مقالاتمقالات مختارة

المصطفى صلى الله عليه وسلم والتربية الأخلاقية (1)

المصطفى صلى الله عليه وسلم والتربية الأخلاقية (1)

بقلم د. جمال نصار

اتسم منهج النبي، صلى الله عليه وسلم، بوضوح الغايات وشرف الوسائل؛ كما أخبر الله، تعالى، عن ذلك بقوله: (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ)([1]).

قال الطبري: “فهو على بصيرة مما هو عليه ويقين بتنوير الحق في قلبه، فهو لذلك لأمر الله متبع، وعما نهاه عنه منته”([2])، وقال ابن كثير: “أي على بصيرة فيما أدعو إليه”([3]).

وللتربية أثر عظيم في تزكية النفس، ولذلك كانت من مهمات الرسول التربوية تزكية نفوس أصحابه، قال تعالى: (كَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا فِیكُمۡ رَسُولًا مِّنكُمۡ یَتۡلُوا۟ عَلَیۡكُمۡ ءَایَـٰتِنَا وَیُزَكِّیكُمۡ وَیُعَلِّمُكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَیُعَلِّمُكُم مَّا لَمۡ تَكُونُوا۟ تَعۡلَمُونَ)([4]).

وقوم النبي صلى الله عليه وسلم كانوا على جانب من الأخلاق الفاضلة؛ من نجدة، وشجاعة، وكرم، وإباء ضيم.. وغير ذلك؛ ولكنَّ هذه الأخلاق كانت ناقصةً، أو مشوبةً بما يكدرها ويذهب رونقها من الأخلاق الذميمة، فبُعث النبي، صلى الله عليه وسلم، ليُتم ما نقص منها، ويُقوِّم ما اعوجَّ؛ كما نقل السيوطي عن الباجي قوله: “كانت العرب أحسن الناس أخلاقًا بما بقي عندهم من شريعة إبراهيم، وكانوا ضلُّوا بالكفر عن كثير منها، فبُعث، صلى الله عليه وسلم، ليتمِّم محاسن الأخلاق؛ ببيان ما ضلُّوا عنه، وبما خُصَّ به في شريعته”([5]).

وقد كان المنهج النبوي في تحقيق هذه الغاية منهجًا متكاملاً، جديرًا بالوقوف معه، والتأمل فيه؛ ليستفيد الدعاة من الهدي النبوي في تربيتهم الناسَ على مكارم الأخلاق، وفاضل السلوك، وسامي القيم؛ فإن التربية من أشقِّ الأمور؛ لاحتياجها المتابعة والملازمة، وقبل ذلك المنهج الواضح السليم الذي سلكه النبي، صلى الله عليه وسلم، فأخرج لنا جيلاً متفرِّدًا بسموِّ أخلاقه، وعلوِّ همَّته، ونجاحه في كل الميادين.

وقد ترجم النبي، صلى الله عليه وسلم، القرآن الكريم في حياته اليومية إلى أفعال وأقوال وأخلاق، وتمثل ذلك في سيرته العطرة، عليه الصلاة والسلام، ويلاحظ أن السلوك الأخلاقي للجيل النبوي، وأجيال التابعين، كان سلوكًا ربانيًا حقًا، حينما حرصوا على الالتزام التام بمعايير تلك المنهجية النبوية للسلوكيات الأخلاقية الإسلامية، في سلوكهم العملي، مجسدين حقيقة نموذج الأخوة الإسلامية، بأعلى حس أخلاقي، على قاعدة (إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ إِخۡوَة)([6]).

ومن المواقف الدالة على سمو سيرته صلى الله عليه وسلم بأسمى الأخلاق والفضائل، وحرصه على تربية صحابته تربية أخلاقية عالية:

أولًا: تواضعه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع أصحابه:

فعن عائشة، رضي الله عنها، قالت: قال صلى الله عليه وسلم: “يا عائشة، لو شئتُ لسارت معي جبالُ الذَّهَبِ، جاءني ملَكٌ، إنَّ حُجْزَته([7]) لَتُساوي الكعبةَ، فقال إنَّ ربَّكَ يَقرأُ عليك السلامَ، ويقول لك: إن شئتَ نبيًّا عبدًا، وإن شئتَ نبيًّا ملِكًا؟ فنظرتُ إلى جبريلَ، فأشار إليَّ: أن ضَعْ نفسَك. فقلتُ: نبيًّا عبدًا، فكان صلى الله عليه وسلم بعدَ ذلك لا يأكلُ مُتَّكِئًا، يقول: آكلُ كما يأكلُ العبدُ، وأجلسُ كما يجلسُ العبدُ)([8]).

وعن عائشةَ قالت: سأَلها رجُلٌ: هل كان رسولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، يعمَلُ في بيتِه؟ قالت: نَعم كان رسولُ اللهِ، صلى الله عليه وسلم، يخصِفُ نعلَه ويَخيطُ ثوبَه ويعمَلُ في بيتِه كما يعمَلُ أحَدُكم في بيتِه([9]).

