المعتزلة الجدد.. إحياء لمقولات قديمة وتيار يزداد نموا
بقلم بسام ناصر
عُرف المعتزلة في التاريخ الإسلامي بوصفهم تيارا دينيا عقلانيا، اعتمد على العقل في إثبات العقائد الدينية، والدفاع عنها، ظهر في بداية القرن الثاني الهجري، وكانت له مجادلات وصولات مع الملل والديانات الأخرى، ومع الفلاسفة الإسلاميين، ومع المذاهب العقائدية الإسلامية الأخرى كالأشاعرة والماتريدية والحنابلة.
يرى المعتزلة أن العقل هو أول الأدلة، “لأن به يُميز بين الحَسن والقبيح، ولأنَّ به يُعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع” كما يقرر ذلك القاضي عبد الجبار، أحد كبار منظريهم، مناقشا من يستنكر هذا الترتيب ويتعجب منه بقوله “وربما تعجب من هذا الترتيب بعضهم، فيظن أن الأدلة هي الكتاب والسنة والإجماع فقط، أو يظن أن العقل إذا كان يدل على أمور فهو مؤخر، وليس الأمر كذلك”.
ويعلل عبد الجبار في كتابه (فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ومباينتهم لسائر المخالفين) تقديم المعتزلة للعقل “لأن الله تعالى لم يخاطب إلا أهل العقل، ولأن به يُعرف أن الكتاب حجة، وكذلك السنة والإجماع، فهو الأصل في هذا الباب، وإن كنا نقول: إن الكتاب هو الأصل، من حيث إن فيه التنبيه على ما في العقول، كما أن فيه الأدلة على الأحكام، وبالعقل يُميز بين أحكام الأفعال، وبين أحكام الفاعلين، ولولاه ما عرفنا من يؤاخذ بما يتركه أو يأتيه، من يُحمد ومن يُذم، ولذلك تزول المؤاخذة عمن لا عقل له..”.
كان للمعتزلة ظهور كبير ولافت إبان خلافة المأمون، بعد تبنيه الاعتزال وإظهاره علنيا والدعوة إليه، وفي عام 218 هـ أعلن عن عقيدته في خلق القرآن، وقرر حمل الناس على ذلك، وامتحن الفقهاء والمحدثين بتحريض من أحمد بن أبي دؤاد، أحد رؤوس المعتزلة في زمانه، وهي الفتنة التي امتحن فيها الإمام أحمد بن حنبل.. وما زال المعتزلة في قوة ظهورهم وحضورهم حتى تولى المتوكل الخلافة سنة 232هـ، الذي منع الخوض في علم الكلام، وأمر بالكف عن القول بخلق القرآن، وأن لا يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير..”.
ووفقا لباحثين فقد تراجع حضور المعتزلة في القرون التالية، وتقلصت دوائر انتشار مذهبهم، إلى الحد الذي يوصف بأنه كاد أن يتلاشى، لكنه عاد للظهور في دوائر ضيقة في العصر الحديث، وتأثر به عدد من مفكري المدرسة العقلانية كرفاعة الطهطاوي، وجمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، ومحمد رشيد رضا، وأحمد أمين وغيرهم، بإحياء مقولات المعتزلة في تقديمهم للعقل على النقل، وفي مواجهة المقررات العقدية والمنهجية والفقهية التي بات يُنظر إليها على نطاق واسع أنها تورث الجمود والتقليد والنزوع إلى الماضوية بعيدا عن تحديات العصر وهمومه وقضاياه.
بعد إيراده لما جرى بين المعتزلة من جهة والفقهاء والمحدثين من جهة أخرى في عصر المأمون والمعتصم والمتوكل، تساءل الكاتب المصري أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام): “والآن يحق لنا أن نتساءل: هل كان في مصلحة المسلمين موت الاعتزال وانتصار المحدثين؟” ليجيب بقوله “في رأيي أن ذلك لم يكن في مصلحتهم، وأنه كان خيرا للمسلمين ألا يدخل المعتزلة في أحضان الدولة، وأن يعيشوا كما عاشوا في عهد المنصور، وأول عهد المأمون، فلو ساروا على هذا النهج، وسار المحدثون على النهج الذي وضعوه لأنفسهم، لانتفع المسلمون من ذلك أكبر نفع، ولتغير تاريخ الإسلام”.
