المصحف الإلكتروني وأحكامه الفقهية المستجدة (1-2)
بقلم رابح بن أحمد دفرور
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين. وبعد: لقد تكفَّل الله سبحانه بكتابه الكريم، فتولَّى حِفْظَه في الصدور والسطور، وكان من مظاهر ذلك عنايةُ النبي صلى الله عليه وسلم بكتابة كل آية كانت تنزل عليه، ومنع أن يكتب مع القرآن غيرهُ حتى وإن كان حديثًا له؛ لئلا يلتبس به فقال: «لا تكتبوا عني إلا القرآن ومن كتب عني شيئاً فليمحه» (رواه مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم، برقم: [2493]، وابن حبان في صحيحه: [1/265]، وهذا اللفظ لابن حبان). وقد جمع الصدِّيق رضي الله عنه سور القرآن في مصحف واحد بين دفتين بعدما كان مفرقًا في الألواح والأكتاف والأخشاب، ثم جَمَعَ ذو النورين الخليفة عثمان رضي الله عنه القرآن في رَسْم واحدٍ، فلم يَعُدْ مختِلفاً في رسمه المؤسس على لغة العرب وحرف قريش (ينظر الإبانة عن معاني القراءات، ص: 65)، وبذلك ظل محفوظاً عبرَ تداوُل الأيام، وتوالي الأزمان. ولم يكن صنيعُ مَنْ جاء من بعد ذلك سوى إضافة بعض التحسينات التي تضبط القراءة من المصحف، وتُبعِدُ اللَّحْنَ عنها، فألحقت الهمزات والحركات والشدات ونقط الحروف، ثم بعدها ألحقت علامات المد والإدغام والإمالة.. وصارت أحكام التلاوة بعدها غاية في اليسر، كما صارت علاماتها غاية في الوضوح. ومن جهة أخرى نجد الفقهاء لم يُقَصِّروا في استنباط أحكام فقهية تتعلق بالمصحف، فمنع جمهورُهم مَسَّه من غير طهارة، ولم يجيزوا قراءته لغير طاهر، ولم يروا أن يكتبه كافر، كما أوجبوا تعظيمه واحترامه، واستفادوا من النصوص الشرعية جملةً من الآداب التي تليق بجلاله وعظمته. وإن من النوازل التي نزلت بعصرنا الموسوم بالتطور التقني اكتشافَ التقنيات الإلكترونية في مجال الصوتيات والمعلوماتية التي تم استخدامها في تطوير وسائل رسم المصحف، كما استعملت في تطوير آليات تسجيل الصوت، ودقة حفظه، وسهولة استرجاعه، فظهر ما يعرف حالياً بالمصحف الإلكتروني. ولا تزال أحكام هذه النازلة محل نقاش عند الفقهاء المعاصرين، في اعتبار الأحكام المتعلقة بالمصاحف الإلكترونية ملحقةً بأحكام المصاحف الورقية المتفق عليها منذ عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه، كحكم مسها من غير طهارة، وحكم بيعها وشرائها، وحكم القراءة فيها في الصلاة، وحكم وضعها في الأماكن النجسة… أو أن الطبيعة الإلكترونية لهذه المصاحف ومخالفتها للمصحف العثماني من عدة أوجه، تجعل أحكامها خلافًا لأحكام المصحف الورقي، فيجوز في حَقِّها ما لا يجوز في حقه. أو أن هناك من الأحكام ما ينطبق على المصحف الورقي، ولا ينطبق على المصحف الإلكتروني. وتهدف هذه الدراسة إلى مناقشة جملة من الأحكام الفقهية المستجدة والمتعلقة بالتقنيات الإلكترونية المستعملة في المصحف الإلكتروني، وذلك عن طريق عرض مسائلها، وتحليلها، ومحاولة استنباط الحكم الملائم لها، مع تعزيز الحكم بالأدلة الشرعية التي تدل عليه. ونظرًا لكون المصحف الإلكتروني من الأمور المستجدة، ومسائله تُعَدُّ من النوازل في هذا العصر، لم نجد من الدراسات السابقة المتعلقة بالموضوع إلا نَزْراً يسيراً، ومن ذلك كتاب (المتحف في أحكام المصحف) للدكتور صالح بن محمد الرشيد، وهو كتاب تميز بجمع الأحكام المتعلقة بالمصحف، غيرَ أنه أدرج فيه ما يتعلق بآداب المصحف وأخباره. وكتاب (فيض الرحمن في الأحكام الخاصة بالقرآن) للدكتور أحمد بن سالم ملحم، وهو كتاب تناول أكثر المسائل الفقهية المتعلقة بالقرآن من حيث حَمْلُه و حفظه وترجمته على نحو موجز ومختصر. ومقال بعنوان (المصحف المطبوع بطريقة برايل للمكفوفين، هل له حكم المصحف المعروف؟) للدكتور حسام الدين عفانة، والمنقول عن الموقع الإلكتروني: (يسألونك). الذي تعرض في استطراد له لحكم مسألة من مسائل المصحف الإلكتروني. وفتوى للشيخ فهد بن عبد العزيز العمار في حكم دخول الَحمَّام بالجوال الذي يحمل على شريحته القرآن الكريم، التي نشرت في الموقع الإلكتروني (المسكي). وأهم ما سيبحث خلال هذه الدراسة إن شاء الله تعالى يتمثل في تحديد معنى المصحف الإلكتروني