د. إبراهيم بن محمد الحقيل
الحمد لله الخلاق العليم؛ مقدر القدر، مدبر الأمر، مبتلي العباد، ملك يوم الحساب، نحمده في السراء والضراء، والعافية والبلاء؛ فالخير إليه، والشر ليس إليه، إنّا به وإليه، تبارك وتعالى، نستغفره ونتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ رب كريم، وإله عظيم، خلق المخلوقات فدبرها، وشرع الشرائع فأحكمها، وجعل رمضان موسما للمؤمنين، وزمن ربح للعاملين، فمن عمل فيه صالحا ربح، ومن ضيعه خسر، وكل عامل يجد ما عمل، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله؛ بلغ دينا عم الأرجاء، وبلغ ما بلغ الليل والنهار، فما من بيت مدر ولا وبر إلا دخله، ولا من بلدة إلا وفيها من يذكر الله تعالى ويصلي ويصوم، فكان دينه أكثر دين انتشارا، وكان أكثر الأنبياء يوم القيامة تابعا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فأوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى، والعمل بما يرضيه، ومجانبة ما يسخطه؛ فإن الدنيا غرتنا، وإن الموت يطلبنا، وإن رمضان على أبوابنا؛ فلنعد له العدة، ولنتأهب فيه للعبادة، بالإكثار من نوافل الصلاة والصيام وقراءة القرآن، فلا يهلُّ هلاله إلا وقد اعتدنا على كثير العمل، فندرك من سبقنا، ونسبق من تباطأ عنّا {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183].
أيها الناس: يقترب رمضان من الناس وهم على أحوال شتى، وتحيط بهم أقدار متنوعة؛ ففيهم الآمن في سربه، المعافى في بدنه، المرفه في عيشه. وفيهم الخائف الذي يقضي رمضان على صوت الرصاص والقنابل. وفيهم المريض الذي يمنعه مرضه من الصيام، وينغص عليه الفرح برمضان. وفيهم الفقير المعدم الذي عامه كله جوع، ولا يجد فرقا في رمضان عن غيره. وفيهم الأسير الذي قد يؤذى على صيامه ويمنع منه. والإكراه على الإفطار في رمضان فعله أعداء الإسلام قديما وحديثا، ولا يزالون يفعلونه بالأسرى المسلمين، وبالجاليات المسلمة المضطهدة بسبب دينها، ومن أشهر التشريعات التي أوذي فيها المسلمون في رمضان، وعذبوا على الصيام، تشريعات الصليبيين الكاثوليك في الأندلس إبان سقوط قرطبة في أيديهم آخر معاقل الإسلام في الأندلس، وسموهم (الموريسكيون) أي: المسلمون الأصاغر. منعوهم فيها من الصيام، وعاقبوهم عليه أشد العقاب.
وهاكم شيئا من أخبار المسلمين الأندلسيين آنذاك، وكيف فُعل بهم في رمضان لمنعهم من الصيام، وكيف أنهم أصروا على الصيام وحافظوا عليه سرًّا عقودا طويلة رغم المخاطر التي تحيط بهم، ومنهم جماعات حوكموا وأعدموا بسبب تشبثهم بفريضة الصيام في رمضان. وهذه الأخبار منقولة من وثائق محفوظة في المكتبات الأسبانية. وما ضاع من آلام الأندلسيين أكثر مما حفظ، وما لم يدون من أساسه أكثر مما دون؛ فإن محاكم التفتيش ودواوين التحقيق الأوربية كانت تخفي كثيرا من جرائمها ضد الأندلسيين، وهي التي كانت تتولى عملية تنصير المسلمين بالقوة، وتمنعهم من شعائر الإسلام، وتكرههم على شعائر الكفر، وتعاقب على أي شعيرة إسلامية بالقتل والحرق والتعذيب.
