مقالات مختارة

المسلمون بين عيدين: أين اختفى مفهوم الأمة والدولة؟

بقلم د. محمد الأمين مقراوي الوغليسي

إن معاني ومقاصد العيدين في الإسلام كثيرة جليلة، استمر بعضها في الوعي الجمعي للمسلمين إلى اليوم، ونقصد بذلك: اعتبار أيام العيد مناسبة للفرح واللهو والتضامن، وغاب أهمّها عن واقع المسلمين عقودا طويلة، ونقصد بذلك: تمزق مفهوم الأمّة الواحدة، وغياب معنى الدولة والحضارة عن العقل الجمعي للمسلمين، وهذا الغياب هو نتيجة من نتائج التغيرات التي مسّت الكثير من الجوانب التعبدية والمعاملاتية، بعد أن دخلت عليها الرتابة واستشرت فيها روح العادات، وابتعدت عن جوهر الإسلام، وقبل الحديث عن وجوب تجديد معاني العيدين في الإسلام بما يناسب حجم الإسلام كرسالة سماوية خاتمة، فإنّ رصد الخلل الذي طال معاني العيدين وأخرجها من حياة المسلمين خطوّة هامّة لبيان خطورة التغيّرات التي حدثت في حياة المسلمين، ولفتة أساسية للفت انتباه المسلمين إلى حقيقة وحجم دورهم في هذه الحياة.

عيد الفطر وغياب مفهوم الدولة:

بعد تربية الإنسان المسلم وتزكيته في المرحلة المكيّة، وربطه بالخالق ربطا خالصا بعيدا عن المغريات والملوثات والملهيات، جاءت المرحلة المدنية لإرساء مفهوم الأمّة، ووضع حجر الأساس لمعنى الدّولة، حيث شهدت السنتان الأولى والثانية من الهجرة تشريعات عديدة، أهمّها المؤاخاة والصلاة والزكاة والصوم وعيد الفطر، وتشريع الدفاع عن المسلمين من خلال الغزوات والسرايا، ومع هذه التشريعات توسعت دائرة التعامل عند المسلم، بعد أن كانت في المرحلة المكية تحصر المسلم في دائرة التربة والتزكية وبناء العقيدة، فعرف المسلمون لأوّل مرة معنى المؤاخاة، التي رسخت لمعنى الأمة الواحدة، والحاضر والمستقبل والمصير الواحد، كما صار المسلم يصلي في جماعة، ويصوم مع الأمّة، ويفطر معها، وله عيد يقتسمه مع المسلمين، وواجبات مالية نحو غيره من الفقراء، وواجب أعلى نحو دينه ودولته، وهو: الدفاع عنه من كل المحاولات التي تروم إفناءه وإنهاءه.

كل هذه التشريعات الربانية جاءت لتصهر مختلف المعاني الضيقة الناشئة من العصبية والقبلية والجهوية، وتحلّ محلها مفهوم الأمّة الواحدة، التي أنشأها النّص القرآني الخالد: ” كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ” (آل عمران- الآية 110)، فحلّت الرحمة والتكافل والإيثار والمؤاخاة محلّ العصبية والأنانية والحسد والثأر، وصار المجتمع المسلم على قلب رجل واحد، ينشد غاية واحدة، إرضاء الله تعالى في حله وترحاله وعمله وراحته، ويرجو هدفا واحدا: بسط هذه الرحمة والعدل في المعمورة، ليقلّ الظلم وينتشر الخير، وأصبح معيار التقوى أساس التعاملات، ومعقد الولاء، واختفت معه المعايير الجاهلية، ففي الجبهة الداخلية توحد المسلمون وصار التفاعل بينهم يسع مراحل الشدة والرخاء، فكانوا كالجسد الواحد بحق؛ مجسدين التطبيق العملي لقوله عليه الصلاة والسلام: ” مَثَلُ المؤمنين في تَوَادِّهم وتراحُمهم وتعاطُفهم: مثلُ الجسد، إِذا اشتكى منه عضو: تَدَاعَى له سائرُ الجسد بالسَّهَرِ والحُمِّى”، وصاروا يدا واحدة على أعدائهم، لا يتأخر الواحد فيه بنفسه وماله وأهله عن نصرة دين الأمة.