الذي يُعَدُّ تقنية معاصرة تعلقت بشأن القرآن الكريم، وأيضاً محاولة التكييف الفقهي لهذا المصحف، ومناقشة جملة من الأحكام المتعلقة به. وانتهجت في دراستي لهذا الموضوع المنهج التحليلي، واعتمدت على ما جاء في القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة مما كانت دلالته صريحة على موضع الاستشهاد، وما جاء من أقوال الفقهاء المعززة بالأدلة الشرعية نقلية كانت أو عقلية. وذلك وفق الطريقة الآتية: – عزو الآيات القرآنية إلى سورها بأرقامها. – تخريج الأحاديث النبوية من مصادرها، فإن كانت في أحد الصحيحين أكتفي بذلك، وإن لم تكن فيهما، ذكرت المصدر، ثم نصصت على درجة الحديث مما ذكره الأئمة المحدثون. – تأصيل المفاهيم المتعلقة بالموضوع من الجهتين الفقهية والتقنية. – التعريف بالمصطلحات اللغوية الفقهية والتقنية الواردة في البحث. وتناولت الموضوع من خلال المباحث التالية: • مقدمة. • تمهيد: المصحف: تعريفه وخواصه. • المبحث الأول: المصحف الإلكتروني: حقيقته وخواصه وحكمه. • المبحث الثاني: الأحكام الفقهية المتعلقة بالمصحف الإلكتروني. • الخاتمة: ضمنتها جملة النتائج المتوصل إليها من خلال البحث. تمهيد المصحف: تعريفه وخواصه قبل الخوض في تفصيل أحكام المصحف وما يتعلق به من تطورات إلكترونية أدت إلى ظهور مسائل جديدة ترتبط بآدابه وأحكامه نعرض تعريفاً موجزاً للمصحف ونبين أهم خواصه. أولاً: تعريف المصحف لغة: المصحف بضم الميم وكسرها من فعل أُصحف أي جعلت فيه الصحف، والصُّحُف جمع صحيفة وهي المبسوط من الشيء، كصحيفة الوجه، والصحيفة التي يكتب عليها، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى . صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى:18-19]. وأيضاً قوله: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُّطَهَّرَةً . فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [البينة:2-3]. ويجمع المصحف على مَصاحِف، والتصحيف: قراءة المصحف وروايته على غير ما هو لاشتباه حروفه (ينظر القاموس المحيط،مادة صحف، ص: 1067-1068). و عَرَّفه اصطلاحاُ الأصفهاني بقوله: “المصحف هو ما جُعِل جامعاً للصحف التي كتب فيها القرآن الكريم” (ينظر المفردات في غريب القرآن، ص: 275). وعَرَّفه الشيخ الزرقاني بقوله: “المراد بالمصحف اصطلاحاً: الأوراقُ التي جُمع فيها القرآن مع ترتيب آياته وسوره جمعاً على الوجه الذي أجمعت عليه الأمة أيام عثمان رضي الله عنه” (مناهل العرفان [1/277]). وأضاف أن يكون ذلك واقعاً بين دفتين حافظتين لتلك الأوراق. فقال: “فكأن المصحف ملحوظ في معناه اللغوي دفتاه، وهما جانباه أو جلداه اللذان يتخذان جامعاً لأوراقه، ضابطاً لصحفه، حافظاً لها” (مناهل العرفان [1/277]). ونلاحظ من خلال هذين التعريفين أن المراد بالمصحف الأوراق التي جُمع فيها القرآن الكريم، والنقوش التي كانت وسيلة لكتابة حروفه، وهو الصواب والمشهور في مفهوم المصحف الورقي، غير أن الأوراق والنقوش لم تعد الوسيلة الوحيدة التي تجمع بواسطتها آيات القرآن، بل استجدَّ غيرها مما يقوم بالغرض نفسه. ومن ذلك مثلا: الشرائح الإلكترونية (الشريحة الإلكترونية هي رقاقة إلكترونية دقيقة جدا تستخدم في تخزين البرامج والملفات الإلكترونية)، والنتوءات المستعملة في كتابة برايل على أوراقها الخاصة، والأقراص المدمجة (هي عبارة عن شرائح مصنوعة من مادة شبيهة بالزجاج وتستخدم أشعة الليزر للقراءة والكتابة عليها)، وبالتالي فإننا نخلص إلى تعريف معاصر لمصطلح المصحف عمومًا، يكون جامعاً لكل هذه الصور، فيكون كالتالي: المصحف عموماً هو تلك الوسائل المادية التي يجمع فيها القرآن الكريم وفق الهيئة التي جمعه عليها الخليفة عثمان رضي الله عنه مرتب الآيات والسور. وبهذا التعريف تدخل جميع المصاحف، القديمة والحديثة، سواء أكانت مكتوبة على الورق أم كانت محملة على الأقراص والشرائح الإلكترونية، أم كانت نتوءات بإبرة برايل. ثانياً: خواص المصحف ليس كل وسيلة مادية ورقية كانت أم إلكترونية اشتملت على آيات القرآن الكريم وسوره تسمى مصحفاً، وتأخذ أحكام المصحف الفقهية، وتحظى بآدابه إلا إذا اتصفت