدين بارتكاب بعض الجرائم مثل تفجير سيارة في مدينة موستار البوسنية سنة 1997، إضافة لقتل 3 كروات في ترافنيك وسط البوسنة، ويقضي عراقي حكمًا بالسجن لمدة خمس سنوات بعد اتهامه بالضلوع في الجريمة وارتكاب جرائم حرب وهو ما يصر على نفيه، وهو بذلك أول عربي يحاكم بتهمة ارتكاب جرائم حرب في البوسنة.
في هذا السياق، رد باكير عزت بيغوفيتش العضو في رئاسة البوسنة والهرسك على تعليق ميروسلاف تودجمان في زغرب غلوب الذي اعتبر أسباب إرهاب اليوم في أوروبا وجود المجاهدين في البوسنة والهرسك خلال التسعينيات بقوله: «إن جرائم المحاربين الإسلاميين المجاهدين الذين حاربوا في جانب البوشناق خلال الحرب في البوسنة والهرسك كانت فردية، على عكس العمل الإجرامي المشترك الذي كان يقوده حرفيًا أول رئيس كرواتي فرانيو تودجمان».
كيف نظر الشعب البوسني للمجاهدين
من الصعب استقراء النظرة العامة لدى الشعب البوسني تجاه المجاهدين، فمن ناحية هناك فرق بين نظرة السكان في المناطق التي كانوا متواجدين بها، وسكان المناطق التي لم يتواجدوا بها.
تتحدث ميرسادا من مدينة زينتسا عن كتيبة المجاهدين في مدينتها «كانوا أبطالاً في نظرنا، قدّموا المساعدات العينية لكثير من أهل مدينتي وهذا كان له أثرٌ كبير، في الحقيقة أغلبهم كان لطيفًا مع الشعب البوسني، ولكن بعضهم كان يقوم بسلوكيات عدوانية إذا شاهد ما لا يتفق مع الشريعة الإسلامية مثل تقبيل اثنين بعضهما في الأماكن العامة (وهذا أمر عادي الحدوث في مدن البوسنة المختلفة) فكانوا يضربونهما بالعصا»***، أما نرمينة من مدينة تيشن فتقول: «لم يحاولوا أن يضغطوا على السكان بما يتعلق بتطبيق الشعائر الدينية، لكن وجودهم بحد ذاته وصورتهم البطولية كمجاهدين جاءوا لمساعدتنا جعلت لهم أثرًا واضحًا في منطقتي، فقد زاد عدد المصلين في المسجد، وارتفعت نسبة المحجبات».****
وهناك أيضًا فرق بين نظرة المتدينين الحريصين على الشعائر الدينية وغيرهم من الذين يعتنقون الإسلام بالاسم، ولديهم نفور من الإسلام «الوهابي»، فالوسط العام يميل للجانب التقليدي الثقافي المتأثر بقوة بالطابع التركي وجزئيًا بالحقبة الشيوعية اليوغسلافية وكلاهما لا يرحبان بالوجود العربي.
يصف خليلوفتش (مدرس) المجاهدين العرب الذين حاربوا ضمن صفوف لوائه، وكان عددهم أربعة عشر باللين والتعامل الحسن، يقول: «لم يحاولوا التأثير على المقاتلين البوسنيين الآخرين عن طريق نشر أفكارهم الدينية، كانوا محاربين جيدين، ولم ألحظ منهم أي سلوك متطرف».
بعد حملة الدولة البوسنية ضد المجاهدين السابقين، لمس تغيرًا في نبرة خطاب وسائل الإعلام التابعة للمسلمين في البوسنة وانعكست على نظرة الشعب البوسني لهم، لكن بالمقابل كان هناك تفاعل شعبي واضح مع قضية ترحيل الجزائريين الستة إلى غوانتانامو، فبرغم الثلج الذي غطى المدينة والطرقات اعتصم مئات الشباب أمام السجن الذي كان الستة يتواجدون به لمنع نقلهم، وكانت هناك مطالبات واعتراضات واسعة في وسائل الإعلام ضد هذا التصرف من الحكومة البوسنية. وأجاب عمر الحاج على تساؤل عن كيفية تعامل البوسنيين معه ومع أسرته أثناء وبعد وجوده في غوانتانامو “كانت ابنتي أسماء مصابة بمشكلة في القلب، استدعت إجراء عملية لها في الخارج، وكنت حينها في غوانتانامو، فجمع أفراد من الشعب البوسني أربعين ألف يورو لنفقات عمليتها، كنت متأثرًا بحق، وعندما توفيت بعد ذلك خرج الكثيرون في جنازتها.