يتابع أمين: “فحزب المعتزلة يمثل حزب الأحرار، وحزب المحدثين يمثل حزب المحافظين، ومن مصلحة الأمة أن يكون الحزبان” لافتا إلى ما يمكن أن يقدمه المعتزلة للأمة وفق رؤيته أنهم يدفعون “الناس إلى إعمال العقل، وإطلاق الفكر ويتقدمون الناس بمشاعلهم وأضوائهم ينيرون السبيل أمامهم، ويحافظ المحدثون على العادات والتقاليد الموروثة، ويتعلقون بأذيال المعتزلة يمنعونهم أن يندفعوا في السير حتى لا ينبّتوا، فتسير الأمة سيرا هينا، ولكن إلى الأمام دائما، وإخلاء السبيل أمام طائفة من الطائفتين وفقدان الأخرى صار ضررا بليغا”.
لكن ما مدى انتشار فكر المعتزلة وحضوره في الأوساط الدينية في العصر الحديث؟ وهل له تأثير ملحوظ ضمن خريطة الاتجاهات الدينية الإسلامية المعاصرة؟
الباحث في الفكر الإسلامي، والمتبني لفكر المعتزلة والداعي إليه، معتز شطا يجيب بقوله: “نعم، هناك تواجد وحضور اعتزالي في واقعنا المعاصر على مستويين اثنين، أولهما: تبني عدد من المسلمين المنتمين إلى مذاهب سنية أو شيعية لفكر المعتزلة العقدي والسياسي، وهو المستوى الأحدث ظهورا، وبدأ مع مؤسس المعتزلة المعاصرة الشيخ أمين نايف حسين ذياب، وهو أردني من أصول فلسطينية، وتوفي سنة 2006م”.
وأضاف: “أما المستوى الثاني، ولا يتنبه له كثير من الناس أن الشيعة الزيدية الموجودين باليمن وغيره، والذين يُقدر عددهم بالملايين، هم معتزلة في الجوانب العقدية المتعلقة بالإلهيات، التوحيد والعدل، ويخالفون فقط في مسائل وأبواب الإمامة، ومن ثم فهم مجموعة جزئية من مجموعة المعتزلة، بلغة الرياضيات، أما المعتزلة المعاصرة، وحديثي ها هنا يتعلق بالمستوى الأول فقط، فهم أفراد منتشرون في العالم، ويتزايد عددهم بمرور الزمن، لكن ليس لهم حتى اللحظة وحسب علمي أي مؤسسات علمية أو دعوية، باستثناء مجهوداتهم الفردية، لا سيما في مجال الدعوة على الشبكة الإلكترونية من خلال مواقع، ومدونات، وحسابات ومجموعات على مواقع التواصل الاجتماعي”.
معتز شطا.. باحث في الفكر الإسلامي
وردا على سؤال لـ“عربي21” حول أهم وأبرز المقولات العقدية التي ميزتهم عن غيرهم من الاتجاهات العقائدية الأخرى كالأشاعرة والماتريدية والحنابلة قال شطا: “المعتزلة منهج فكري إسلامي نشأ في بداية العصر الأموي على يد واصل بن عطاء (80 ـ 131 هـ)، وتتلمذ على يديه عمرو بن عبيد.. وللمعتزلة مدرستان: مدرسة البصرة، ومن شيوخها: واصل بن عطاء، وأبو هذيل العلاف، وأبو علي الجبائي.. ومدرسة بغداد ومن شيوخها، ابن المعتمر، الجعفران، والإسكافي، والبلخي وغيرهم”.
أما حجج الله على العباد عند المعتزلة، فهي طبقا لشطا “العقل والكتاب والرسول والإجماع” وتتمثل أصولهم الاعتقادية بالأصول الخمسة وهي “التوحيد والعدل والوعد والوعيد، وثبوت المنزلة بين المنزلتين، ووجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. وهم يستدلون لذلك كله بآيات من القرآن الكريم” مشيرا إلى أن “نهاية المعتزلة التاريخية كانت بإصدار الوثيقة القادرية للسلطان العباسي القادر بالله سنة 408 هـ التي أعلن فيها عن تبنيه لعقائد أهل السنة والجماعة، ورفضه لمقولات المعتزلة، أما المعتزلة المعاصرة فقد أسسها أمين نايف ذياب (أبو ياسر) الذي تحول من حزب التحرير إلى المعتزلة سنة 1982م”.
وعن أهم التحديات التي تواجه المعتزلة المعاصرة، ذكر شطا عدة تحديات، منها القمع الأمني، والإرث التاريخي (محنة خلق القرآن)، والقرصنة العلمانية والتنويرية والتغريبية واليسارية على سفينة المعتزلة، بمعنى تسويق أفكارهم تحت لافتة المعتزلة” مشددا على أن هدف المعتزلة المعاصرة يتمثل في “إعادة بناء العقل الفردي والجمعي للأمة على أساس فكر ومنهج المعتزلة التاريخية في (الأدلة، الأصول، والعمل).
من جهته رأى الكاتب والباحث التونسي في الفكر الإسلامي، رضا خالد أن “المعتزلة الجدد لا يتميزون من الناحية الكلامية عن المعتزلة التاريخية، بل يطمحون إلى إحياء الفكر الاعتزالي ونشره بين المسلمين، ويركزون على الجانب العقائدي، وعلى المسائل الكلامية الموروثة مكررين النزاعات القديمة مع الفرق المخالفة، فيركزون في جدلهم مع الحنابلة على مسألة تنزيه الذات الإلهية، وفي جدلهم مع الأشاعرة على قضية الكسب وخلق أفعال العباد وعلاقتها بالقضاء والقدر، ويتمحور خلافهم مع الشيعة حول مسألة الإمامة هل هي بالنص أم بالاختيار”.
رضا خالد.. باحث تونسي في الفكر الإسلامي
وأردف: “ويتفرع عنها إشكال عصمة الأئمة وتأثير الفكر الاعتزالي في الوقت المعاصر أوسع وأبعد أثرا من تواجد وحضور فرقة المعتزلة الجدد، ذلك أنه منذ الشيخ محمد عبده إلى محمد عمارة مرورا بالشيخ الغزالي تجدد الاهتمام بمقولات المعتزلة، وتبنى عدد من كتاب ومفكري الحركات الإسلامية بهذا القدر أو ذاك أوجها منها، لذلك تجد كثيرا من أتباع الحركات وإن لم يكونوا معتزلة صراحة فهم متفاعلون مع أطروحات المعتزلة، ومنهم من يتبنى جوانب منها، ويبقى التنافر شديدا بين الحنابلة وبين كل من يتبنى ولو جزءا يسيرا من النظر العقلاني سواء كان أشعريا أو ماتريديا أو معتزليا” على حد قوله.
وبيَّن خالد في حديثه لـ“عربي21” أن أهم ما يميز المعتزلة عن غيرهم من الاتجاهات العقائدية الإسلامية الأخرى، تمسكهم بأصولهم الخمسة وفق رؤيتهم التفسيرية لها، وتشديدهم على تنزيه الذات الإلهية، وعلى حرية الإنسان في أفعاله، وهم ينفرون من كل ما يوحي بتشبيه الخالق بمخلوقاته، وفي هذه الجانب يلتقون مع كثير من العقلانيين المسلمين، ومع من يعرفون بالقرآنيين، إلا أنهم يختلفون مع الأخيرين في الموقف من السنة حيث يرد القرآنيون الحديث جملة وتفصيلا، ومن هؤلاء من ينكر تواتر السنة العملية وما يسمونه بالصلاة الحركية”.
ولفت في ختام حديثه إلى أن “مما يُعاب على المعتزلة الجدد تمسكهم بالمقولات القديمة، وإحياؤهم لصراعات كلامية عفا عليها الزمن، إضافة لانعدام رؤية جديدة، ومنهج مبتكر في مقاربة أصول الدين وأصول الفقه، كما يُعاب على عدد منهم التزمت المذهبي والتشدد مع الخصوم المخالفين لهم”.
المصدر: عربي21