بالخواص التالية: أولاً: كونه يشتمل على آيات القرآن وسوره جميعها، وتكون مجردة عن غيرها من الكلام من تفسير أو ترجمة أو أحكام أو غير ذلك من أقوال أهل العلم. فالآيات المجتزأة من السورة، وكتب التفسير والفقه المشتملة على الآيات القرآنية، وترجمة القرآن إلى لغات أخرى لا تأخذ حكم المصحف ولا تثبت لها أحكامه. قال البيهقي: “…ولم يُعرف أنه أُثبت في المصحف الأول ولا فيما نُسخ منه شيء سوى القرآن؛ فبذلك ينبغي أن يُعمل في كتابة كل مصحف” (شعب الإيمان [2/546]). ثانياً: كونه مكتوباً بالرسم العثماني؛ ذلك لأنه ما أجمع عليه الصحابة على عهد الخليفة عثمان رضي الله عنه في كتابة المصاحف، ولكونه الرسم الوحيد الذي حصر فيه القرآن الكريم بعدما قام عثمان بتحريق المصاحف الأخرى المشتملة على رسوم أخرى، فصار هذا الرسم المصدر الوحيد لاستنساخ أي مصحف قرآني. قال البيهقي في شعب الإيمان: “من كتب مصحفاً ينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف، ولا يخالفهم فيه، ولا يغير مما كتبوه شيئًا، فإنهم كانوا أكثر علماً، وأصدق قلباً ولساناً، وأعظم أمانة مِنّا، فلا ينبغي أن نظن بأنفسنا استدراكاً عليهم” (شعب الإيمان [2/548]). وإن ضرورة اتباع الرسم العثماني في المصاحف العامة مسألة خلافية بين الفقهاء، فقد خالف الجمهورَ بعضُ الأئمة كالإمام العز بن عبد السلام الذي قال: “لا يجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة ؛ لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن (ما ينبغي له) إجراء ذلك على الإطلاق لئلا يؤدي إلى درس العلم، وشيء قد أحكمه القدامى لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين…” (الفتح الرباني في علاقة القراءات بالرسم العثماني، ص: 63). وأيضاً الإمام الزركشي الذي عقب على قول الإمام مالك بمنع مخالفة المصحف للرسم العثماني فقال: “وكان هذا في الصدر الأول والعلم حي غض، وأما الآن فلا يخشى الالتباس” (البرهان في علوم القرآن [1/379]) وجاء مثل ذلك عن الباقلاني (مناهل العرفان [1/263]) وابن خلدون (ينظر: مقدمة ابن خلدون، ص: 419). وبالرغم من أن المسألة لم تَحْظَ بإجماع الفقهاء المتأخرين (نجد من خالف في ذلك كالباقلاني وابن خلدون. ينظر: مقدمة في الدراسات القرآنية، ص: 226) كما حظيت بإجماع القدامى فإن الرسم العثماني يظل هو الشكل العام الذي يجمع الأمة على كيفية رسم كتاب ربها في سائر الأعصار والأمصار، ولا يمكن التفريط في شيء شأنه جمع شتات الأمة، ويجعلها في سـلك واحد. وتجدر الإشارة في هذا الموضع إلى أن المصاحف العثمانية التي كتبها الخليفة عثمان رضي الله عنه والتي أرسلها إلى الأمصار، وأبقى واحداً منها عنده، كانت خالية من النقط والشكل، ومختلفة الرسم في بعض الحروف، وذلك لكي توافق اختلاف القراءات التي صحت عند الصحابة رضي الله عنهم (ينظر: النشر في القراءات العشر: 1/7). ثالثاً: كونه مجموعًا كاملًا بين دفتين، غير منفصل الأجزاء بعضها عن بعض؛ ذلك لأن الأوراق المنفصلة غير المجموعة بين لوحين لا تسمى مصحفاً، وإنما هي بعض منه. قال الزرقاني: “فكأن المصحف ملحوظ في معناه اللغوي دفتاه وهما جانباه أو جلداه اللذان يتخذان جامعا لأوراقه، ضابطاً لصحفه، حافظاً لها” (مناهل العرفان: 1/277). وكان الإمام مالك يكره أن ينسخ المصحف مفرقاً في أجزاء، فقد نقل ابن الحاج في مدخله عنه ذلك فقال: “وقد كره مالك نسخ المصحف في أجزاء متفرقة وقال: إن الله عز وجل قال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة:17] (المدخل لابن الحاج: [4/87])”. رابعاً: كونه مرتب السور والآيات حسب ما ثبت في العرضة الأخيرة للقرآن الكريم، وبالهيئة التي جاءت في المصحف العثماني من سورة الفاتحة إلى الناس، ولو أن مصحفًا كتب منكوس الآيات والسور، أو رتبت فيه الآيات وفق تاريخ النزول، أو وفق المكي والمدني لخرج ذلك عن حد المصحف. وما كان المصحف بهذا الترتيب الحالي لآياته وسوره إلا لحكمة أرادها الله (عز وجل) (ينظر التبيان في آداب حملة القرآن، ص: 49). قال الشيخ الزرقاني: “وسواء أكان ترتيب السور توقيفياً أم اجتهادياً فإنه ينبغي احترامه، خصوصاً