المشروع النَّووي الإيراني وحقيقة تهديده لأمن إسرائيل 2من 8
إعداد د. محمد عبد المحسن مصطفى عبد الرحمن
حقيقة وقوع حرب بين أمريكا وإيران
يتناول الدُّكتور عزَّت السَّيد أحمد ما يثار عن الحرب المحتملة بين أمريكا وإيران، أو بمعنى أدقّ شنّ أمريكا الحرب على إيران، فتردَّ الأخيرة بضرب أهداف أمريكيَّة في الخليج، وليس بتوجيه ضربة في العمق الأمريكي. في البداية، يشدّد أحمد على أنَّ العقوبات الاقتصاديَّة الأمريكيَّة على نظام الملالي ليست سوى ادّعاء واهٍ لوجود ردّ فعْل أمريكي تجاه النَّشاط النَّووي الإيراني، متسائلًا: “أتجهل أمريكا أنَّ هذه العقوبات لعبة كوميديَّة لا تُسقط أنظمة ولا تزعزعها ولا تعكّر مزاجها أبدًا؟” (صـ58). يرى المفكّر السُّوري استحالة حدوث حرب مباشرة بين إيران وأمريكا، وما كان تفجير النَّاقلات والإيحاء بأنَّ الحرب صارت وشيكة والاستعدادات العسكريَّة المكثَّفة إلَّا بهدف إثارة الرَّأي العام وإلهائه عن واقع الأحداث في الدُّول العربيَّة الَّتي تتعرَّض إلى هجوم مكثَّف وتعاني من ويلات الحرب منذ سنين. ولعلَّ أكبر فائدة حصل على نظام الملالي من ذلك التَّصعيد والتَّهديد المتبادل هي تلميع صورته في الإعلام وتثبيت ما يُشاع عن تزعُّمه معسكر المقاومة والممانعة ضدَّ أمريكا وحليفتها إسرائيل؛ فيقتنع المغيَّبون من المسلمين ببطولة إيران الواهية، ممَّا يخدم مساعي نشْر التَّشيُّع، تمهيدًا لتأسيس الحكومة الإسلاميَّة العالميَّة، الَّتي نادى الخميني بها منذ مطلع سبعينات القرن الماضي. ويجدر التَّنبيه في هذا السّياق إلى أنَّ الرَّئيس الإيراني، حسن روحاني، قد صرَّح قبل سنوات بأنَّ مذهب الشّيعة هو النَّموذج الصَّحيح للإسلام.
وتشمل مسرحيَّة ادّعاء بطولة إيران وتهديدها للسّيادة الأمريكيَّة مشهد إسقاط إيران لطائرة استطلاع أمريكيَّة بدون طيَّار، من طراز MQ-4، تبلغ قيمتها 120 مليون دولار، في 20 يونيو 2019م. بالطَّبع، ما كانت إيران لتجرؤ على ارتكاب حماقة مثل تلك دون إذن أمريكي مُسبق، لا سيّما في ظلّ حالة التَّوتُّر الَّتي صاحبت تفجير النَّاقلات النَّفطيَّة في الخليج، ومع انتظار أمريكا لأيّ ذريعة تبرّر شنّها حربًا على إيران، كما كانت وسائل الإعلام تزعم. وبرغم ترقُّب الجميع ماهيَّة ردَّة الفعل الأمريكيَّة على ذلك التَّجاوز الكبير من طرف إيران، جاءت المفاجأة بأن امتنعت أمريكا عن تسديد ضربة موجعة لنظام الملالي، كما كان يتوقَّع المفكّر السُّوري، الَّذي علَّق فور ورود نبأ إسقاط الطَّائرة بقوله “لو لم تكن إيران وإسرائيل وأمريكا ذراعًا واحدًا، لقامت أمريكا بمسح إيران من الوجود” (صـ63). وكانت المفاجأة هي صدْق توقُّع المفكّر السّياسي بألَّا يجاوز الرَّد الأمريكي على إدانات وتهديدات عبر شبكة تويتر، حيث صرَّح الرَّئيس الأمريكي بأنَّ إسقاط إيران للطَّائرة الاستطلاعيَّة كان بالخطأ، برغم تعمُّد نظام الملالي بالتَّفاخر عبر وسائل الإعلام بإسقاطه الطَّائرة الَّتي اخترقت أجواءه، وإعفائه عن أخرى استجاب طاقمها للتَّهديد. وما كان من إدارة ترامب إلَّا أنَّها فرضت مزيدًا من العقوبات على قادة إيران، من بينهم علي خامنئي ذاته وبعض كبار المسؤولين.
