مقالاتمقالات مختارة

المصطلحات في حدود الشرع

المصطلحات في حدود الشرع

بقلم محمد أمحزون

إنّ الغزو الفكريّ الجاهليّ الأوروبيّ في العصر الحديث أسهم بشكل كبير في التأثير على عقول كثير من المسلمين وأبعدهم عن فَهم مراد الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم وسنّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم.

وقد دأب المحتل الأوروبيّ عن طريق مناهجه ومدارسه وأفكاره على تركيب العقل المسلم تركيبة تتوافق ونظرته إلى الكون والإنسان والحياة لقطع خطّ الرجعة والصّلة بين هذا الإنسان المسلم والوحي قرآنًا وسُنّة.

فمنذ أنْ انصبغنا بصبغة فِكر الغالب الكافر وحضارته الماديّة المستكبرة أصبح دأبنا أنْ نكتب الفِكر ونحرر المصطلحات بحروف عربيّة لكنّها بعيدة كلّ البُعد عن شِرعة القرآن العظيم ومنهاج النبوّة وأصالتنا.

وهكذا ضعف أثر الإسلام في واقع المسلمين اليوم بفعل ازدواجية المصطلحات والمفاهيم واختلاطها في عقول المسلمين وتداخلها مع مصطلحات ومفاهيم الثقافة الغربية الغازية. بلْ نجزم أنّ المصطلحات والمفاهيم الأصلية الإسلاميّة زحزحت وبدلت عن وضعها وأصبحت فارغة عن مدلولها القرآنيّ والنبويّ فأصبح المسلمون يعانون الفصام والازدواجية في الفِكر والسلوك.

وهذا الوضع أدى إلى الاختلال والخلاف الواضح في كثير من المفاهيم بين أبناء الأمة الإسلاميّة الواحدة والاضطراب البيّن في دلالاتها ومعانيها الأمر الذي تسبّب في ضياع التصورات واختلاف المعاني والدلالات من ذهن لآخر فانقطعت بذلك سبل التواصل والحوار البنّاء بينهم ووصلت الأمّة إلى حالة من الفرقة والتشرذم تركتها تدور في حلقة مفرغة لا تستطيع أنْ تخرج منها إلى آفاق الوحدة والبناء والإصلاح والتنمية.

ولأجل ذلك كان لزامًا على الأمّة المسلمة إن أرادت البعث والحياة من جديد أنْ تعيد المصطلحات والمفاهيم إلى وضعها الأصلي وتستنير بشرعة القرآن ومنهاج النبوّة، إذ أصل التلقي في هذه الأمة من الوحي فتقوم بعملية تفكيك عقل المسلم المفتون وربطه من جديد بالوحي قرآنًا وسنّة وتركيبه تركيبة ربانيّة نبويّة وهذا شرطٌ رئيس في بعث الحياة في الأمّة والنهوض بها لتتبوَّأ مكانة الريادة والقيادة في العالم.

وفي هذا السياق فإنّ من أولويات بعث المسلمين والنهوض بهم وإصلاح أحوالهم المترديّة العمل على إحلال كتاب الله سبحانه وتعالى في المكانة اللائقة به في حياة المسلمين وذلك بدءًا بالعودة إلى قراءته وفهمه وتدبره ثم العمل به وتحكيمه والاحتكام إليه في جميع شؤون الحياة.

بيد أنّ الرجوع إلى كتاب الله تعالى والاعتصام به بحاجة إلى فهمه حقّ الفهم وهذا يقتضي العودة إلى التفسير بالمأثور، لأنّ الصحابة والتابعين والعلماء الراسخين في التفسير مثل ابن جرير الطبري ورثوا عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم منهجه القويم في الفقه والاستدلال فكانوا بحقّ أعمق هذه الأمّة عِلمًا وأغزرها معرفة وأوسعها أفقًا وأتمّها فقهًا لمراتب الأعمال وأعرف بأسباب التنزيل وأقدر على فهم القرائن فأدركوا ما لم يدركه غيرهم بسبب ذلك.

ولما كان القرآن الكريم نزل بلغتهم فهم أعرف بلسان العرب ومواقع كلامها وسعة لغتها وأشعارها ومجازها وعموم لفظ مخاطبتها وخصوصه ومن ثم فَهُمْ أدرى بعادات العرب في أقوالها وأفعالها ومجاري أحوالها حالة التنزيل[ 1 ].