في كتابة المصاحف؛ لأنه عن إجماع الصحابة، والإجماع حجة، ولأن خلافه يجر إلى الفتنة، ودرء الفتنة وسد ذرائع الفساد واجب” (مناهل العرفان: [1/ 247-248]). لأجل هذا منعت القراءة منكوسة، فقد روى ابن أبي داود عن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له: إن فلاناً يقرأ القرآن منكوسا. قال: “ذا منكوس القلب” (كتاب المصاحف لابن أبي داود: [2/545]. والأثر صحيح، انظر حاشية المصاحف، في الصفحة نفسها). وروى عن الحسن أنه كان يكره أن يقرأ القرآن إلا على تأليف المصحف (ينظر التبيان في علوم القرآن: 49-50). المبحث الأول: المصحف الإلكتروني: حقيقته ومواصفاته بعد بسط الحديث عن مفهوم المصحف، ومعرفة خواصه، نأتي في هذا المبحث لبيان حقيقة المصحف الإلكتروني، ويجدر بنا أولاً أن نتحدث عن طرفيه قبل التركيب، ثم نتحدث عنه من حيث كونه اصطلاحًا خاصاً يطلق على نوع من المصاحف، ثم نحاول إبراز بعض مواصفاته، واستنباط حكمه العام من خلال المقارنة بين مواصفاته وخواص المصحف القرآني الورقي. أولاً: تعريف كلمة (إلكترون): لقد مرَّ في المبحث التمهيدي التعريف اللغوي والاصطلاحي للمصحف، وبقي أن نعرف كلمة (الإلكتروني). إن كلمة إلكتروني نسبة إلى الإلكترون، تلك الكلمة التي استحدثت في عام 1894م وتم اشتقاقها من المصطلح كهربي “Electric” والذي يعني أصله الإغريقي كلمة (عنبر). والإلكترون عبارة عن جُزَيْء عنصري من مكونات الذرة، يحمل شحنة عنصرية سالبة. وهو يمثل أحد الجسيمات تحت النووية (أي لا يمكن تكسيره للحصول على جسيمات أصغر). وبينما توجد معظم الإلكترونات في الذرة، فإنه قد توجد بعض الإلكترونات التي تتحرك بمفردها في المادة، أو في شكل شعاع إلكتروني في الفراغ. وعندما تتحرك الإلكترونات، بعيداً عن النواة، في شكل شبكي فإن هذا يعرف بالكهرباء أو التيار الكهربائي. وبعد تطور استعمال الكهرباء في الصناعة العالمية، احتل الإلكترون مكانة مرموقة فيها، وصارت الأجهزة التي تستخدم الإلكترونات لتشغيلها توصف بها، فصار يقال: جهاز إلكتروني، وبريد إلكتروني، وكتاب إلكتروني.. ومنه استحدث مصطلح المصحف الإلكتروني الدال على المصحف الذي استبدلت فيه الأوراق والحبر.. بشرائح وشاشات إلكترونية، ويظهر من خلالها النص القرآني وفق برامج خاصة أُعِدَّتْ لهذا الغرض (يراجع الموقعين الإلكترونيين: 20/02/2009 www.almadinh.net ، 20/02/2009 www.ar.wikipedia.org/wiki). ثانياً: تعريف المصحف الإلكتروني اصطلاحاً بعد جملة من التساؤلات والاستفسارات التي تم طرحها على بعض المتخصصين في علم الإعلام الآلي، تخصص برمجة (من هؤلاء المتخصصين المهندسان: عبد القادر دباغ وعبد الهادي بن زيطة) بخصوص ماهية المصحف الإلكتروني وحقيقته اتضح حسب رأيهم أن المصحف الإلكتروني هو: عبارة عن برنامج إلكتروني يعمل وفق مجموعة الوحدات الوظيفية، العاملة فيما بينها بأسلوب متناسق ومنظم. ويستعمل في معالجة الكلمات القرآنية وحروفها، وإظهارها مكتوبة عند طلبها، مرتبة الآيات والسور وفق ما جاءت عليه في المصحف العثماني. وتجدر الإشارة إلى أن هناك العديد من الجهود التقنية المتصلة بالمصاحف الإلكترونية، فهناك مصاحف مدخلة في هيئة صور للمصحف، وهي غالبًا ما تستعمل للقراءة والتلاوة فقط، وهي غالبًا ما تكون وفق الملف المعروف (PDF) إذ يصعب التعديل فيها. ومن أهم ما صدر من المصاحف الإلكترونية وفق هذا الأسلوبِ المصحفُ الذي نشرته وزارة الأوقاف الجزائرية، وأهم خصيصة فيه أنه يعرض الصفحات القرآنية مع إمكان سماع التلاوة للآيات المعروضة برواية ورش عن نافع. وهناك أسلوب آخر اعتمد في برامج المصاحف الإلكترونية، وهو مصاحف النشر الحاسوبي، إذ يمكن من خلال هذا البرنامج نقل الآيات القرآنية إلى ملف (Word)، كما يمكن تكبير الخط وتصغيره حسب المطلوب، وكل ذلك في غاية السهولة واليسر. ومن أهمها ما قام به مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف من إصدار لبرنامج مصحف المدينة النبوية للنشر الحاسوبي، والمناسب في هذا المصحف أن النصوص تُعامل كل كلمة كحرف في نظام خطوط خاصة بحيث تستطيع التعديل عليها وتلوينها بكل يسر وحرية، وهو يعد من الأعمال الجليلة في مجال تحسين تقنيات المصحف الإلكترونية. وقد تميز بما يلي: – إمكان إضافة آيات من القرآن الكريم للمكاتبات والوثائق الشخصية مع منح المستخدم خيارات لتنسيق النص مثل: تغيير لون وحجمه النص ليتلاءم مع الوثيقة المطبوعة. – إمكان التحكم في لون علامات الوقف ورموز الحزب والجزء وموضع السجدة. – إمكان اختيار إضافات للنص القرآني مثل: البسملة – قال تعالى – الاستعاذة – أقواس محلاة بأشكال مختلفة. – إمكان إضافة تخريج الآيات مع التحكم في مكانه من الوثيقة، والتحكم في لون الخط ونوعه. وهناك أيضًا برنامج نور للنشر الحاسوبي ويمكن من خلاله تنزيل الآيات مع أرقامها وأسماء سورها. وغير ذلك من البرامج المتداولة. وقد نزل حديثاً برنامج مكتبة سيمانور للنشر الإلكتروني، وتتضمن الروايات الأربع: حفص، قالون، ورش، الدوري عن أبي عمرو، ويمكن المستخدم من نقل الآيات إلى ملف (Word) بالرسم العثماني وفق إحدى هذه الروايات ويتضمن فهرسة موضوعية للقرآن الكريم. وغير ذلك من الجهود المبذولة في هذا الشأن. فجزى الله أصحاب هذه الجهود خيرًا. أنواع المصحف الإلكتروني: المصحف الإلكتروني أنواع ثلاثة تختلف باختلاف الملفات التي يتم بها إعداد برامج المصحف وهي: النوع الأول: مصحف بِملفّ Word يُعَدُّ هذا الملفُّ برنامجاً معالجاً للنصوص من الناحية العلمية، وهو ملف يبرمج فيه المصحف غالبًا وفق الرسم الإملائي؛ وذلك لصعوبة إدخال الحروف العثمانية الاصطلاحية بواسطته، وأهم خصيصة في هذا الملف أنه يمكن التعديل فيه بالزيادة أو النقصان بسهولة تامة، وبالتالي يسهل تعديل هيئة النص الذي أدخل أول مرة، عن طريق الإدراج والإخفاء (ينظر: أساسيات الحاسوب، ص: 195؛ والمهارات الحاسوبية، ص: 71). النوع الثاني: مصحف بِملفّ PDF وهو نوع مخصص للنشر الحاسوبي معتمد من طرف شركة أدوب، ومن فوائده تثبيت الملفات المبرمجة ببرنامج Word بعد إعدادها، بحيث لا يستطيع المتعامل مع النص أن يغير المكتوب بالزيادة أو النقصان (أساسيات الكوريل دور 10، ص: 198). ويُعَدُّ هذا النوع من الملفات أولى من النوع الأول لتحميل المصحف الإلكتروني؛ إذ لا يمكن تعديل الحروف والكلمات أو إسقاط بعضها سواء كان ذلك عن طريق الخطأ وعن طريق العمد والقصد. النوع الثالث: مصحف مصور بواسطة الماسح الضوئي وهو نوع يعتمد أساساً على تصوير الصفحة من المصحف الورقي العادي، وحفظها بذلك الشكل، ويتم من خلاله عرضها عند الطلب، وذلك عن طريق استخدام صيغة من التمييز الضوئي الذي يقوم بتحليل آلي للوثائق، بغرض تحويلها إلى طبيعة رقمية بواسطة الشعاع الضوئي الذي يمسح الوثيقة (ينظر: الحاسبات والاتصالات والإنترنت، ص: 298). وهذا النوع الأخير هو أحسن الأنواع الثلاثة؛ إذ من خلاله تتفادى الأخطاء الواقعة في المصاحف الإلكترونية، وهذا النوع يتطلب حجمًا أكبر في ذاكرة الجهاز. وقد حمّل على منتدى الشيخ المصري الإلكتروني صفحات القرآن الكريم في ملف واحد بدقة عالية جدًا. ويمكن أن يتنوع المصحف الإلكتروني بحسب الملفات التي يتم بها عرضه على أجهزة العرض إلى نوعين اثنين هما (نقاشات وحوارات مع المهندس عبد الهادي بن زيطة): النوع الأول: مصحف إلكتروني يعرض وفق نظام خاص به، ومستقل عن غيره من البرامج، ولا يمكن أن يستعمل ذلك النظام في تشغيل غير المصحف المبرمج وفقه. وهو ما يستعمل في المصاحف المستقلة في أجهزتها. النوع الثاني: مصحف إلكتروني يعرض وفق نظام عام يكون محملاً على جهاز الكومبيوتر الذي يعرض المصحف الإلكتروني من خلاله. وهو نحو المصحف المحمل على CD أو المحمل على الأقراص المرنة أو المخزن في القرص الصلب للكومبيوتر، أو المحمل على الموبايل، أو المعروض للتحميل على مواقع الإنترنت. مواصفاته: من خلال ما جرى بيني وبين بعض المتخصصين في الإعلام الآلي (المهندسان: عبد القادر دباغ وعبد الهادي بن زيطة) توصلت إلى أن المصحف الإلكتروني يتصف بالمواصفات التالية: أولاً: تُعَدُّ حروف المصحف الإلكتروني عبارة عن ذبذبات إلكترونية مشفرة، وليست حروفًا مرسومة كما في المصحف الورقي. وعليه فإنه لا يتصور فيها المس الحقيقي كما يتصور في أوراق المصحف