وكان صلى الله عليه وسلم يتواضع للمؤمنين، يقف مع العجوز ويزور المريض ويعطف على المسكين، ويصل البائس، ويواسي المستضعفين، ويداعب الأطفال، ويمازح الأهل ويكلم الأَمة، ويواكل الناس، ويجلس على التراب، وينام على الثرى، ويفترش الرمل ويتوسّد الحصير، يكلم النساء بلطف، ويخاطب الغريب بودّ، ويتألف الناس ويتبسّم في وجوه أصحابه، يقول: “إنما أنا عبد آكل كما يأكل العبد واجلس كما يجلس العبد”([10])، ولما رآه رجل ارتجف من هيبته “أتى النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، رجلٌ فكلَّمه فجعل ترعَدُ فرائصُه فقال له هَوِّنْ عليك فإني لستُ بملِكٍ إنما أنا ابنُ امرأةٍ تأكلُ القديدَ”([11]).

وكان يكره المدح، وينهي عن إطرائه، ويقول: “لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أن عبد الله ورسوله، فقولوا عبدالله ورسوله”([12]).

وكان ينهي أن يقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس، وكان يختلط بالناس كأنه أحدهم، ويجيب الدعوة([13])، ويقول: “لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت”([14]).

ثانيًا: أمانته صلى الله عليه وسلم:

لقد وُصف قبل البعثة بأنه الصادق الأمين، فها هي القبائل مِن قريش لما بنت الكعبة حتى بلغ البنيان موضع الركن (الحجر الأسود) اختصموا فيه، كلُّ قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون القبيلة الأخرى حتى تخالفوا وأعدُّوا للقتال، فمكثت قريش على ذلك أربع ليالي أو خمسًا، ثمَّ تشاوروا في الأمر، فأشار أحدهم بأن يكون أوَّل مَن يدخل مِن باب المسجد هو الذي يقضي بين القبائل في هذا الأمر، ففعلوا، فكان أوَّل داخل عليهم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فلمَّا رأوه قالوا: هذا الأمين، رضينا، هذا محمَّد، فلمَّا انتهى إليهم، وأخبروه الخبر، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: “هلمَّ إليَّ ثوبًا، فأُتِي به، فأخذ الركن، فوضعه فيه بيده، ثمَّ قال: لتأخذ كلُّ قبيلة بناحية مِن الثَّوب، ثمَّ ارفعوه جميعًا، ففعلوا، حتى إذا بلغوا به موضعه، وضعه هو بيده، ثمَّ بنى عليه”([15]).

وكان السَّبب في زواجه، صلى الله عليه وسلم، بخديجة، رضي الله عنها، هو الأمَانَة، فقد تاجر، صلى الله عليه وسلم، في مال خديجة قبل البعثة، وقد اتَّصف في تجارته بصدق الحديث، وعظيم الأمَانَة، يقول ابن الأثير: “فلمَّا بلغها -أي: خديجة- عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صِدْقَ الحديث، وعظيم الأمَانَة، وكرم الأخلاق، أرسلت إليه ليخرج في مالها إلى الشَّام تاجرًا، وتعطيه أفضل ما كانت تعطي غيره مع غلامها ميسرة، فأجابها، وخرج معه ميسرة([16])، ولـمَّا عاد إلى مكَّة، وقصَّ عليها ميسرة أخبار محمَّد، صلى الله عليه وسلم، قررت الزَّواج به.

وقد كان صلى الله عليه وسلم بعد البعثة أحرص النَّاس على أداء الأمانات، والودائع للنَّاس حتى في أصعب وأحلك الأوقات، فها هي قريش تُودِع عنده أموالها أمانة لما يتوسَّمون فيه مِن هذه الصِّفة، وها هو، صلى الله عليه وسلم، يخرج مهاجرًا مِن مكَّة إلى المدينة، فماذا يفعل في أمانات النَّاس التي عنده؟! (قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: نَمْ على فراشي، واتَّشح ببردي الأخضر، فنم فيه، فإنَّه لا يخلص إليك شيء تكرهه، وأمره أن يؤدِّي ما عنده مِن وديعة وأمانة)([17]).

وللحديث بقية..

 

(*) أستاذ فلسفة الأخلاق ـ جامعة اسطنبول صباح الدين زعيم.

________________________

 ([1]) يوسف: 108.

([2]) جامع البيان،16 / 291.

([3]) تفسير القرآن العظيم، ص998.

([4]) البقرة: 151.

([5]) تنوير الحوالك، السيوطي، 1 / 211.

([6]) الحجرات: 10.

 ([7]) الحُجزَة: موضع شد الإزار، ثم قيل للإزار حجزة للمجاورة، يقال: احتجز الرجل بالإزار: إذا شده على وسطه، النهاية في غريب الحديث لابن الأثير، 1/ 344.

([8]) سير أعلام النبلاء، 2 / 194.

([9]) صحيح ابن حبان، حديث رقم (6440).

([10]) إحياء علوم الدين، الغزالي، تخريج الحافظ العراقي، 2 / 454.

([11]) سنن ابن ماجة، حديث رقم (3312).

([12]) صحيح البخاري، حديث رقم (3445).

([13]) محمد صلى الله عليه وسلم كأنك تراه، عائض القرني، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1422هـ – 2002م، ص44.

([14]) صحيح البخاري، حديث رقم (2568).

([15]) السيرة النبوية، ابن هشام، 1 / 138.

([16]) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، 2 / 26.

([17]) تاريخ الرسل والملوك، الطبري، 2 / 372.

(المصدر: مجلة المجتمع)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى