«المصلحة الإنسانية» بالفقه الإسلامي في ضوء وباء «كورونا»
مدخل فقه «المصلحة الاجتماعية»:
«المصلحة الإنسانية» مبدأ راسخ في الشرع، وفي تكليفاته وأحكامه، يحدها إطار قيمي يجعل منه (المصلحة، الإصلاح، الاستصلاح) مدار التنزيل والنشاط بين الناس، وإن التصنيف الفقهي لأمور المعاد والمعاش كان إما للتعليم أو التوضيح المعرفي، ولا يمكنه أن يكون للفصل والتمايز والتفضيل والترجيح؛ وذلك لوحدانية المصدر الإلهي الذي خاطب الإنسان بطلب الهداية لهذه الأمور (المعاد، والمعاش) دائماً؛ (اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ) (الفاتحة: 6).
نقف في هذا المدخل على أربعة مبادئ رئيسة في شبكة مقاصد الشريعة تتعلق بمبدأ «المصلحة الإنسانية»، وهذه المبادئ هي:
1- إرادة اليسر: (يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (البقرة: 185).
2- رفع الحرج: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (الحج: 78).
3- إرادة التخفيف: (يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ) (النساء: 28).
4- وضع الإصر: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) (الأعراف: 157)، في مقابل الرحمة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 107).
هذه الأركان الأربعة التي خاطب الله فيها «الجماعة الإنسانية» بصورة الجمع «بكم»، «عنكم»، «عليهم»، «العالمين».. تمثل منطلقات للفهم الراشد لحركة الفقه الاجتهادي في المجتمع الإسلامي، من ناحية، ومن ناحية أخرى؛ تمثل مؤشراً أو معياراً للقياس عليه لما يتولّد من أحكام وتكليفات.
المباني المعرفية لمفهوم «المصلحة الإنسانية» في الفقه:
المصلحة: مفعلة من الصلاح، وهو كون الشيء على هيئة كاملة بحسب ما يراد ذلك الشيء له؛ أي على وجه الكمال الذي ترشد إليه، أما حدّها بحسب العرف فهي السبب المؤدي إلى الصلاح والنفع، وبحسب الشرع هي السبب المؤدي إلى مقصود الشارع عبادة أو عادة، ثم هي تقسم إلى ما يقصده الشارع لحقه كالعبادات، وما لا يقصده الشارع لحقه كالعادات(1)، فالمصلحة تقابل المفسدة، وترادف النفع في مقابل الضرر، وتسعى في بنيتها إلى اتقاء الضرر وتحصيل النفع.
واصطلاحاً: استنباط الحكم في واقعة لا نص فيها ولا إجماع، بناء على مصلحة «عامة» لا دليل على اعتبارها أو إلغائها، وعند الغزالي: المصلحة المحافظة على مقاصد الشرع الخمسة(2).
ترتبط «المصلحة» من ناحية بمقاصد الشرع، التي حددها علماء المقاصد بخمسة (الحياة، الدين، العقل، المال، النسل)، وكذلك بطبيعة الأولويات (الضروريات، الحاجيات، التحسينات)، حيث إن المصلحة ومقاصد الشرع وجهان لعملة واحدة؛ هي تحقيق هداية الإنسان في الدنيا والآخرة، وهذا ما جاءت عليه أحكام الشرع في طبيعتها ومقاصدها.
«إن الشريعة مبناها على تحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، ومن لم يوازن ما في الفعل والترك من المصلحة والمفسدة الشرعية فقد يدع واجبات ويفعل محرمات»(3)، وهذا من تمام الورع كما يذكر ابن تيمية.
وهو أيضاً قول الشاطبي: «.. فقد ثبت بالدليل الشرعي أن الشريعة إنما جيء بالأوامر فيها جلباً للمصالح، سواء كان ذلك في الفعل أو الترك، فلا سبب مشروعاً إلا وفيه مصلحة لأجلها شُرع، ولا سبب ممنوعاً إلا وفيه مفسدة لأجلها مُنع».
ويذكر العز بن عبدالسلام، في ذلك أيضاً، قوله: «ومن تتبع مقاصد الشرع في جلب المصالح ودرء المفاسد، حصّلَ له من مجموع ذلك اعتقاد أو عرفان بأن هذه المفسدة لا يجوز قربها، وإن لم يكن فيها إجماع أو نص ولا قياس خاص، فإن فهم نفس الشرع يوجب ذلك»(4).
أما إدراك المصالح والمفاسد فتكون عبر طريقين؛ الأول: الشرع، والثاني: العقل، فالأول يأتي بالاستنباط المباشر من الأحكام والتشريعات، والثاني يأتي عن طريق الاجتهاد الفكري والعلمي والتخصصي إعمالاً لمبدأ الشرع؛ (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) (النحل: 43).
ركائز «المصلحة الإنسانية» في تقرير الأحكام وتنزيلها:
إن الوعي الفقهي المتقدم بالمصلحة الإنسانية تولد عنه مجموعة من القواعد اللازمة التي قعَّدها العلماء في تقرير الأحكام وتنزيلها على الواقع المعيش، ومن أبرز تلك القواعد ما يلي:
1- تحقيق المناط: أي التعرف على مجال الحكم ومكانه ومستهدفه، وينقسم إلى مجالين:
الأول: خاص بالفرد، والثاني خاص بالجماعة، وفي المجالين فإن الوعي بالواقع ضرورة من ضرورات تنزيل الأحكام، فحيث تتحقق المصلحة يكون الحكم، وحيث تكون المفسدة ينتفي الحكم.