الورقي، إذ الذبذبات الإلكترونية لا تلمس، وإنما الذي يلمس هو الشاشة التي تنعكس عليها. ثانياً: الآيات القرآنية المخزنة في ذاكرة المصحف الإلكتروني لا تكون ظاهرة إلا عند تشغيل الجهاز، وبعد طلب الآيات، وفي غير ذلك لا تكون هناك آيات ظاهرة على الشاشة. وهذا يقتضي أنه مع عدم تشغيل الجهاز لا يعد مصحفاً. ثالثاً: يتميز المصحف الإلكتروني بالسهولة في رَفْعِه وتحميله، والبساطة في فتحه وعرض السور والآيات منه، والتنوع في عرض الآيات، فهي تعرض من خلاله مكتوبة، وأحيانا ملحقة بصوت أحد القراء الذين برمجت قراءتهم فيه. حكم المصحف الإلكتروني: بعد إدراك حقيقة المصحف الإلكتروني ومعرفة مواصفاته فهل يمكن عَدُّه مصحفاً له أحكام المصحف الورقي، أو هو مجرد ملف إلكتروني مساعد على القراءة والحفظ والاسترجاع، ومعين على تعلم أحكام التلاوة فحسب، وبالتالي فهو لا يحظى بأحكام المصحف الورقي؟ ولقد كان لبعض الفقهاء المعاصرين نظر في هذه المسألة فذهب بعضهم إلى أن المصحف الإلكتروني لا يُعَدُّ مصحفاً، وإنما هو مجرد آلة يستعان بها على تذكُّر الآيات، ولا يمكن أن يأخذ أحكام المصحف بحال لأنه إذا أغلق الجهاز أو تم انتهاء البرنامج ينتهي ظهور الآيات (ينظر: منع القراءة من الجوال، أحمد بيومي، مقال إلكتروني). وذهب آخرون إلى عَدِّه مصحفاً حال التشغيل فقط؛ لأن الآيات تكون ظاهرة في هذه الحالة (ينظر: المصحف المطبوع بطريقة برايل للمكفوفين، الدكتور حسام الدين عفانة، مقال إلكتروني). ولا يمكن أن يتبين ذلك إلا بمعرفة مدى التطابق بين خواصه وخواص المصحف الورقي، وبالتأمل في ذلك يظهر ما يلي: أولاً: المصحف الإلكتروني مصحف اشتمل على القرآن الكريم كاملاً، مرتب الآيات والسور في صورته المكتوبة، وهو بهذا يكون موافقاً للمصحف الورقي المعروف. ثانياً: المصحف الإلكتروني في الغالب أدرج فيه إلى جانب القرآن الكريم بعض الموضوعات المساعدة على حسن فهم معانيه، كبعض التفاسير، والترجمات إلى لغات أخرى، وبعض أحكام التلاوة… وهذا ما جعل المصحف غير خالص للقرآن الكريم، وبهذه الإدراجات يخرج عن حد المصحف القرآني، ويلحق بكتب التفسير والفقه والحديث مما اشتملت على الآيات القرآنية. فأما إذا كان هذا المصحف خالصا للقرآن الكريم فقط دون هذه الزيادات فهو داخل في حكم المصحف. ثالثاً: المصحف الإلكتروني يعرض الآيات القرآنية بالرسم العثماني المتعارف عليه في المصاحف الورقية، إذا كان مبرمجا على ذلك. رابعاً: المصحف الإلكتروني لا تظهر فيه الآيات المصورة ولا تسمع منه الآيات المسجلة إلا حال تشغيله فقط، وفي غير ذلك لا ترى ولا تسمع شيئاً، وهذا ما يدعو إلى اعتباره كالمصحف الورقي حال تشغيله فقط، وفي غير ذلك لا يعدو أن يكون آلة إلكترونية، ويكون برنامج المصحف فيه معطلًا. ولهذه الأسباب المعتبرة في المصحف الإلكتروني فإنه لا يُعَدُّ مصحفاً إلا إذا كان محققاً لشرطين اثنين معا هما: كونه لا يشتمل إلا على القرآن الكريم مجردًا عن كل إدراجات للتفسير أو الترجمة، فإنه لا خلاف في أن الإضافات التي توضع مع المصحف الإلكتروني من ترجمات وتفسير تخرجه عن كونه مصحفًا. وأيضًا كونه في وضعية التشغيل. وأمَّا إن كان مما أدرجت فيه زيادات تفسيرية أو غيرها، وكان حال تشغيله فإنه يلحق بكتب أهل العلم المشتملة على الآيات القرآنية ككتب التفسير والفقه والحديث، فيجوز فيها ما لا يجوز في حق المصحف الشريف (ينظر: المصحف المطبوع بطريقة برايل للمكفوفين، الدكتور حسام الدين عفانة، مقال إلكتروني). هذا من ناحية عامة، وأما تفصيلاً فإن هناك بعض أحكام المصحف الورقي لا تنطبق على المصحف الإلكتروني نظرا للطبيعة الإلكترونية التي تكتنفه، ولاختلاف حقيقة كل منهما الحسية، وسيتضح ذلك في المبحث الآتي. وتجدر الإشارة إلى أن هناك بعض المصاحف الإلكترونية أُلْحقت بها تسجيلات صوتية للقرآن الكريم، بحيث تسمع الصوت القرآني المسجل بصوت أحد المقرئين حال عرض الكلمات القرآنية مكتوبة على شاشة الجهاز، وهذه التسجيلات لا تُعَدُّ من المصحف وإنما هي من الأمور المضافة إليه بغية الجمع بين الآيات المعروضة مكتوبة وبين الصوت المرتل، وأحكام هذه التسجيلات الصوتية