يتبيَّن ممَّا سبق أنَّ إيران تُرسم لها صورة وهميَّة في الإعلام العربي قبل الغربي بوصفها القوَّة الإسلاميَّة الوحيدة القادرة على إخافة أمريكا، لدرجة تحريك الأخيرة بوارجها وطائراتها للتَّصدّي لخطر الوجود الإيراني في منطقة الخليج. على ذلك، يبدو أنَّ الهدف من تلك المسرحيَّة الهزليَّة هو أن يترسَّخ في أذهان العامَّة أنَّ إيران “هي الإسلام المقاوِم للوجود الصُّهيوني، هي الإسلام الَّذي يهدّد الغرب ويزرع في قلبه الرُّعب، هي الإسلام الحقيقي” (صـ77). ويتَّضح أنَّ الحرب الشَّعواء على السُّنَّة النَّبويَّة، الَّتي تنقل للمسلمين ما لم يتضمنه القرآن الكريم عن العقيدة الإيمانيَّة والأحكام الشَّرعيَّة، وكأنَّما المقصود من ذلك إزاحة المذهب السُّنّي من الوجود، ليُفسح المجال أمام المذهب الشّيعي، بكلّ ما يحمله من عقائد باطنيَّة لا تمتُّ لصحيح السُّنَّة بصلة. لا يستبعد الدُّكتور عزَّت السَّيد أحمد أن يكون المذهب الشّيعي، الَّذي نشأ على الاعتقاد في ظهور قائم آل البيت وتأسيسه دولة عالميَّة كما نشأت اليهوديَّة والمسيحيَّة على الاعتقاد في ظهور مخلّص ينحدر من آل داود ليؤدّي ذات المهمَّة، هو نموذج الإسلام الوسطي المعتدل الَّذي طالما تشدَّق الغرب بضرورة تعميمه.
ويتَّفق المفكّر الكبير مع الباحث فادي شاميَّة فيما طرحه الأخير في مقالة “المشروع الإيراني في ضوء الثَّورات العربيَّة: ثوابت ومتغيرات…حالة: تونس-مصر–ليبيا-اليمن-سوريا” (2013)، عن أنَّ موقف دولة الملالي من الثَّورة السُّوريَّة كشف زيف ادّعاءات ذلك النّظام العنصري القمعي عن نُصرة المقهورين وإغاثة المعوزين. يعني ذلك أنَّ انتهاء الأحداث الدَّمويَّة في سوريا حتمي؛ لكي يتسنَّى لنظام الملالي استعادة مكانته لدى الواهمين من أبناء الإسلام الَّذين اخدعوا بصدق ريادته لمقاومة الاحتلال الإسرائيلي والهيمنة الأمريكيَّة. يُرسم لإيران صورة الدَّولة الثَّابتة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والاستعمار الأمريكي؛ فيظنَّ السُّذَّج أنَّ ما يُشاع عنها من أنَّها تهديد لأمن المنطقة وسعيها إلى فرْض هيمنتها على العالم الإسلامي من خلال عقائد المذهب الشّيعي محاولة رخيصة لتشويه سمعتها. وما يحذّر السَّيد أحمد هو (صـ78):
إقناع المسلمين بأنَّ إيران والشّيعة هي الإسلام الحقيقي الصَّادق المتمسّك بالثَّوابت، ومن ثمَّ دفْع المسلمين للتَّشيُّع، وقد ساعدهم في ذلك الحُكَّام العرب بارتمائهم الصَّريح في حضن إسرائيل…الأمر الَّذي سيحدو بجماهير المسلمين رويدًا رويدًا إلى الارتماء في الحضن الإيراني والشّيعي. وفي الوقت ذاته، سيتم تسويق الدّين الإيراني في الغرب على أنَّه الإسلام الحقيقي المعتدل من أجل استقطاب الدَّاخلين إلى الإسلام…عند ذلك لن يخافوا من أسلمة أوروبا وأمريكا.