وفي هذا العصر بسبب ما أصاب الأمّة من ضعف في الإيمان وجهل عامتهم بحقيقة الإسلام وهجرهم كتاب ربهم سبحانه وتعالى، نتج عن ذلك سوء فهم لمعاني القرآن ومقتضيات ألفاظه وخيّم الجهل بمعاني ودلالات القرآن وبقيمها وأوزانها وضعف أثرها على عقول المسلمين وظهر أثر ذلك انحرافًا في سلوكهم ومواقفهم.

ولأجل ذلك صار فرضًا بناء الأمة وتعديلها من جديد لتعود كما بدأت خير أمّة أُخرجت للنّاس ولا سبيل إلى ذلك إلّا بتجديد فهم الأمة للقرآن ولن يتجدّد فهم الأمة للقرآن حتى يتجدّد فهم مصطلحات القرآن بفهم السلف الصالح.

والمصطلح في اللغة: اسم مفعول من اصطلح بمعنى اتفق. واصطلح القوم على الأمر: تعارفوا عليه واتفقوا. والاصطلاح في اللغة: مطلق الاتفاق. ويقال في تعريفه: اتفاق طائفة على وضع اللفظ بإزاء المعنى[ 2 ].

أما المصطلح في الشرع: فهو ما يعرف حدّه ومسماه بالشرع وحده حيث يتعلّق به الحكم مثل: الصلاة والزكاة والصيام والحج والإيمان والإسلام والكُفر والنفاق وغير ذلك من المصطلحات الشرعيّة.

ومن الملفت للنظر أنّ مفهوم المصطلح الواحد قد يختلف من طائفة لأخرى ومن بلد إلى بلد ومن عصر إلى عصر بلْ من دين ومذهب إلى آخر وأحيانًا تختلف المصطلحات ودلالاتها لدى أتباع الدين الواحد، فنجد مثلًا العدل عند المعتزلة هو نفي القدر بينما معناه مختلف تمامًا عند أهل السنة. وهكذا التوحيد والتنزيه عند أهل الكلام عامّة فهما مختلفان عمّا عند أهل السنّة والجماعة وكذلك الإيمان يختلف في الدلالة عند المرجئة والخوارج والأشاعرة من جهة وعند أهل السنة والجماعة من جهة أخرى.

ولأجل ذلك ينبغي تحرير المصطلحات وضبطها ضبطًا محكمًا في حدود الشرع وهو ما أوحاه الله سبحانه وتعالى إلى رسوله الكريم صلّى الله عليه وسلّم فليس لأحدٍ أنْ يبدّل معاني هذه الألفاظ ولا أنْ يغيرّها بلْ يجعلها بمراداتها الشرعيّة حاكمة على التصورات ضابطة للعلوم يقول شيخ الإسلام ابن تيمية عن هذه المصطلحات: “فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد بيّن المراد بهذه الألفاظ بيانًا لا يحتاج معه إلى الاستدلال على ذلك بالاشتقاق وشواهد استعمال العرب ونحو ذلك فلهذا يجب الرجوع في مسمّيات هذه الأسماء إلى بيان الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فإنّه شاف كاف بلْ معاني هذه الأسماء معلومة من حيث الجملة للخاصّة والعامّة بل ْكلّ من تأمّل ما تقوله الخوارج والمرجئة في معنى الإيمان علم بالاضطرار أنّه مخالف للرسول صلّى الله عليه وسلّم[ 3 ].

ولكون المصطلحات ربانيّة المصدر فإنّها لا تتبدل ولا تتغير في لفظها ولا في دلالتها فهي تمتاز بالثبات المطلق الذي يجعل أيّ تدخل في تبديل معاني ألفاظها ودلالاتها تحريفًا للكلم عن مواضعه وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية رحمه الله: “فما أطلقه الله من الأسماء وعلق به الأحكام من الأمر والنهي والتحليل والتحريم لم يكن لأحد أنْ يقيّده إلّا بدلالة من الله ورسوله صلّى الله عليه وسلم[ 4 ].