وهذا المنقول عن الأندلسيين الثابتين على دينهم وإن كان نقلا قليلا حُفظ في أوراق التاريخ فإنه صورة زاهية من صور الثبات على الحق مهما كلف الأمر، ولو طال زمن التعذيب والذل، حتى إن من هؤلاء الأندلسيين من ولدوا في الذل والعذاب، وظلوا مستخفين بدينهم إلى أن هرموا وماتوا عليه، يتناقلون شعائر دينهم سرًّا أبًا عن جدٍّ.
لقد كان الأندلسيون المعذبون يتواصون فيما بينهم بالصيام، وكانوا يضبطون الشهور القمرية لأجل صومهم، وكانوا يبتهجون برمضان. والبلدة التي يُرى فيها الهلال يخبر أهلها غيرهم به مما أدى إلى كشف عدد غير قليل منهم، فزج بهم في السجون وحوكموا على ذلك في محاكم التفتيش كما ذكرت ذلك باحثة إسبانية نصرانية اطلعت على شيء من تراثهم، وقالت: «كان صيام شهر رمضان بلا أدنى شك هو العبادة الإسلامية الأكثر ارتباطا بحياة الموريسكيين وحياة المسلمين عامة، ونستطيع أن نؤكد أن هذه العبادة هي آخر ما نُقض من مبادئ عرى الإسلام في إسبانيا».
وفي وثائق محاكم التفتيش أن أهل بلدة (ديثا) خرجوا لترائي الهلال، فوقع خلاف بينهم حول دخول الشهر علت فيه أصواتهم، فاكتشف أمرهم وحوكموا على ترائيهم الهلال، وعزمهم على الصيام. وكانت هذه الحادثة بعد عملية التنصير القسري بثمانين سنة، مما يدل على محافظتهم على الصيام، وتناقله جيلا بعد جيل رغم الإرهاب الكنسي الذي يحكمهم بالحديد والنار.
وذكر عدد من المؤرخين الأسبان أن الأندلسيين المضطهدين في دينهم كانوا يتبعون أساليب عدة لإخفاء صومهم في رمضان عن محاكم التفتيش وجواسيسها المنتشرين بينهم، فكانوا يخفون عنهم معرفتهم بالأشهر القمرية، وعلمهم بدخول رمضان، وكانوا لا يخالطون النصارى وقت الأكل حتى لا يكتشف أحد صيامهم، ويصنعون إفطارهم بسرية تامة، ويفطرون في بيوتهم متخفين عن أعين الكنائس ودواوين التحقيق. وإذا ما شك أحد في صيامهم تظاهروا بالأكل والفطر أمامه، ومن دعي إلى طعام في النهار تعلل بالمرض أو فقدان الشهية أو أنه سبقهم بالأكل، ومنهم من يستغل رمضان للعمل في الحقول أو في النقل أو في بلدات أخرى حتى يتسنى لهم الصيام بعيدا عن أعين من يرصدونهم.
وذكر أحد الباحثين الأسبان: أنه بعد قرن وعشر سنوات على سقوط غرناطة حافظ الأندلسيون على صيام رمضان، وأن أهل مرسية وجيّان ومن بقي في غرناطة يصومون رمضان.
وفي وثائق محاكم التفتيش سجلت ثلاث مئة قضية صوم في قريتين قرب بلنسية، واتهمت أربعون أسرة بصوم رمضان، وحوكمت على ذلك، وكانت هذه الحوادث بعد التنصير القسري بمائة سنة.
وفي وثائق محاكمات الأندلسيين على الصوم حوكم أشخاص وأسر وقرى كاملة على الصوم أو شبهة الصوم، فعوقبوا بالسجن أو بالقتل أو بالحرق، أو بمصادرة الأملاك، أو بالعبودية والسخرة أو بالتهجير. ليس لهم ذنب إلا أنهم صاموا رمضان، فاكتشفت الكنيسة أمرهم.