“مقتل قاسم سليماني” وهدفه الفعلي
يختلف السَّيّد أحمد مع الرَّأي العام السَّائد بشأن مقتل قاسم سليماني، القائد العسكري البارز في الحرس الثَّوري الإيراني وثاني أقوى رجل في نظام الملالي، الَّذي اعتبر أنَّ اغتيال سليماني سيكون بمثابة شرارة البداية لمواجهة حربيَّة بين أمريكا وإيران، ربَّما تتطوَّر إلى حرب عالميَّة. في حين يرى المفكّر السُّوري أنَّ ما سبق عمليَّة الاغتيال، الَّتي طالت ما يقرب من عشرين من كبار قادة الحرس الثَّوري الإيراني، من تصريحات أمريكيَّة، على لسان رئيسها، عن عدم رغبة الإدارة الحاكمة في خوض حرب مع إيران، يثبت أنَّ عمليَّة الاغتيال لم تكن بهدف إشعال حرب، إنَّما لهدف آخر. لم تتوقَّف وسائل الإعلام عن بثّ الأخبار عن وجود حالة استنفار لدى الجانبين، واستعداد كلّ منهما للتَّصدّي لهجمات الآخر، ولكن وُضع الجانبان في حرج كبير بعد أن مرَّ وقت طويل دون تحرُّك يُذكر في هذا الصَّدد. والتَّفسير المنطقي لاغتيال سليماني هو إمَّا أنَّه حدث بالصُّدفة، وكان آخرون هم المستهدفين من القصف، أو أنَّ ذلك السّيناريو وُضع ليكون بمثابة انتقام أمريكي من المليشيات الإيرانيَّة الَّتي اقتحمت سفارتها في بغداد في 31 ديسمبر 2019م؛ لكي تحفظ أمريكا هيبتها، بينما لم يُقتل سليماني حقًا، بل اختفى كما اختفى من قبل المعمَّم الشّيعي الإيراني-اللبناني، موسى الصَّدر، في أغسطس من عام 1978م، قبل أشهر من اندلاع الثَّورة الخمينيَّة.
يعتبر السَّيّد أحمد أنَّ ما أشاعه الإعلام الأمريكي عن تلطُّخ أيدي سليماني بدم المئات من الجنود الأمريكيين في العراق لم يكن سوى جزء من المسرحيَّة الهزليَّة لستر حقيقة أنَّ القوَّات الشّيعيَّة لم ترتكب عملًا عدائيًّا واحدًا تجاه القوَّات الأمريكيَّة في العراق، منذ غزوها عام 2003م، حتَّى عام 2020م. أمَّا عن السَّبب، فهو تحريم علي السّيستاني، المرجع الدّيني الأعلى للطَّائفة الاثني عشريَّة في العراق، قتال الأمريكيين، وإن كانوا غزاة، وقد التزمت الميليشيَّات الشّيعيَّة بذلك منذ عام الغزو. يصرُّ المفكّر السُّوري على أنَّ اغتيال سليماني لم يكن أبدًا انقلابًا في العلاقات الأمريكيَّة-الإيرانيَّة، كما لم يكن لشنّ مواجهة عسكريَّة، إنَّما هدفه الأساسي كان تثبيت فكرة وجود عداء بين الطَّرفين، وحشْد التَّأييد الشَّعبي لإيران، الَّتي تعرَّض أحد كبار قادتها للاغتيال لصمود بلاده في مواجهة الغطرسة الأمريكيَّة. تعاظمت صورة الصُّمود الإيراني في وجه أمريكا من خلال ما أدلى به كبار مسؤوليها من تصريحات تدين تصرُّف ترامب وتنذر بمواجهة عنيفة مع إيران، في مزيد من التَّأكيد على تفوُّقها العسكري. ويقف السَّيّد أحمد عند تقاعُس الإدارة الأمريكيَّة عن توجيه ترسانتها إلى إيران أو شيعة العراق، متسائلًا (صـ115):
بدا لنا ممَّا سبق أنَّ المؤسَّسة الرَّسميَّة الأمريكيَّة…لم تقبل ولن تقبل، ولم تسمح ولن تسمح بأيّ عدوان على إيران ولا بنشوب حرب ضدَّها، لماذا…لماذا مع إيران تحديدًا تكون هذه المخاوف، في الوقت الَّذي يقتل فيه الأمريكيون المدنيين والأبرياء في سوريا والعراق واليمن وأفغانستان بلا شفقة ولا رحمة ولا أدنى حدود الإنسانيَّة؟
ومن المثير للتَّساؤل كذلك سرّ اختيار مطلع يناير من عام 2020م، وقبيل الإعلان عن صفقة القرن نهاية الشَّهر ذاته، وهو الَّذي تُرك قرابة 9 سنوات يرتكب كافَّة المجازر في حقّ المدنيين في العراق واليمن وسوريا، وكأنَّما كانت مهمَّته هي تصفية الثَّورات في تلك البلدان. وتجيب صحيفة هآرتس الإسرائيليَّة عن ذلك، في مقال نشرته في يوليو 2015م، قالت فيه عن سليماني أنَّه “الشَّريك الخفيّ للولايات المتَّحدة في الحرب الَّتي تشنُّها على الجماعات السُّنيَّة الجهاديَّة”؛ حيث أنَّ “الإدارة الأمريكيَّة لم تجد أفضل من سليماني في الحرب الَّتي تشنُّها على الحركات الجهاديَّة، في كلٍّ من العراق وسوريا ولبنان”، نقلًا عن السَّيّد أحمد (صـ121). يُفهم من ذلك أنَّ خروج سليماني من المشهد في ذلك التَّوقيت كان يعني انتهاء دوره في التَّنكيل بالحركات السُّنّيَّة المنتفضة ضدَّ الأنظمة العملية لأمريكا، إيذانًا بالدُّخول إلى مرحلة جديدة في حرب أمريكا وإيران المشتركة على الإسلام وأهله. ويصرُّ المفكّر السُّوري على أنَّ مقتل سليماني تمَّ، لا محالة، “بالتَّوافقيَّة المُسبَّقة بين إيران والأمريكان”، مقترحًا عدَّة أسباب ممكنة لذلك، من بينها وضْع حدٍّ لنفوذ قائد فيلق القُدس، وإعادة رسْم الصُّورة الإيجابيَّة عن نظام الملالي، بوصفه قائد معسكر المقاومة. غير أنَّ ثمَّة احتمال لم يشر إليه المفكّر السّياسي المخضرم، وهو أنَّ التَّصفية لم تكن سوى مشهد من فيلم حركي ظهر للعيان لقطات منه، ولم تُنشر لسليماني أيَّة صورة تُظهر وجهه بعد مقتل، إنَّما نُشرت صورة تظهر جثَّة ملقاة، في أحد أصابعها خاتم مثل الَّذي كان يرتديه سليماني، وكأنَّما تلك الصُّورة هي دليل مقتله!
على كلّ حالٍ، وبغضّ النَّظر عن المصير الحقيقي لسليماني، الَّذي قد لا يختلف عن مصير موسى الصَّدر المختفي منذ عام 1978م، فالتَّفسير المنطقي لتسليط الإعلام الضَّوء على عمليَّة الاغتيال تلك هو استعادة النَّظرة الإيجابيَّة لدى المسلمين تجاه إيران، بعد أعوام من المشاركة في أعمال التَّقتيل والتَّشريد في حقّ أهل السُّنَّة، تزامنًا مع تسابُق الأنظمة العربيَّة للتَّطبيع مع إسرائيل؛ لتعود إيران خير مَن يدافع عن قضايا الأمَّة الإسلاميَّة. ومن الملفت أنَّ عمليَّة الاغتيال تلك جاءت بالتَّزامن مع المطالبة بخروج القوَّات الأجنبيَّة من العراق، وعلى رأسها الأمريكيَّة؛ وكان من الضَّروري إيجاد مبرّر لبقاء أمريكا في العراق، وهو إحداث مزيد من الفوضى والصّراعات الدَّمويَّة، بينما السَّبب الحقيقي للبقاء هو إحكام السَّيطرة على النَّفط العراقي وفرْض رقابة على خطّ إمداد الطَّاقة إلى الشَّام. وما يُثبت أنَّ الاغتيال وُظّف لأسباب آنيَّة أنَّ سليماني كان على قائمة الاغتيالات الأمريكيَّة منذ عهد جورج بوش الابن (يناير 2001-يناير 2009م)، أي من قبل التَّنفيذ بفترة طويلة، ممَّا يعني أنَّ الوضع القائم في العراق حينها هو الَّذي استجوب إحداث تلك الفرقعة لتبرير بقاء القوَّات الأمريكيَّة هناك. وبالفعل، صرَّح ترامب في أعقاب اغتيال سليماني بأنَّ انسحاب قوَّات بلاده في العراق سيفضى إلى مزيد من العواقب الوخيمة.
أثار مقتل سليماني يوم 3 يناير 2020م مخاوف العديد من القوى الإقليميَّة من أن يفضي الحادث إلى حرب واسعة تكون دول الخليج أكبر المتضرّرين منها. من ثمَّ، سارعت السَّعوديَّة، الَّتي يصوّرها الإعلام على أنَّها أشدُّ المحرّضين على توجيه أمريكا ضربة لإيران على الأقل لتدمير برنامجها النَّووي، بمناشدة اللاعبين الإقليميين لإثناء أمريكا عن أيّ خطوات تصعيديَّة تُحدث مزيدًا من الاستفزاز. في حين أعلنت إسرائيل أنَّها بمنأى عن أيّ حرب تشنُّها أمريكا، إن اتَّخذت قرارًا بذلك، وهي الَّتي لا تفوّت فرصة دون إثارة المخاوف من النَّشاط النَّووي الإيراني وإمكانيَّة تطوير نظام الملالي أسلحة تدميريَّة. ولم يختلف موقف كلّ من الكويت والأردن عن ذلك؛ حيث راحت كلٌّ منهما تعرض الوساطة لتهدئة النّزاع ومنْع التَّصعيد. ويفسّر السَّيّد أحمد ذلك التَّسابق على تهدئة الأمور والحيلولة دون وقوع حرب بأنَّه لم تكن هناك احتماليَّة لنشوب حرب من الأصل، وأنَّ جهود الوساطة تلك كانت ضمن سيناريو التّهدئة بعد أن أُنجر الهدف الحقيقي من اغتيال سليماني. ويتساءل المفكّر الكبير (صـ144):
لماذا لم تظهر مشاعر الخوف ومساعي الوساطة هذه في الحروب الدَّائرة الآن تحديدًا، ولا أعود إلى الماضي: في سوريا، في اليمن، في ليبيا، في الصّين ضدَّ المسلمين، في ميانمار ضدَّ المسلمين، في جمهوريَّة إفريقيا الوسطى ضدَّ المسلمين؟!… الحقيقة أنَّ بعض هذه الدُّول الَّتي تناطح في التَّخوُّف والوساطة تعرف الحقيقة، وقليل يجهلها، وكثير شركاء في المؤامرة…المؤامرة هي معرفتهم باستحالة وقوع حرب بين الطَّرفين واشتراكهم في المؤامرة التَّضليليَّة الَّتي تريد أن توحي بوجود صراع بين أمريكا وإيران.
