المسيح عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله (2)
(مجادلة النبي ﷺ النصارى في ألوهية المسيح عليه السلام)
بقلم د. علي الصلابي (خاص بالمنتدى)
ذكرت كُتب السيرة والدلائل أن وفدًا من نصارى نجران قدِموا على النبيّ (ﷺ) وجادلوه وناظروه في أمر المسيح وألوهيته، وقد رويت هذه الواقعة بأسانيد متعددة وروايات كثيرة وألفاظ متقاربة في بعض الأحيان، ومختلفة في أحيان أخرى. ومن أهم الموضوعات التي جادلوا رسول الله r بها:
1 ـ ادعاؤهم أُلوهية المسيح لولادته من غير أب:
ناقش رسول الله (ﷺ) نصارى نجران فيما يعتقدون بأن ولادة المسيح من غير أب هي دليل على ألوهيته، وقد رُويت روايات عديدة بشأن المناظرات حول هذه الشبهة، نذكر بعضًا منها فيما يلي:
روى ابن جرير الطبري عن الربيع في قوله تعالى: ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 1-2] ، قال: إن النصارى أَتوا رسول الله (ﷺ) فخاصموه في عيسى بن مريم وقالوا من أبوه؟ وقالوا على الله الكذب والبهتان لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا.
فقال لهم النّبيّ (ﷺ): ألستم تعلمون أنه لا يكون ولد إلا وهو يشبه أباه؟
قالوا: بلى. فقال: ألستم تعلمون أن الله حي لا يموت، وأن عيسى يأتي عليه الفناء؟
قالوا: بلى. وقال: ألستم تعلمون أن ربنا قيّمٌ على كل شيءٍ يكلأه ويحفظه ويرزقه؟
قالوا: بلى. ثم قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟
قالوا: لا. فقال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء؟
قالوا: بلى. فقال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟
قالوا: لا.
قال: فإن ربنا صوّرَ عيسى في الرحم كيف شاء فهل تعلمون ذلك؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أن ربَّنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحَدَث؟
قالوا: بلى.
قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها ثم غُذِّي كما يغذّى الصبي، ثم كان يطعم الطعام ويشرب الشراب، ويُحدث الحدث؟
قالوا: بلى.
قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟
قال: فعرفوا، ثم أَبوا إلاّ جحودًا، فأنزل الله عز وجل: ﴿الم اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [آل عمران: 1-2]. (الطبري، محمد بن جرير، جامع البيان في تأويل القران، 6/154)
وقد نزلت الآيات القرآنية تردُّ على عقائد النصارى في صدر سورة آل عمران إلى بضع وثمانين آية اشتملت على الحجج الدامغة لبطلان شبه النصارى. (عجيبة، أحمد علي نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة، ص78)
2 ـ ادعاؤهم ألوهية المسيح بسبب معجزاته:
روى ابن جرير الطبري عن ابن جريج عن عكرمة قوله تعالى: ِ ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]، قال: نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران، قال ابن جريج: بلغنا أن نصارى أهل نجران قدم وفدهم على النّبيّ(ﷺ) فيهم السيّد والعاقب، وهما يومئذٍ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد، فيم تشتم صاحبنا؟ قال: من صاحبكما؟ قالا: عيسى ابن مريم، تزعم أنه عَبد. قال رسول الله (ﷺ): أجل، إنه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقًا، فأرنا عبدًا يُحيي الموتى ويُبرئ الأكمه ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، لكنه الله. فسكت حتى أتاه جبريل فقال: يا محمد: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59]، قال: نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران، قال ابن جريج: بلغنا أن نصارى أهل نجران قدم وفدهم على النّبيّ (ﷺ) فيهم السيّد والعاقب، وهما يومئذٍ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد، فيم تشتم صاحبنا؟ قال: من صاحبكما؟ قالا: عيسى ابن مريم، تزعم أنه عَبد. قال رسول الله (ﷺ): أجل، إنه عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقًا، فأرنا عبدًا يُحيي الموتى ويُبرئ الأكمه ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، لكنه الله. فسكت حتى أتاه جبريل فقال: يا محمد: ﴿لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ﴾ [المائدة: 72].
ونزل القرآن الكريم وأوضح حقيقة هذه المعجزات كما بيّنتها في الصفحات السابقة، فالمسيح عليه السلام لم ينسب المعجزة إلى نفسه بل نسبها إلى الله، كما هو واضح في الآيات السابقة في قوله: (بِإِذنِ اللَّهِ)، أي بتكوين الله وتخليقه، فالخالق والمحيي في الحقيقة هو الله ولذلك لم ينسب المسيح إلى نفسه أي قدرة في فعل هذه المعجزات.
إن هذه المعجزات قد بينّا في حديثنا عنها أنها تدلُّ على نبوّته ورسالته لا على ألوهيته، فمن أراد التوسع فليرجع إلى ما فصّلنا.
3 ـ تأويلاتهم لوصف المسيح بأنه كلمة الله وروح منه:
ناقش النصارى رسول الله (ﷺ) وجادلوه في معنى وصف الله لعيسى بأنه روح الله وكلمته، حاجّوه وخاصموه وقالوا: ألست تزعم أنّه كلمة الله وروح منه؟
قال: بلى. قالوا: فحسبنا، وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر. (عجيبة، أحمد علي نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة، ص78)
فأنزل الله تعالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ﴾ [آل عمران: 7]، ثم إن الله جلّ ثناؤه أنزل: ﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ﴾ [آل عمران: 59].
بيّنت الآية الأولى أن سؤالهم فيه مغالطة، وردّت عليهم مفنّدة، إذ قرّرت أن هناك آيات محكمات هنّ أمّ الكتاب، وفيها جوهر الدعوة وأسسها التي لا تتحمل تأويلاً، وهناك آيات متشابهات فلا يتمسّك بهذه ويتجاهل ذلك، أو يريد أن ينقض تلك بهذه على تأويل خاطئ، إلا من في قلبه زيغ.
لقد أورد النّبيّ (ﷺ) لهم الآيات المحكمة التي تقرّ بجلاء ووضوح وحدانية الله بحيث لا يجوز في حقه سبحانه أبوّة ولا نبوّة ولا تعدد ولا تجزّؤ، ولا انفصال، وعليه إذا جاء في القرآن الكريم أنّ عيسى كلمة الله ومن روحه الذي أريد به بالتنويه بالمعجزة الربانيّة التي تمت بولادته بلا أب، فلا يصح أن يحاول بهذه نقض تلك الآيات المحكمة، فوحدانيّة الله أمرٌ محكم لا يتحمل أي كلام أو تأويل. (دروزة، محمد عزت سيرة الرسول ﷺ، المؤتمر العالمي للسيرة النبوية، 2/243)
فعيسى عليه السلام مخلوق ويدلّ على ذلك قول الله تعالى:﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 45‑47].
فهذه الآيات تبيّن أنّ عيسى عليه السلام ليس كما يقول النصارى أنّ قوله تعالى: نكرة في الإثبات يقتضي أنه كلمة من كلمات الله وليس هو كلامه كما يقول ﴿بِكَلِمَةٍ مِنْهُ﴾، وبيّن سبحانه مراده بقوله: (بِكَلِمَة مِّنهُ) حيث قال في الآيات التالية:
ـ قال تعالى: ﴿كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 47].
ـ كما قال في الآية الأخرى:﴿إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آل عمران: 59].
ـ وقال تعالى في سورة مريم: ﴿ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [مريم: 34-35] ، فهذه الآيات كلها تبيّن أنه سبحانه وتعالى قال له (كُن فَيَكُونُ)، وهذا تفسير كونه كلمة منه.
وأما قول الله تعالى عن المسيح في سورة النساء: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ [النساء: 171]، فقد بيّن مراده أنه خلقه بـ (كُن) من غير واسطة الأب، فالمراد بها كلمة التكوين، فكلمة كُنْ تدلّ على التكوين وقدرة الله عند إرادته إيجاد الشيء، وقد خلق المسيح بهذه (كُن) فكان عيسى، فالكُن من الله وعيسى بالكن كان ولذلك هو مخلوق. (قطب، سيد، في ظلال القران، 2/817)
وأمّا وصف المسيح بأنّه (وَرُوح مِّنهُ)، فلا يوجب أن يكون منفصلاً من ذات الله:
- كقوله تعالى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾ [الجاثية: 13].
- وقوله تعالى: ﴿وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ﴾ [النحل: 53]. فهذه الأشياء كلها من الله وهي مخلوقة، وأبلغ من ذلك روح الله التي أرسلها إلى مريم وهي مخلوقة. (عجيبة، أحمد علي نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة، ص83)
_______________________________________________________
المصادر والمراجع:
- جامع البيان في تأويل القران، الطبري، تحقيق: محمود شاكر، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1992م.
- سيرة الرسول (ﷺ)، محمد عزت دروزة، الدوحة: المؤتمر العالمي للسيرة النبوية، مطابع الدوحة، ط3، 1400هـ.
- المرأة في القصص القرآني، د. أحمد الشرقاوي، القاهرة: دار السلام، ط1، 1421هـ، 2001م.
- المسيح عيسى ابن مريم الحقيقة الكاملة، د. علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، الطبعة الأولى، 1440ه.
- الميزان في مقارنة الأديان، المستشار محمد عزت طهطاوي، دمشق: دار القلم، ط2، 1423هـ، 2002م.
- نصارى نجران بين المجادلة والمباهلة، د. أحمد علي عجيبة، القاهرة: دار الافاق العربية، ط1، 2004م.