ويأسى أحد الأساقفة الكاثوليك على شدة تمسك الأندلسيين بفريضة الصيام رغم ما يلقونه من شدة العذاب، فكتب بعد سقوط غرناطة بحوالي خمس وتسعين سنة قائلا: «إنه من المشهور أنهم لم يصوموا أي صيام مسيحي, بل يصومون صيام المسلمين, خاصة ما يُسمى برمضان…ولكي يخفي الموريسكيون ذلك فإنهم يذهبون إلى مزارعهم, ويقضون وقتهم هناك إلى أن يحل الظلام, فيعدون عشاءهم وطعامهم في سرية, ويؤدون بقية شعائرهم كالصلاة والوضوء, وهي شعائر يأمر بها محمد في القرآن». انتهـى كلامه، ورأى بحمد الله تعالى ما يسوءه من تمسك الأندلسيين بدينهم.
نسأل الله تعالى أن يرحم الثابتين على دينهم، وأن يعظم أجرهم على ما لقوا في سبيله، وأن يعافينا من البلاء، وأن يثبتنا على الحق إلى الممات، إنه سميع مجيب.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم….
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله تعالى وأطيعوه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
أيها الناس: يجب أن نلهج لله تعالى بالشكر والثناء، ونحمده سبحانه على ما عافانا وقد ابتُلي غيرنا. ومن أدرك منا رمضان فيجب أن يضاعف الشكر على نعمة رمضان، وعلى نعمة القدرة على الصيام في أمن وطمأنينة ورخاء واستقرار؛ فإن في الشكر استدامة النعم، وإن المحرومين من خير رمضان وبره كثير. والممنوعون من أداء حق الله تعالى في رمضان أيضا كثير، منهم المريض ومنهم المكره.
قال محمد بن داود وهو أحد الأندلسيين المعذبين في دينهم: «كل يوم نسام سوء العذاب، ولا حيلة لنا سوى المصانعة حتى ينقذنا الموت مما هو شر وأدهى، وقد حكّموا فينا اليهود الذين لا عهد لهم… ونرغم على مزاولة الشعائر النصرانية وعبادة الصور، ويظلمنا القضاة، وتهشم أوصال فرائس الأجساد، ثم تحمل إلى الميدان لتحرق ويتلذذون بمشاهدتها جماعات جماعات».
هذا قديما، وأما حديثا فالبوذيون يمنعون مسلمي مانيمار وتركستان من الصيام، ويؤذونهم عليه أشد الأذى، كما أن الأمة الباطنية تسوم أهل السنة سوء العذاب، وتحول بين المسلمين وبين شعائر دينهم، كما تتسرب أخبار ذلك من السجون الصفوية والنصيرية.
وإن المؤمن وهو يقرأ شيئا من الوثائق الأندلسية العجيبة؛ ليفخر بهذا الدين العظيم الذي ثبت الله تعالى عليه جموعا من الأندلسيين رغم شدة المحنة والعذاب، حتى لقوا الله تعالى غير مبدلين ولا مغيرين. كما يفخر بدينه وهو يرى ثبات المستضعفين في هذا العصر على دينهم، ويرى عزمهم على صوم رمضان وهم تحت رحمة البوذيين والصفويين؛ فالحمد لله الذي هدانا للإسلام.
وإن المؤمن وهو يسمع هذه الأخبار ليستحي من الله تعالى إذ قصر في شكره سبحانه على ما أنعم عليه من نعم عظيمة يتمكن بها من صيام رمضان وقيامه بأمن وطمأنينة.
ومن شكر الله تعالى أن نعد لرمضان عدته، ونأخذ له أهبته، ونكون من المعظمين لهذا الشهر الكريم باجتناب محرمات الأسماع والأبصار والألسن، وبالإكثار من الطاعات والإحسان.
نسأل الله تعالى أن يبلغنا رمضان، وأن يعيننا على صيامه وقيامه وأداء حق الله تعالى فيه، وأن يجنبنا ما يسخطه، وأن يكشف الغمة عن الأمة، وينصر المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، إنه سميع مجيب.
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 – 182].
(المصدر: مجلة البيان)