وبعد حبْس الأنفاس ترقُّبًا لردّ الفعل الإيراني تجاه اغتيال سليماني، تمخَّض الجمل عن فأر، بأن نشرت وسائل الإعلام الإيرانيَّة عن شنّ هجوم صاروخي إيراني على قاعدة عين الأسد في الأنبار، غربي العراق، أسفر عن مقتل 80 جنديًّا أمريكيًّا، بالإضافة إلى إلحاق الضَّرر بالعتاد العسكري الأمريكي في تلك القاعدة. وقد عقَّب وزير الخارجيَّة الإيراني، محمَّد جوَّاد ظريف، على الحدث بإعلانه إتمام عمليَّة الانتقام لمقتل سليماني. والمفارقة أنَّ الرَّئيس الأمريكي قد أعلن امتناع بلاده عن الرَّدّ على تصرُّف إيران الطَّائش، بحجَّة أنَّ الهجوم لم يصب أيًّا من الجنود الأمريكان في العراق. من جديد، يوحي الرَّئيس الأمريكي بتجنُّب إدارة التَّصادم مع نظام الملالي، في تأكيد ضمني لقدراته العسكريَّة الرَّادعة. وما يثبت كذب ترامب أنَّ التَّحالف الدُّولي متعدّد الجنسيَّات في العراق أكَّد سقوط ضحايا من القوَّات الأمريكيَّة يُقدَّر بـ 11 جنديًّا، وليس 80 كما أشاع نظام الملالي. وقد نشر موقع CNN بالعربيَّة الأمريكي عن ذلك، ناقلًا رأي التَّحالف الدُّولي المتعارض مع تصريح البنتاجون.
والمفارقة أنَّ معاينة موقع القاعدة الأمريكيَّة المستهدَفة في العراق أثبت عدم تعرُّضها لأيّ هجوم من نوعه، بل إنَّ الأسلاك الشَّائكة المحيطة بالقاعدة لم تُخدش. تداركًا للموقف، صرَّح رئيس هيئة الأركان الأمريكيَّة بأنَّ الهجوم الصَّاروخي الإيراني أحدث تدميرًا في العتاد والمنشآت والطَّائرات. وفي حال صدق إلحاق الهجوم الإيراني أضرارًا بالقاعدة العسكريَّة الأمريكيَّة، هل تُقارن تلك الأضرار الماديَّة والخسائر البشريَّة بعمليَّات القتل والتَّخريب الَّتي دأب نظام الملالي على اقترافها في العراق وسوريا واليمن منذ سنين طويلة؟ بالطَّبع، المقارنة غير واردة. وفي خضمّ الجدال الدَّائر بشأن مدى صحَّة فداحة الهجوم الإيراني على قاعدة عين الأسد الأمريكيَّة في الأنبار، نشرت صحيفة Independent عربيَّة البريطانيَّة عن التَّنسيق بين إيران وأمريكا في شنّ ذلك الهجوم “عبر وساطة دولة خليجيَّة”، مع إجراء “ترتيبات عسكريَّة اتُّخذت من قبل الجانبين خلال اليومين الماضيين لضمان ألا يؤدي هذا الرَّد إلى سقوط ضحايا أجانب”.
ويعلّق المفكّر السُّوري على تقاعُس أمريكا عن الرَّد على الهجوم الإيراني الانتقامي، الَّذي ترَّدد أنَّه تمَّ بالتَّنسيق معها وأنَّها تلقَّت تحذيرًا مسبَّقًا منه، برغم تهديدات رئيسها بشنّ حرب موسَّعة تشمل إيران وحلفاءها في غزَّة ولبنان والعراق وسوريا، بقوله “فقط مع إيران تقف الولايات المتَّحدة مثل الكلب الجائع الملسوع” (صــ153). على مدار 40 سنة، اقتصر ردُّ أمريكا على إيران على التَّهديد والاستنفار والإدانة، بينما تضاعفت تدخُّلاتها في دول أخرى خلال تلك الفترة 4 أضعاف ما كانت عليه في الماضي، وفق ما نشرته صحيفة الفايننشال تايمز الأمريكيَّة في 12 يناير 2020م. خلال تلك العقود الأربعة، شنَّت القوَّات الأمريكيَّة هجمات، بل وحروب، هي الأشرس على الإطلاق، شملت اليمن وسوريا، بعد أفغانستان والعراق، بينما “لم تعكّر الصَّفو الإيراني، ولم تطلق عليها رصاصة بل حتَّى حجرًا طيلة هذه السّنين، على الرَّغم من إعلان إيران اليومي صباح مساء: ‘‘الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل’’، وتهديدها بإفناء العدوَّين” (صـ153).
(المصدر: رسالة بوست)