2- اعتبار المآلات: أي النظر المستقبلي في عواقب الأفعال –التي يتضمنها الحكم الشرعي- وما تؤول إليه، فإذا كان «المناط» يدرس الواقع الإنساني (الفردي والجماعي)، فإن «المآل» يدرس المستقبل لهما كذلك، فالعمل الفقهي عمل إستراتيجي تخطيطي للواقع الإنساني، يتضمن أهم وحدتين للزمن يعيش بينهما الإنسان؛ الحاضر، والمستقبل.
3- الوعي بالمتغيرات الزمانية والمكانية (أي المجتمعية): إن الحكم الفقهي بطبيعته يرتبط بواقع له ثلاثة عناصر؛ الزمان والمكان والإنسان، وهذه الثلاثة تمثل عناصر البناء الاجتماعي لأي مجتمع، وكذلك أي نشاط حضاري للإنسان، وقد وعى الفقه الإسلامي هذا البعد، في كثير من تنزيلاته، وقد صاغ ابن القيم تلك القاعدة تحت عنوان «تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأحوال والنيات والعوائد»(5).
ويضيف الريسوني: «.. فإذا ثبت أن الاعتبارات التي تغيرت (زمانياً ومكانياً)، وعليها ولأجلها وضع الحكم، فلا بد للفقيه أن يعيد النظر في ذلك الحكم الملائم للوضع الجديد وللحالة الجديدة، ذلك أن الحكم الذي وضعه الشرع، أو اجتهد فيه المجتهدون، لم يوضع للحالة الجديدة»(6).
4- التعلق بمقاصد الشريعة: يرتبط الحكم الفقهي كذلك بمقاصد الشريعة، ومدى تحققها، وهذه المقاصد تحقق مقاصد الشرع في الخلق، ومقاصد الشريعة التي اتفق العلماء عليها يمكن أن نحدد أهم مجالاتها: الفرد، الأسرة، الأمة، الإنسانية(7).
5- لا ضرر ولا ضرار: هذا المبدأ بطبيعته المعرفية يستهدف الإنسان والجماعة، ويسعى إلى تجنب الضرر لكليهما، وفي ذلك يقوم هذا المبدأ على عدة أمور؛ الأول: لا يجوز في الشرع الضرر ابتداء؛ أي لا يجوز أن يُضَر شخص في ماله أو نفسه، لأن الضرر ظلم، والظلم محرم في جميع الشرائع، والثاني: لا يجوز مقابلة الضرر بالضرر، وهذا معنى «لا ضرار»، والثالث: يُتحمل الضرر الخاص لدفع الضرر العام، والرابع: الضرر الأشد يزال بالضرر الأخف، والخامس: الضرورات تبيح المحظورات(8).
6- درء المفاسد أولى من جلب المصالح: القصد من الشرع كلية جلب المصلحة بمفهومها المتسع (الدنيوي، والأخروي) للإنسان، وهذا يتضمن في باطنه دفع المفسدة عنه، أما حين تتعارض المصلحة والمفسدة، فإن الأولى درء المفسدة عن جلب المصلحة، وهو ما عرف في الفقه بفقه «الموازنات».
خارطة المفاسد والمصالح في ظل وباء «كورونا»:
إن الفقه الإسلامي المعاصر أمامه فرصة واسعة لتفعيل الاجتهاد المصلحي والمقاصدي، في ظل متغير لم تشهده البشرية وهو وباء «كوفيد- 19» المعروف إعلامياً بـ»كورونا»، من خلال بناء خارطة المصالح والمفاسد، وتطوير آليات الكشف والاستكشاف من ناحية، وآليات التشغيل للمبادئ الفقهية من ناحية أخرى.
إن العقل الفقهي الإسلامي لا يمكنه أن يكون تابعاً لبعض الإجراءات السلبية التي تتخذ من جانب الإدارات الحكومية؛ مثل تبرير (الإفتاء بالجواز) غلق المساجد، وتعطيل الشعائر المسجدية، فهذه تدابير جزئية، بينما يعول على العقل الفقهي أن يكون أكثر تقدماً بالبحث في كليات «المفاسد»، باعتبار أن الوباء الحادث مفسدة، وفي الآثار القريبة والبعيدة لهذا الوباء، ومجالات التأثير، ثم يحدد العقل الفقهي الإسهام الذي يجب أن يقوم به «الدين» للتعامل الحضاري والاجتماعي والإنساني الشامل مع الواقع الحاصل، والتداعيات المحتملة، وهذا لا شك يتطلب اشتباك الفقه مع مجالات علمية وإنسانية أخرى، بما يطور من حركة الفقه ذاته، والله يهدي إلى سواء السبيل.
الهوامش
(1) نجم الدين الطوفي: المصلحة في الشريعة الإسلامية.
(2) الموسوعة الفقهية الكويتية، مصطلح «استصلاح».
(3) ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج10.
(4) قواعد الأحكام في مصالح الأنام، (2/160).
(5) إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج4.
(6) الريسوني: الاجتهاد بين النص والمصلحة والواقع، ص 69.
(7) هذا تصنيف للمجالات أورده جمال الدين عطية في ضوء تفكيك تصنيف المقاصد التي أرساها الشاطبي وتفريعها، وعد فيها ما يقرب من 30 مقصداً تتضمنها هذه المجالات الأربعة.
(8) انظر: عبدالكريم زيدان: مدخل إلى الشريعة الإسلامية، ص 82-83.
(المصدر: مجلة المجتمع)