وقد كان المعنى الخاص للعيد واضحا في حياتهم، فهو احتفال بظهور مفهوم الأمة والدولة في حياتهم، فالتشريعات هي العنوان الأكبر لظهور أي أمّة، وهي الخطوة البارزة لإنهاء مفهوم التشريعات المبنية على أساس قبلي أو عشائري وجهوي؛ ولبروز هذا المعنى الخاص في حياة المسلمين يومها، أثر عظيم في بناء مسلم بنفسية عالمية، وعقلية متمكنة من مفهوم الدولة، مع مشاعر تتجاوز مفهوم القومية والقطرية إلى رحابة مفهوم الأمة، الذي يشمل كل شعوب العالم على اختلافها في الألوان والأعراق واللغات.

لكننا نلحظ أن مفهوم الأمّة قد غاب عن مسلم العصر، الذي يعقد ولاءه لقوميته وجنسيته، ويوالي على أساس قطري وقومي ضيّق، ويضع الحدود الوهمية حاجز صد قوي ضد إخوته في الدين والتاريخ والمصير، فشاعت الفرقة، ورجع المسلمون يضرب بعضهم رقاب بعض، وشتتوا واجتمع أعداؤهم، وتفرقوا وتكتّل خصومهم، وصار الفارق بين مسلم العصر الأول والعصر الحالي كبيرا، يلحظه حتّى صغار المسلمين.

أمّا على مستوى الدولة فقد تراجع دور الشريعة، وأٌقصيت من مؤسسات الدولة، وحلّ محلّها قوانين مستوردة من أمم تختلف معنا في: الدين والماضي والتاريخ والمصير والبيئة، ليجد المسلم نفسه تائها في حاضره، ومستبعدا عن صياغة مستقبله، ولتسقط الدولة التي يفترض أنها كيان منظم وجامع للمسلمين في أوحال الهشاشة واللاثقة والفساد، بعد أن صيغت على الطراز الأوروبي المناقض لهوية المسلمين. أمّا الحديث عن الوطن الجامع لكافة المسلمين فيكاد يختفي حتّى من الأحلام، بل يعد الحديث فيها عند بعض المسلمين ضرباً من ضروب الخيال والمستحيل.

عيد الأضحى أين غاب مسلم الحضارة والبناء؟

تعلن الأمم عن نفسها وظهورها بسن تشريعات خاصة بها، تحكم مختلف دوائر الحياة فيها؛ لذلك كانت التشريعات الربانية بعد الهجرة مؤشرا على ميلاد الأمّة الإسلامية، واستمرّت حتّى اكتمل البنيان بقوله تعالى: ” الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” ( المائدة/3)، فاحتفلت الأمة باكتمال المشهد الذي غيّر وسيغيّر الدنيا إلى الأبد، واحتفى المسلمون بمجتمعهم الفعّال، الذي انتقل من رعي الغنم إلى صناعة التاريخ والحضارة ورعاية الأمم، بعد أن عمّت نفسية العمل وعقلية البناء وروح الإنجاز أفراده، وحاديهم في ذلك البحث عن أداء الواجب أكثر من الجري وراء الحقوق، وتدفعهم الرسالية وروح المبادرة إلى ترسيخ المكتسبات بالصيانة والعناية، وتغيير ما كان ضاراً وسلبياً ومشوها للنفوس وللحياة.

بينما نلحظ اليوم شيوع الروح الاتكالية، وسيطرة نفسية البحث عن الحقوق، وتمكن شهوة الهدم من النّفوس، وذيوع الكسل، والهروب من أداء الواجبات، وانطماس معنى الاتقان، حتى سيطر الهدّامون على المشهد العام للحياة لدى المسلمين في المجتمع الواحد.

