بقلم فتحي أبو الورد
المصائب الحداثية
ردًّا على المصائب الفقهية للدكتور الشنقيطى
انتشرت تغر يدة على موقع تويتر للدكتور محمد المختار الشنقيطى تقول :
قبل تطبيق الشريعة يجب أن نتخلص من المصائب الفقهية المناقضة لبدهيات القرآن وفطرة الإنسان مثل رجم الزانى وقتل المرتد وفقه أهل الذمة وفقه الرق .
والحق أن للرجل كتابات نافعة ومفيدة ومواقف طيبة محمودة من قضايا الإسلام والمسلمين إلا أن التوفيق قد جانبه فيما قال حيث جاءت التغريدة صادمة وفجة، ولذلك جلبت عليه نقد الكثيرين من أهل العلم بل ومن عموم المثقفين، وهو ما ظهر فى الردود عليه على تويتر.
ولا ندرى لمن يوجه حديثه فى هذه التغريدة :
أهو موجه لجمهور الحداثيين والمتغربين بدافع تحسين صورة الإسلام أمامهم؟ إذا كان الأمر كذلك فحتما سيتقبلونه بقبول حسن وسيطالبون بالمزيد .
أم أنه موجه إلى العلماء والفقهاء ؟ فإذا كان الأمر كذلك فقد ساءتهم هذه الصياغة وتلك اللهجة، ليس لكون وصفه لما ورد عن الفقهاء القدامى بالمصائب الفقهية، أو لأنهم معصومون؛ بل لأن الفقه فى القضايا المطروحة ليس اجتهادا من الفقهاء فى منطقة الفراغ التشريعى أو منطقة العفو كما يسميها شيخنا القرضاوى التى يملؤها الفقهاء فى ضوء المقاصد العامة للشريعة والأصول الفقهية ، أو منطقة السكوت التشريعى كما يسميها أستاذنا الدكتور العوا، والتى تهدف في بعض مقاصدها إلى ترك الحرية للأمة في تنظيم شؤون حياتها.. ليس الفقه فى القضايا المطروحة من هذا القبيل حتى يمكن أن يكون لكلامه مساغ أو مبرر؛ بل لأن الفقه في القضايا المطروحة إنما هو أحكام مستندة إلى عشرات النصوص من السنة بلغ بعضها حد التواتر اللفظى، أو التواتر المعنوى على أقل تقدير مثل ثبوت الرجم للزانى المحصن .
فضلا عن كون التغريدة الصادمة لم تقدم اجتهادا معتبرا مصحوبا بالدليل يمكن أن ينظر فيه ويناقش، ويؤخذ منه ويرد عليه ؛ بل مقتضاها إهالة التراب على عشرات النصوص من السنة بجرة قلم، حتى وإن تحاشت التغريدة هذه الحقيقة فنسبت الأمر للفقهاء.
وفى صحيح الفهم والفقه قبل أن ننادى بتطبيق الشريعة ونقول: اقطعوا يد السارق، واجلدوا الزانى، وعاقبوا المرتدين والسكارى نقول: أطلقوا الحريات، ودعوا الناس يعبروا عن أنفسهم فى مناخ آمن، وأطلقوا سراح سجناء الرأى، أطعموا الجياع، وداووا المرضى، وحلوا مشكلة البطالة، واقضوا على العنوسة، أكرموا أعظم مخلوق فى عالم الوجود فهذا جوهر رسالة الإسلام.
عند تطبيق الشريعة ستكون هناك أولويات أمام أية حكومة تعمل على الإصلاح والتغيير التدريجى أهمها: كفاية حاجات الناس من المطعم والمشرب والملبس، وستكون أهم قضاياها التعليم والصحة والبحث العلمى والاقتصاد والتربية وربط الناس بخالقهم وغيرها ، وستتأخر حتما قضية العقوبات فى سلم الأولويات بعض الوقت، ريثما تأتلف النفوس أحكام الشريعة وترى مزاياها قيما ومبادئ وتشريعات. وغنى عن البيان أن الإسلام ليس كله قوانين، والقوانين ليست كلها حدودا ، والقوانين وحدها لا تصنع مجتمعا.
وهذه الجرأة البادية فى التغريدة تردنا إلى قضية أساسية ألا وهى موقف صاحب التغريدة من السنة المنشئة، فمن المعلوم أن السنة لا تعارض القرآن، بل تخصص عامه، وتقيد مطلقه، وتفصل مجمله. ومن المقرر لدى الأصوليين أن السنة المنشئة نوع من أنواع السنة، وهى التى تنشىء حكما جديدا لم يرد فى القرآن. وقد أوجب الله تعالى طاعة نبيه فيما يأمر وينهى، وطاعته تجب منفردة، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) النساء 59، وقال: (من يطع الرسول فقد أطاع الله) النساء 80. قال الإمام الشافعى فى الرسالة: ( فرض الله فى كتابه طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم فمن قبل عن رسول الله فبفرض الله قبل).
وفى ضوء هذا الأصل فقد ثبتت أحكام كثيرة بالسنة وحدها منها عقوبة الزانى المحصن وعقوبة المرتد .
وقد أوضح ابن القيم أن السنة مع القرآن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن تكون موافقة له من كل وجه فيكون توارد القرآن والسنة على الحكم الواحد من باب توارد الأدلة وتضافرها.
الثانى: أن تكون بيانًا لما أريد بالقرآن وتفسيرًا له.
الثالث: أن تكون موجبة لحكم سكت القرآن عن إيجابه أو محرمة لما سكت القرآن عن تحريمه ولا تخرج عن هذه الأقسام فلا تعارض القرآن بوجه ما.
ثم عقب على ذلك بقوله: (فما كان منها ـ السنة ـ زائدًا على القرآن فهو تشريع مبتدأ من النبى صلى الله عليه وسلم تجب طاعته فيه، ولا تحل معصيته وليس هذا تقديمًا لها على كتاب الله بل امتثال لما أمر الله به من طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم) ثم قال (ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطاع فى هذا القسم لم يكن لطاعته معنى، وسقطت طاعته المختصة به، وإذا لم تجب طاعته فيما وافق القرآن لا فيما زاد عليه لم يكن له طاعة خاصة تختص به، وقد قال الله تعالى: ” مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ ” النساء 80 .
وقد دافع عن الأحكام الثابتة بالسنة الزائدة على ما فى الكتاب وقال: (كيف يمكن لأحد من أهل العلم أن لا يقبل حديثًا زائدًا على كتاب الله، فلا يقبل حديث تحريم المرأة على عمتها ولا على خالتها، ولا حديث التحريم بالرضاعة لكل ما يحرم من النسب، ولاحديث خيار الشرط، ولا أحاديث الشفعة، ولا حديث ميراث الجدة، ولا حديث تخيير الأمة إذا أعتقت تحت زوجها، ولا حديث منع الحائض من الصوم والصلاة، ولا حديث وجوب الكفارة على من جامع فى نهار رمضان، ولا أحاديث إحداد المتوفى عنها زوجها مع زيادتها على ما فى القرآن من العدة ).
وقد أورد ابن القيم سيلاً من الأمثلة للأحكام الثابتة بالسنة والزائدة على ما فى كتاب الله ثم قال:(أحكام السنة التى ليست فى القرآن إن لم تكن أكثر منها لم تنقص عنها، فلو ساغ لنا رد كل سنة زائدة على نص القرآن لبطلت سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها إلا سنة دل عليها القرآن).
فما موقف صاحب التغريدة من عقوبتى الرجم والردة الثابتتين بالسنة سواء كانتا عقوبتين حديتين أم تعزيريتين كما هو رأى بعض الفقهاء المعاصرين ؟
أما الرد على قضايا الرجم والردة والجزية فهذا ما أتناوله بالتفصيل فى مقالات قادمة إذا كان فى العمر بقية إن شاء الله .
فارق كبير بين فقيه مجتهد مثل الشيخ الزرقا حين طرح اجتهادا عقوبة الزانى المحصن فى ليبيا حين كانت تتجه – في ظاهرها – إلى تقنين العقوبات وفق احكام الشريعة قبل أربعين سنة، فذهب إلى أن عقوبة الرجم للزانى المحصن تعزيرية مدعما رأيه بالأدلة، ولم ينكر ثبوت الرجم، واستدرك بأنه إذا لم يكن ذلك الاجتهاد مقبولا فدعا إلى تأجيل تقنين عقوبة الرجم وقتها حتى تأتلف النفوس أحكام الشريعة وتطبق لاحقا، وكى لا تثير العقوبة حفائظ خصومنا المتربصين بالإسلام والمسلمين. وقد أيد هذا الرأى الشيخ القرضاوى.. أقول فارق كبير بين اجتهاد كهذا يراعى مصلحة الإسلام والمسلمين ويراعى الواقع دونما إنكار لما ثبت قطعا وبين من ينكر ثبوته ويدعو إلى التخلص منه باعتباره مصيبة فقهية !!