الملحقة منفصلة عن أحكام المصحف الإلكتروني، وهي مما يضبط بأحكام قراءة القرآن، والاستماع إليها وآداب ذلك، ولا علاقة لها بأحكام المصحف الإلكتروني. المبحث الثاني: الأحكام الفقهية المستجدة للمصحف الإلكتروني بعد ما فصلنا القول في تعريف المصحف الإلكتروني ومعرفة حقيقته يخصص هذا المبحث لبيان جملة الأحكام الفقهية التي تتعلق به مراعاة لطبيعته الإلكترونية، وكيفية استغلال فوائده والانتفاع بها، دون المساس بحرمة القرآن الكريم، وما ينبغي في حقه من آداب. المسألة الأولى: حكم مس المصحف الإلكتروني للمحدث والجنب ذهب أكثر الفقهاء خلافًا للظاهرية إلى تحريم مس المصحف الورقي وحمله وتصفحه لمن كان محدثًا حدثًا أكبر، ولم يخالف في ذلك إلا الظاهرية، واختلفوا في المحدث حدثًا أصغر، فذهب الصحابة، وكثير من التابعين والأئمة الأربعة إلى تحريمه، بينما ذهب بعض التابعين إلى جوازه، وهو مذهب الظاهرية (ينظر: المغني: [1/98]، المجموع: [1/404]، والمنتقى شرح الموطأ: [1/344]، وأسنى المطالب: [1/67]). ودليل المانعين قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ . لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة:77-79] ولكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم رضي الله عنه: «لا يمس القرآن إلا طاهر» (رواه مالك في الموطأ:[1/199]. وهو حديث مرسل، لكن تلقاه جمهور العلماء بالقبول، التمهيد: [17/397]. وقال فيه ابن عبد البر: “لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث وقد روي مسندًا من وجه صالح، وهو كتاب مشهور، وعند أهل السير معروف ثم أهل العلم معرفة يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد لأنه أشبه المتواتر في مجيئه لتلقي الناس له بالقبول، ولا يصح عليهم تلقي ما لا يصح” شرح الزرقاني: [2/10]). بينما استدل المجيزون بأن (المطهرون) في الآية هم الملائكة وليسوا المؤمنين من البشر فلا يشملهم، وأما الحديث فإنه لا يصح، وبالتالي لا دليل على تحريم مس المحدث المصحف (ينظر في تفصيل الأدلة: المصادر السابقة). والراجح في هذه المسألة تحريم مس المصحف بالنسبة للمحدث حدثًا أصغر أو أكبر، وذلك لما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزام، ولتلقي الأئمة هذا الحديث بالقبول على رغم روايته مرسلاً، وكان عليه العمل عند جمهور الفقهاء. وأما بالنسبة لحكم مس المصحف الإلكتروني فإنني بعد التأمل فيما ذكره فضيلة الشيخ المحكم للبحث، وإعادة النظر فيه، تبين لي صواب ما أشار إليه، وعليه فإن المصحف الإلكتروني مهما كان نوعه لا يتصور مسه حقيقة، كما يتصور ذلك في المصحف الورقي الذي يكون مَسُّ أوراقه وحروفه بشكل مباشر، ومن دون أي حائل؛ إذ ما يظهر على شاشة المصحف الإلكتروني من كلمات قرآنية ما هو إلا ذبذبات إلكترونية معالجة وفق برنامج إلكتروني، ولا ظهور لها إلا عند انعكاسها على الشاشة، وليس مس الشاشة الزجاجية مَسّاً للمصحف الإلكتروني. وبناء على هذا فإنه لا مانع من مس أجزاء الآلة التي اشتملت على البرنامج الإلكتروني للمصحف أو حملها بالنسبة لمن كان محدثًا حدثًا أصغر أو أكبر، سواء أكان المصحف الإلكتروني حال التشغيل أم في حال الإغلاق. ويدخل في ذلك جميع أنواع المصحف الإلكتروني سواء كان محمَّلاً على الكومبيوتر أو كان مرفوعًا على شبكة الإنترنت أو كان على قرص مدمج. المسألة الثانية: جواز القراءة في المصحف الإلكتروني في الصلاة مما شاع وذاع في هذه الآونة الأخيرة استعمال الجوال والمصاحف الإلكترونية للقراءة فيها في الصلاة، ولاسيما بالنسبة لغير الحافظين في صلاة القيام والتراويح في شهر رمضان، وقد اختلف الفقهاء المعاصرون في حكم ذلك، بين قائل بالمنع، وبين قائل بالجواز (ينظر: موقع المؤتمر نت، 24/09/1007، والموقع: إسلام أون لاين: 07/09/2008). والمتأمل في هذه المسألة يجد أن الأصل في خلاف المعاصرين فيها خلاف القدامى في مسألة القراءة في المصحف، فقد ذكروا فيها أقوالا أربعة: أولها: القول بعدم جواز القراءة في الصلاة في المصحف أو في غيره، كثيرة كانت أو قليلة، سواء أكان إمامًا أم مأمومًا، إذا تعمد ذلك، وهو ما ذهب إليه ابن حزم (ينظر: المحلى بالآثار: [1/140-141]) وأبو حنيفة (ينظر المبسوط: 1/202). واستدل ابن حزم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم : «إن في الصلاة لشغلا» (رواه أبو داود [1/243]، قال ابن حجر: وأصله في الصحيحين، تلخيص الحبير [1/280])، والشاهد فيه أن الصلاة شاغلة عن كل عمل لم يأت فيه نص بإباحته، والقراءة في المصحف لم يأت بها شرع (ينظر: المحلى بالآثار: [3/141]). واستدل أبو حنيفة على عدم الجواز بعلتين، أولاهما: أن حمل المصحف وتقليب الأوراق عمل كثير، وهو ما يفسد الصلاة لأنه ليس من جنس أفعالها، وليس هناك حاجة تدعو إليه. وثانيتهما: أن ذلك يعتبر تلقينا من المصحف (ينظر المبسوط:[1/202]). ثانيهما: القول بالكراهة في صلاة الفرض مطلقًا، ورخصوا في صلاة النافلة عند أولها لا أثناءها أو آخرها، لأنه يغتفر في النافلة ما لا يغتفر في الفريضة، وهو ما ذهب إليه المالكية، وذهب إلى ذلك أيضا صاحبا أبي حنيفة أبو يوسف ومحمد إذا كان ذلك بقصد التشبه بأهل الكتاب (ينظر المبسوط: [1/202]). ثالثها: القول بالجواز مطلقاً، وهو قول الشافعي (ينظر المجموع: 4/28) الذي استدل بما روي أن عائشة رضي الله عنها كان لها مولى يدعى ذكوان وكان يؤم الناس في رمضان، وكان يقرأ من المصحف (رواه ابن أبي داود في المصاحف [2/656]، قال ابن حجر: أثر صحيح، تغليق التعليق [2/291])، واستدل بالمعقول أيضًا بأن النظر في المصحف عبادة، والقراءة عبادة، وانضمام العبادة إلى العبادة لا يوجب الفساد، ورد حجة من زعم أن القراءة في المصحف في الصلاة تشبه باليهود بأن النهي عن ذلك ليس في كل شيء، فإنه يباح أكل ما يأكلون (بدائع الصنائع[1/238]). رابعها: القول بالكراهة في الفرض والجواز في النافلة، وقد ذهب إلى ذلك الإمام أحمد، غير أنه كرهه في الفرض لعدم الحاجة إليه فقال: “لا بأس أن يصلي بالناس القيام وهو ينظر في المصحف. قيل له: في الفريضة؟ قال: لا، لم أسمع فيه شيئًا” (المغني: 1/336). ويظهر أن الراجح في هذه المسألة القول بجواز القراءة في الصلاة النافلة في المصحف، لما ثبت من فعل مولى عائشة رضي الله عنهما ولم يثبت أنه اعترض عليه في ذلك، ولأن ذلك ممكن وقوعه في الصلاة بعمل يسير يتمثل في إمساك المصحف باليد، و تقليب الصفحات بالأخرى، وليس نحو هذا العمل اليسير أن يبطل الصلاة عند الجمهور، ولأن العادة تقضي أنه مما يحتاج إليه، ويرغب الناس في سماع القرآن وقراءته كله أو أكثره في الصلاة خاصة في رمضان وعند القيام. ويكره في الفريضة لأن الحاجة لا تدعو إليه، والعادة لا تقتضيه، ولأن الآثار لم تأت به فيها. وبناء على هذا التفصيل في أقوال الفقهاء، وبيان الراجح منها، يتبين أن القراءة في المصحف الإلكتروني في الصلاة النافلة كالقيام والتراويح في شهر رمضان جائزة، وأن الصلاة تقع بذلك صحيحة، سواء كان المصحف الإلكتروني محملاً على الجوال أو مصحفًا مستقلاً أو غيره، وذلك لأن القارئ فيه لا يحتاج إلى كثير من الحركات ليقوم بتشغيله، وتمرير صفحاته. ومع صغر حجمه، وخفة وزنه، ووضوح كتابته يمكن الإمساك به وتمرير صفحاته في سهولة ويسر، وليس هذا العمل اليسير من شأنه أن يبطل الصلاة. وتكره القراءة في المصحف الإلكتروني في الصلاة المفروضة؛ لأنه لا يحتاج إليها عادة، إذ لا يُكَلَّف المصلي أن يقرأ في الصلاة إلا بما يحفظ من الآيات. أما إذا كان المصحف الإلكتروني يحتاج تشغيله وتمرير صفحاته إلى عمل كثير ولوقت معتبر يشغل المصلي عن صلاته، ويفقده التدبر والخشوع فيها، لا يمكن اغتفار ذلك في الصلاة، وبالتالي فإنه لا تجوز القراءة فيه أثناءها، وإذا ما تم ذلك كانت الصلاة باطلة كما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة. ولعل قائلاً يقول إن الرخصة قد وردت في المصحف الورقي، ولا قياس على رخصة، والجواب أن المصحف الإلكتروني حال تشغيله يعتبر مصحفًا وهو داخل في الرخصة؛ إذ لا فرق بين القراءة فيه وبين القراءة في المصحف الورقي حتى يكون لها حكم آخر. وأيضاً نجد العلة في المسألتين واحدة؛ إذ القياس على الرخصة جائز إذا فهمت العلة (ينظر: شرح منتهى الإرادات: 2/69).
(المصدر: طريق الإسلام)