ولهذا، فإن دلالات ومفاهيم المصطلحات الشرعيّة الواردة في الكتاب والسنة واضحة بيّنة لا تختلف باختلاف البيئات والثقافات فهي ألفاظ الوحي التي لا يأتيها الباطل، ولذا يتفق المتمسكون بدلالتها ولا يختلفون حولها باختلاف العصور والبيئات.

وإزاء هذا الثبات والاتفاق على معاني ودلالات المصطلحات الشرعيّة فالواجب نحوها يقتضي: المحافظة على المصطلحات الشرعيّة لفظًا ومعنى قلبًا وقالبًا فيستعمل المصطلح الشرعيّ للدلالة على مراده ولا يسمى بغير اسمه سواء أكان المراد منه حسنًا أم قبيحًا.

وفي هذا الأمر بالذات ينبغي الحذر من أولئك المنهزمين نفسيًا الذين يعظمون المناهج والمصطلحات الغربية ولا يأبهون بالمصطلحات الإسلاميّة وينفرون منها. إنّه يجب على المسلمين الحذر من التقليد الأعمى للغرب وفي ذلك يكمن خطر الذوبان في فكره الجاهليّ والضياع وسط مصطلحاته الكثيرة التي تفقدنا ذاتيتنا المستقلة.

ولذلك ينبغي الحرص على استعمال المصطلحات الإسلاميّة بكلّ دقة وأمانة في أبحاثنا ودراساتنا، لأنّها ذات دلالات واضحة ومحددة ولأنّها معايير شرعيّة لها قيمتها في وزن الأشخاص والأحداث فالقرآن الكريم على سبيل المثال قسَّم النّاس إلى ثلاثة أقسام: «مؤمن» و«كافر» و«منافق». ولكلّ منها صفات محددة ثابتة ودقيقة لا يجوز التلاعب بها.

فما ينبغي أنْ نحيد عن هذا التقسيم إلى مصطلحات نبتت في أوساط غير إسلاميّة كوصف الإنسان بأنّه «يميني» أو «يساري» أو غير ذلك من النعوت غير الشرعيّة والتي ليست محددة بصورة دقيقة وثابتة. وكذلك فإنّ الحكم على الأعمال والمواقف والمنجزات الحضاريّة ينبغي أنْ تستخدم فيه المصطلحات الشرعيّة: كـ «الخير» و «الشرّ » و «الحقّ» و«الباطل» و«العدل» و«الظلم» كما جاءت محددة في القرآن الكريم والسنّة الشريفة ولا يجوز استخدام معايير الفِكر الغربيّ: كـ «التقدميّة» و«الرجعيّة» و«الإرهاب» و«الديمقراطيّة» و«الديكتاتوريّة» و«الأيديولوجيّة» وغيرها من المصطلحات الجاهليّة المعاصرة.

ولا يخفى على المطّلع اهتمام العلماء المسلمين قديمًا وحديثًا بتحديد المصطلحات وضبطها بالشكل وبالحد وبتقسيم التعاريف وتحريرها بشكل جامع مانع بحيث لا تتداخل المفاهيم ولا تختلط المعاني، لعلمهم أنّ المصطلح إذا استعمل بشكل غير محرر فإنّ ضرره أكثر من نفعه ولا يمكن قبوله علميًا.

ولرسوخ العلماء الأقدمين في العلم انتبهوا إلى أنّ للألفاظ دلالات حقيقيّة وأخرى مجازيّة وأنّ لها زوايا للنظر من جهة الوضع اللغويّ والدلالة الشرعيّة والدلالة الاصطلاحيّة كما أنّ الدلالة اللغويّة للكلمة تدور بين النص والظاهر والمشترك والمجمل والمبهم والعام والخاص والمفهوم والمنطوق والفحوى والإشارة كما حرر ذلك علماء الأصول[ 5 ]. واهتموا أيضًا بفرز مصطلحات الفنون: كمصطلحات أصول الفقه وعلم الحديث وعلوم القرآن الكريم والنحو والمنطق. وكتبوا كتبًا مفردة في المصطلحات والتعريفات منها: «حدود الأشياء ورسومها» للكندي و«مفاتيح العلوم» للخوارزمي و«الحدود» للباجي و«المُغْرب في لغة الفقه» للمطرزي و«الفروق اللغويّة» لأبي هلال العسكري و«الفروق اللغويّة» للآمدي و«التعريفات» للجرجاني و«الكليّات» للكفوي و«كشّاف اصطلاحات الفنون» للتهانوي.

على أنّ قضية المصطلحات ينبغي النّظر إليها من زاويتين:

الزاوية الأولى: وهي أنّ المصطلحات رسائل فِكريّة موجّهة ووسائل للتفاهم بأقصر ضرورة علميّة ووسيلة مهمّة من وسائل التعليم ونقل المعلومات وبها ينتشر العلم وتتلقى وتتفق أفكار العلماء والمثقفين وينتفع الخلف بمجهود السلف لكونها تجمع الفِكر على دلالة محددة واضحة.

ومن ثم ينبغي العناية باستعمال المصطلحات الشرعيّة الواردة في الكتاب والسنة، فالمعاني والدلالات الشرعيّة تؤخذ من ألفاظ التنزيل ونلتزم مدلول اللفظ ونؤمن باللفظ سواء فهمنا معناه أو لم نفهمه، لأنّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم لا يقول إلّا حقًا والأمّة لا تجتمع على ضلالة[ 6 ].

كما أنّ الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث إذا عرف تفسيرها والمراد بها من قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يحتجّ في ذلك إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم. أمّا الكلام في اشتقاقها ووجه دلالتها فذلك من جنس علم البيان وتعليل الأحكام وهو زيادة في العلم وبيان حكمة لفظ القرآن وإنْ كانت معرفة المراد بها لا تتوقف على هذا[ 7 ].

الزاوية الثانية: خطورة الغزو المصطلحيّ من قبل الغرب الصليبيّ ذلك أنّ قضية المصطلحات من أشدّ العناصر أثرًا وأهميّة وخطورة في ثقافة الشعوب، لأنّه عن طريقها يتمّ تثبيت المفاهيم والأفكار.

والمصطلح كلمة أو كلمتان وقد لا تتعدى ذلك إلّا في حالات نادرة لكنّ هذه الكلمة قادرة على تحويل التفكير من جهة إلى نقيضها بلْ قادرة على أنْ تفقد الإنسان التفكير أصلًا، ولهذا فإنّ الغزو المصطلحيّ هو أخطر أنواع الغزو والسيطرة فهو ببساطة يجعل المغزوَّ يتحرك حرًا مالكًا زمام أمره لكنّه في حقيقة الأمر مسلوب الإرادة مسخّر نشاطه وجهوده من أجل الأمة التي أنبتت الفِكر الذي يثير إعجابه فيرفع لواءها ويسير في ظلّها يخدمها وهو لا يشعر أنّه يُسيء إلى فِكر وثقافة أمته.

على أنّ هذا المنزلق يتمثل في عدم وعي المثقفين العلمانيين من بني جلدتنا بأنّ المصطلحات الدخيلة إنّما تنبثق من رؤية خاصة للفِكر الغربيّ فهي ذات مضامين ودلالات تاريخيّة واجتماعيّة لا يمكن فصلها عن ذلك الوسط الاجتماعي والظروف التاريخيّة والثقافيّة التي لابست نشوء هذا المصطلح أو ذاك.

ولهذا ينبغي أنْ نعي خطورة الغزو المصطلحيّ على الأمّة فهو ليس لمجرد اللهو والعبث اللفظي فمحاولات إطفاء نور الله تعالى بالأفواه محاولات قديمة جديدة يُراد بها خاصة في هذا العصر الذي هيمن فيه الغرب على مقدرات شعوب العالم، جملة من المقاصد منها:

  1. إرهاب التيارات الإسلاميّة الداعيّة إلى تحكيم الشرع على الصعد كافّة وإعلاء تيارات علمانيّة ليبراليّة واشتراكيّة منحت ولاءها للغرب وتعمل على تنفيذ أجندته في الأرض الإسلاميّة.
  2. تضليل الشباب المسلم وتركه يراوح مكانه دون إحراز أيّ عمق في الوعي ولا زيادة في العلم ولا صدق في التربية فكثيرًا ما ينشغل الشبان بألفاظ ومصطلحات تلقى بينهم عن عَمد لصرف أنظارهم عمّا يجري لهذا الدين ولشقّ صفّهم وإيقاع الخلاف والفرقة بينهم ولشلّ فاعليتهم.
  3. زرع أفكار ذات جذور عقليّة وعقديّة لا تنتمي للإسلام وتراثه وحضارته عبر توظيف المصطلح توظيفًا خاصاً وقد راج في هذا السياق بين المسلمين عدد كبير من المصطلحات ذات الأصول الغربية: كالأصوليّة والتطرف والتنوير والعقلانيّة والعلمانيّة والحداثة وغيرها.
  4. تقبيح مصطلحات شريفة في أصلها ودفع أصحابها للخجل منها والمدافعة عن أنفسهم من ذكرها مثل: السلفيّة والأصوليّة والجهاد والحجاب والنصوصية. وتمّ تناولها بطريقة ملتويّة وموجّهة بجعل السلفيّة تهمة والأصوليّة جريمة والجهاد سببًا للسجن والشنق والحجاب وصمة بالجهل والتخلف والنصوصية سببًا لسبّ الإمام أحمد لحساب ابن أبي دؤاد وبشر المريسي في دعاوى بعض المعاصرين المنافقين من داخل الصفّ الإسلاميّ.
  5. تحسين وتزيين مصطلحات خسيسة لا علاقة لها بالإسلام بلْ هي إمّا كنسية المصدر أو ملحدة لا علاقة لها بالدين كمصطلحات: الحتمية والعقلنة والتقدميّة والتنوير والحداثة والعلمنة والمعاصرة والعولمة ونشرها على الألسن وعبر وسائل الإعلام حتى تصير مقبولة مرتضاة. ونجد بين المسلمين من يدعو لها خاصّة أهل التخريب العقديّ من العلمانيين المرتدين.

وفي الختام فإنّ المعركة بين الأمة الإسلاميّة وأعدائها النصارى واليهود ليست معركة واحدة في ميدان الحرب فحسب بلْ هي معركة في ميدانين: ميدان الحرب وميدان الفِكر والمصطلحات والمفاهيم والأعداء حريصون على توزيع نفايات أفكارهم بيننا، لأنّهم يعلمون أنّ الأمة التي تنتشر فيها هذه الأفكار الفاسدة تصبح غثاء تدور في المدار المحدد لها ولذلك حذّرنا الله سبحانه وتعالى من اتخاذهم أولياء في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِـمِينَ}[المائدة:51].

وذلك ما أخبر به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وحذّر منه في الحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري: (لتتّبعن سنن من كان قبلكم شبرًا شبرًا وذراعًا ذراعًا حتى لو دخلوا حجر ضب تبعتموهم قلنا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)[ 8 ] وقوله صلى الله عليه وسلم: (يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها) قالوا: أمن قِلّة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: (إنكم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل)[ 9 ].

إنّ إحاطة عدونا بنا ووصولنا إلى مرحلة الشتات والفرقة ودخول أمتنا مرحلة القصعة، كلّ ذلك دليل على وجود خلل في البنيّة الفِكريّة والمصطلحيّة والطروحات العقديّة التي أثمرت هذا الخلل مهما ارتفعت أصواتنا بالادّعاء بأننا على النهج السليم.

ولذلك، فإنّ الغيورين المخلصين والعاملين في ميدان إحياء الأمّة لا بدّ لهم من التمييز بين أسباب مَرض الأّمة وأعراض هذا المرض فالأسباب في الحقيقة فِكريّة أساسها المعتقدات والقيم والمصطلحات والمفاهيم أمّا الأعراض فهي سياسيّة واقتصاديّة واجتماعيّة.

ومن ها هنا فإنّ بداية أيّ تغيير لا بدّ أنْ تحدث في المصطلحات والمفاهيم وبقدر ما تملك الأمّة رصيدًا صحيحًا وقويًّا من الأفكار والمصطلحات التي مصدرها الكتاب والسنة وبقدر ما تتحول هذه الأفكار إلى ثقافة معطاءة في الواقع، يمكن أنْ نقول إنّها تشكّل نقطة البدء بالتغيير المنشود والله غالب على أمره لكنّ أكثر النّاس لا يعلمون.

(المصدر: رابطة علماء المسلمين / موقع “على بصيرة”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى