المسلمون بين فقه الاستضعاف وفقه الاستخلاف (1 – 2)
بقلم محمد عبد الرحيم
على إثر كل حادث أليم يقع لمسلم أو لمجموعة من المسلمين تختلف ردود الفعل، فمن الناس من لا يعير الخبر أدنى اهتمام، ومنهم من يبكي دماً أو دموعاً ويحرص على أن يوسع نطاق المعرفة بالحادث ما أمكنه ذلك، مذكراً لنا بأدب الاستصراخ عند العرب، ومنهم من يحمل على المسلمين ويذكرهم بتفرقهم وتخاذلهم ويذكرهم وقت أن كان الخليفة يخاطب السحابة ويخاطب أعداءه من علٍ فيقول للسحابة: “شرقي أو غربي فسيأتيني خراجك ولو بعد حين”، ويقول لأعدائه: “بسم الله الرحمن الرحيم، من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، قد قرأت كتابك يا ابن الكافرة، والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام”.
جالت في نفسي خواطر بين من يرمون الكرة في ملعب الأمة الإسلامية ويهملون فرض العين، بين من يلقون التبعة على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها دون أن يخاطبوا أصحاب المصيبة، قد تقول: لا تحملهم فوق طاقتهم يكفيهم ما يعانون فقد تكالبت عليهم القوى الداخلية والخارجية، أقول: إنهم نقطة البدء والانطلاق، وكل إصلاح لا يتحملون عبئه ولا يشاركون فيه لا يمكن أن يفيدهم بشيء.
هذا ذو القرنين يطلب منه أناس ضعفاء الحماية، فهم بلا حول ولا قوة، لكنه وهو الرجل الرباني البصير بطبائع البشر وما يعرض لها من أوهام تسيطر أكثر من الحقائق، وهو الخبير بما في النفوس من قوى تحتاج إلى من يكتشفها ويكشفها لأصحابها، يقول لهم: “أعينوني بقوة”، ترى لو كانوا يرون أن لهم قوة أكانوا يطلبون العون منه ويدفعون مقابل هذه الخدمة الجليلة؟ لو كانوا يبصرون ما بأيديهم من قوة هل كانوا ينتظرون حتى يأتي أعداؤهم فيهلكون الحرث والنسل ويأكلون الأخضر واليابس؟ إن القوة موجودة اكتشفها ذو القرنين وأراها لمن لا يبصرون ولا يشعرون: “آتوني زبر الحديد”، “انفخوا”، “آتوني أفرغ”.. هذا نصيبهم من العمل، أما نصيبه ساوى بين الصدفين وجعله ناراً وأفرغ عليه قطراً.
إن الموارد الطبيعية موجودة زبر الحديد والقطر والوقود الذي يذاب به الحديد، والقطر والموارد البشرية موجودة كذلك، فهم الذين سيأتون بزبر الحديد هل يستخرجونه من المناجم كما يستخرجون القطر ويحملونه إلى موقع العمل؟ ومن يملكون القدرة على توجيه الهواء لإشعال هذه النار العظيمة؛ {قَالُوا يَاذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا } [الكهف].
متى كان الاستضعاف قدراً لا مجال للفرار منه عندما ننظر إلى النبتة الصغيرة التي يمكن لطفل يحبو أن يدمرها لكنها بما أودع الله فيها من أسباب القوة وعوامل البقاء تقاوم وتكبر حتى تصير شجرة عملاقة ينتفع الناس بظلها وثمرها وتبقى لأجيال وأجيال حين يفنى جبابرة الرجال، وإذا كان هذا حال النبات فإن الله تعالى حدثنا عن قدرات الذباب: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} [الحج: 73].
في بداية الدعوة وتكون الأمم يحدث ما يحدث للفرد حيث تدب فيه القوة شيئاً فشيئاً وحتى يتمكن من أسباب القوة وتتكامل قدراته تتلقى ضربات تنبهها إلى مواطن الخلل وتكون لها كالتحصينات التي يتلقاها الأطفال تقوي جهاز المناعة وتشد من أزره وتدربه على تحمل الضربات الصغيرة ليقوى فيما بعد على تحمل الموجات الكبيرة، وكما قيل: الضربة التي لا تقتل تقوي.
إن الله سبحانه وتعالى كتب الذلة والمسكنة على أعدائه، أما أولياؤه فكتب لهم العزة؛ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8]، فيكف يمكن القول: إن المسلم مستهدف بسبب إسلامه؟! ولذلك يبقى عليه أن يكون في موضع الهدف لكل من هب ودب، هل هذه الحقيقة تحملنا على الاستكانة؟ لقد كان اليهود مستهدفين بسبب يهوديتهم، وكان الشيوعيون مستهدفين بسبب شيوعيتهم، بل ألف الهندوس جمعية تجمعهم من الشتات في القرن الماضي.
تغلب اليهود على عبارة ممنوع دخول اليهود والكلاب ليمسكوا بمفاتيح العديد من الأبواب يفتحونها لمن يشاؤون ويغلقونها في وجه من يشاؤون، واستطاع الهندوس أن يتسلموا مقاليد الأمور في بلادهم.
ومما يؤسف له أن يكرس لفقه الاستضعاف من خلال خطب وكتب ومقالات تستبكي المسلمين وتستدر دموعهم وربما تستنهضهم لدعم مادي أو معنوي، ثم يرتاح هؤلاء ويتصورون أنهم قاموا بحقوق إخوانهم فلا شيء كالصراخ والعويل يحرك المشاعر ويلهب العواطف ثم يخمد كل ذلك في انتظار حريق جديد يرسخ في ذهن الصغير والكبير قدر الاستضعاف والأذى لا لشيء إلا لأننا نقول ربنا الله، فإذا أردنا أن نقول ربنا الله فلنتحمل ما يصيبنا لأجل ذلك.
ما من شك أن إيقاظ الشعور العام بالأخوة الإسلامية أمر غاية في الأهمية، وأن الوصول إلى الحالة المثلى التي تحدث عنها النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى” (صحيح مسلم)، هل تتوقف صورة التداعي عند تناقل صورة الواقع الأليم ثم التباكي والتصارخ وتبادل البكاء والصراخ، أم يمكن لهؤلاء الذين عافاهم الله أن يتداعوا إلى شيء يزيل الشكوى ويمنع تكرارها أو على الأقل يخفف من حدة آثارها، ثم إن قوله صلى الله عليه وسلم: “والسهر” ينبهنا إلى أن الواجب أكثر من تسجيل موقف أو سكب الدموع، بل السهر المقتضي للرعاية حتى يبرأ الجسد وتزول العلة ويعود قادراً على ممارسة دوره الطبيعي في الحياة منتجاً قادراً على حماية نفسه وحماية الآخرين.
إن الشعور بالوحدة قتّال وجالب لليأس والقنوط من رحمة الله عند أصحاب الهمم الضعيفة والعزائم الخوارة؛ لذا كانت المشاركة بين المسلمين في الشعور بآلام بعضهم بعضاً ودفع هذه الآلام حاجزاً بين الإنسان والعجز المفضي للموت.
ومن جانب آخر، إذا شعر المستضعف أنه وحيد يتلقى الضربات الموجعة هذه الوحدة تحفز أصحاب العزائم على التخطيط والعمل بناء على هذه الحقيقة، فإذا ما بنى الإنسان الساعي إلى العز والقوة حياته وتحركاته على ذلك أصبح رقماً صعباً يلفت الأنظار بالإعجاب أولاً وبالمعونة ثانياً، وتتوالى انتصاراته حتى يتحول إلى نموذج يحتذى به.
قديماً طلب الضعاف المهازيل من ذي القرنين الحماية، فإذا به يقول لهم: أعينوني بقوة؛ لكي تتم الحماية لا بد من مشاركة بالمعونة ممن يطلب الحماية، ولعله بالمشاركة تتطلع نفسه إلى العز ويسلك سبيل الأعزاء الذين يحمون أنفسهم ويقدمون المساعدة لغيرهم، وإن لم يشاركوا في هذه الحماية تبقى أيديهم هي السفلى يستجدون الحماية للبقاء على قيد الحياة مهما كلفهم ذلك من الذل.
ولو انتظر من بدأ طريق العز وحيداً من يبكي عليه أو يبكي معه لانتظر إلى أن تنتهي حياته لأن الناس لا يسمعون إلا صوت الأقوياء، ولا ينظرون بإعجاب إلى لمن يصعد سلم المجد.
ينسى هؤلاء الذين يرون الاستضعاف قدراً لا فكاك منه، أو لا تفهم من كلامهم وحديثهم سوى هذا، ينسى هؤلاء أو يغفلون عن سنن الله في الكون وآياته جل جلاله في الكتاب العزيز وكلماته صلى الله عليه وسلم هذه التوجيهات التي تأخذ بيد كل ضعيف ليقوى ويتقوى بربه جل جلاله، ولما أودع فيه سبحانه من خصائص حب الرفعة والعلو وما أعطاه من قدرة على التعامل مع الأقدار المؤلمة بل الانتفاع بها وتحويلها إلى صالحة، ومسألة المدافعة بين الخلق والفرار من قدر الله إلى قدر الله وتحويل حالة الفرد والأمة من درجة إلى درجة أعلى منها أمر حاضر في كل الثقافات والمجتمعات أياً كان حظها من الثقافة.
كم من أسرة كانت تعاني من الجهل والفقر والمرض، ثم برز أحد أبنائها وأدرك أن أحداً لم يطلع على القدر الأعلى ليخبره أن الجهل والفقر والمرض نصيبه كما كان نصيب آبائه وسيبقى إرثاً لذريته من بعده.
لم يخبره أحد بذلك أو أخبره لكنه أعرض عن هؤلاء الجهلاء المدعين، فانطلق يبذل الجهد ويواصل العمل ليبدل جهله إلى علم وفقره إلى غنى ومرضه إلى عافية، إن كان يؤمن بالله سيسعى للالتماس المعونة منه سبحانه، وإن لم يكن كذلك تحركت فطرته إلى العلا في شأن دنياها حتى ترسو على أحد موانئ العز والمجد، ولا يلبث أن ينتقل إلى ميناء آخر أعظم وأجل حتى يتسلم الراية من يضيف مجداً إلى الأمجاد السابقة ويستمتع بثمرات ما تركه سلفه له، أو يأخذ من تل الأمجاد حتى يختل ويفنى ويعود مرة ثانية إلى الجهل والفقر والمرض.
المصدر: مجلة المجتمع