الربط بين المجاهدين وظهور التطرف في البوسنة
عاد ذكر المجاهدين إلى الواجهة بعد عقد من الزمان، وتحديدًا حين التحق بداعش في سوريا والعراق ما بين 220 – 330 شخص بوسني، وهو ثاني أكبر عدد من المقاتلين الأجانب للفرد الواحد بالنسبة للبلدان الأوروبية بعد بلجيكا، تسابقت وسائل الإعلام الغربية والمحلية إلى إنتاج التقارير والتحليلات لتفسير ظهور التطرف في البوسنة، وبعضها بالغ في تقديراته ليصل إلى حد ادعاء وجود مراكز تدريب عسكري لداعش في مناطق نائية بالبوسنة، وكان ملفتًا أنها جميعها ذكرت وجود المقاتلين العرب في بداية ومنتصف التسعينات في سياق ذكر أسباب التطرف دون دليل حقيقي يؤيد هذا الزعم.
في معظم التقارير، ظهرت صور لأعلام «الدولة الإسلامية في العراق والشام» معلقة على بعض البيوت، ومرسومة على جدران ساحة في قرية نائية غرب البوسنة تدعى «غورنيا ماوتشا»، وتم اعتبار هذه القرية التي يسكنها غالبية من المعتنقين لأفكار وهابية على حد وصف منتجي تلك التقارير، من حيث الالتزام بغطاء الوجه للسيدات واللحى الطويلة للرجال وعدم وجود خمر أو اختلاط و التمسّك بنمط الحياة الحريص على الاابتعاد عن تأثيرات المجتمع الغربية، وهم في أغلبيتهم من اللاجئين البوسنيين إلى ألمانيا والنمسا، والذين عادوا إلى البوسنة أو بقوا في أرض اللجوء ويزورون البوسنة في العطلات، وليس هناك أي عربي مقيم ولا توجد صلات مثبتة بين الملتحقين بداعش و”المجاهدين“، خصوصًا أن معظم الملتحقين في سن الشباب ولم تتح لهم فرصة المشاركة في القتال أثناء حرب البوسنة، لكن مظاهر التدين البادية في اللحية الطويلة والخمار جرت نسبتها إلى تأثير «المجاهدين العرب» الذين اعتبروا أول من أدخل هذه المظاهر إلى البوسنة، وبالتالي صارت دليلاً على دورهم في إيجاد بذرة التطرف، في تبسيط مخلّ لتفسير وجود هذا العدد من الملتحقين بداعش من البوسنيين، وإغفال الأسباب الحقيقية التي لا يتسع المجال لذكرها.[12]
ويعلّق خليلوفتش (مدرّس) على هذا: «أغلب المجاهدين العرب أمضوا بالكاد أربع سنوات هي مدة الحرب، ليست بالفترة الكافية لينشروا أفكارًا وهابية إن كانوا فعلاً يبغون ذلك».
خاتمة
تجربة المجاهدين في البوسنة ثرية، لم تخضع بعد لدراسة موضوعية بعيدة عن الآراء المسبقة والصور النمطية، وتأثيرات الحرب على الإرهاب، ولعبت هذه التجربة دورًا في الوصول إلى الوضع الحالي لدولة البوسنة والهرسك، أثارت وما زالت تثير الجدل داخل الدولة، الحقيقة الثابتة هنا أن الذين ساهموا فيها لم يرووا قصتهم إلا في حالات نادرة، لموت كثير منهم ولخوف من بقي من الملاحقة والاتهام، ولذا تبقى حلقات فيها ناقصة إلى أجل غير مسمى.
* في مقابلة خاصة مع كاتبة التقرير
** من مقابلة خاصة مع كاتبة التقرير
*** من مقابلة خاصة مع كاتبة التقرير
**** من مقابلة خاصة مع كاتبة التقرير
(المصدر: موقع “إضاءات”)