وفارق كبير بين فقهاء معاصرين تناولوا فقه غير المسلمين ( فقه أهل الذمة) بالنظر والبحث والغربلة فى ضوء قطعيات الشريعة وأصولها العامة، وفى ضوء الواقع والتطور الحادث في شكل الدولة الحديث والأنظمة المعاصرة ومفهوم المواطنة أمثال الدكتور عبد الكريم زيدان فى كتابه ( أحكام الذميين والمستأمنين ) وأستاذنا الدكتور محمد سليم العوا فى كتابه ( فى النظام السياسى للدولة الإسلامية ) وشيخنا الدكتور يوسف القرضاوى فى كتابه ( غير المسلمين فى المجتمع الإسلامى ) حيث غربلوا أقوال الفقهاء غير المعصومة من تفاصيل ربما ناسبت زمانها ولم تعد مناسبة لزماننا، أو كانت وجهة نظر لمن رآها تلزمه ولا تلزمنا، ثم خرجوا لنا بمنظومة حضارية إنسانية فى حقوق وواجبات غير المسلمين فى المجتمعات الإسلامية من واقع التراث الفقهى نفسه ، فارق كبير بين أمثال هؤلاء وبين من يهيل التراب على تراثنا في هذا الباب المذكور، ويريد التخلص منه لأنه مصيبة من المصائب الفقهية.
وفارق كبير بين ما ذهب إليه بعض الفقهاء المعاصرين مثل الشيخ محمود شلتوت والدكتور محمد سليم العوا وغيرهم من أن عقوبة المرتد تعزيرية وليست حدية خلافا لما كان عليه جمهور الفقهاء القدامى، اجتهادا في فهم النصوص الواردة في الباب، مع الاتفاق على كون الردة جريمة عند جميع المذاهب الإسلامية المتبوعة، وبين من يعتبر عقوبة المرتد حدا أو تعزيرا مصيبة من المصائب الفقهية .
من المقبول والمعقول أن نقدر الدوافع الحميدة وراء هذه التغريدة وإن جانبها الصواب فى التعبير ، وأن نبصر الواقع الذى تحياه الأمة، وحالة الضعف التى وصلت إليها، وحجم التحديات المعاصرة التى تواجه شريعة الإسلام وأهلها ، فنقول : إن الواقع لا يتحمل تطبيق بعض التشريعات فى الفقه الجنائى فى حال كان هناك توجه بالفعل نحو تطبيق الشريعة فى بلد ما، ليس فقط فى عقوبتى الزانى المحصن والمرتد الثابتتين بالسنة المشرفة، سواء كانتا حديتين أو تعزيريتين واللتين ذكرتا فى التغريدة؛ بل أكثر من ذلك لنضم إليهما عقوبة السرقة الثابتة بالنص القرآنى، من المقبول والمعقول ان نقدر هذا فنوصى بتأجيل تطبيقها جميعا عملا بنظام التدرج فى تطبيق أحكام الإسلام ريثما تأتلف النفوس أحكام الشريعة وترى مزاياها، وحتى لا نفتح الباب على مصراعية لخصوم الشريعة لمهاجمتها بدعوى أنها لا تتفق مع المفاهيم العالمية اليوم للعقوبة، وهو ما علل به الشيخ مصطفى الزرقا تأجيل النص على عقوبة الرجم للزانى المحصن.
ولا ننسى في هذا المقام ما روته السيدة عائشة فيما أخرجه البخارى:(إنما نزل أول ما نزل من القرآن سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شىء لا تشربوا الخمر لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنى أبدًا ).
وحينئذ نقول: هذا هو ما نستطيعه، لأن مدار الشريعة كلها على العمل بقدر الوسع، كما قال ابن تيمية (مدار الشريعة على قوله تعالى: ?فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ ? التغابن 16 ، المفسر لقوله تعالى: {اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ }آل عمران 102. وعلى قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخارى :” إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم”.