أمّا على مستوى التعايش بين مختلف أطياف الأمّة الإسلامية فإن التمزق هو سيد المشهد والموقف، بعد أن تمزق النسيج الأخوي بين المسلمين، وحلّت العداوات بين الشعوب المسلمة، وصار التفاعل مع القضايا خاضعا للهوى والتوجيه السياسي والإعلامي القومي، وقد وصل التمزق إلى درجة الانصراف عن الاهتمام بأمور المسلمين، ودليل ذلك: الصمت المريب الرهيب الذي عمّ الشارع الإسلامي من طنجا إلى جاكرتا أمام الحملة العالمية ضد الشعب السوري الثائر والمطالب بحريته وحقه في تقرير مصيره، وهذا مؤشر خطير للغاية، لا يمكن أن يبرر بأي مبرر، فالشعوب التي تتسمر لمشاهدة كل ما يدخل في إطار اللهو والملهيات ثم يدعي مدعٍ أنها مشغولة بجراجها يكون قد خالف الواقع وتناقض مع حقائقه المشهودة، كما يلحظ المتابع لمجريات الحركة اليومية للمسلمين اقبال غالبية المسلمين على طلب الدنيا والحرص عليها، وهو سبب قويّ للهوان والسقوط، مصداقاً لقول النَّبي صلى الله عليه وسلم: ” والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكنِّي أخشى أَنْ تُبْسَط عليكم الدُّنيا كما بُسِطَتْ على من كان قبلكم، فتَنَافَسُوها كما تَنَافَسُوها، وتهلككم كما أهلكتهم”.

ولم يتوقف التمزق على المشهد العام للمسلمين، بل إن المجتمع المسلم الواحد يشهد احترابا داخليا قوياً، بسبب الاستقطابات التي ما أنزل الله بها من سلطان، وقد نبّه عليه الصلاة والسلام إلى خطورة انتشار الصراعات بين المسلمين بقوله: ” إنَّ الشَّيطان قد أَيِس أن يعبده المصلُّون في جزيرة العرب، ولكن في التَّحريش بينهم “، فصار ولاء فئات وأفراد المجتمع يتعارض مع الأخوّة الإسلامية، ويتناقض مع الروابط المشتركة: الدين واللغة والتاريخ والمصير المشترك، ووصل الأمر إلى تآمر دول وجماعات وأفراد ضد أمة الإسلام، وهو ما يشكل أرضية خصبة لانهيار المجتمعات المسلمة، وتحطم أمال النهوض في المستقبل القريب، خاصة أن أهل الإصلاح كانوا يعولون على بناء أوطان مسلمة ناضجة، وصحيّة في علاقاتها وتصوراتها وحركيّتها، كمرحلة سابقة وممهدة لمرحلة التوحد في كيان جامع، يعيد للأمة الإسلامية مكانتاه وريادتها وهيبتها وسيادتها بين الأمم.

أمّا على مستوى النخب: فقد غاب النموذج الذي احتفلت به الأمة الإسلامية أول ما اكتمل البنيان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فسيطرت العقول والأيادي الوظيفية على الحياة، وعزّت النّخب الرساليةـ، كما اصطفت الكثير من النخب وراء المصالح الشخصية أو الفئوية الضيّقة، التي لا تخدم المجتمع المسلم، وتعفن الوضع حتى صارت فئة كثيرة منهم تقف ضد مصالح المسلمين، تبيع مواقفها ودينها وتاريخها بدراهم معدودة، وقد جاء في الحديث النّبوي الشريف: “ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم؛ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه.”.

خطوات في إحياء روح البناء والإنجاز في أمّة الإسلام:

مما سبق ذكره وسرده يتضح أن الأمّة الإسلامية تعيشا واقعا معقدا بسبب تشابك المشكلات التي تحيط بها، ووضعا صعبا بسبب الضبابية التي تلّف الرؤية الجمعية للمسلمين؛ لذلك نرى طروحات كثيرة قد أخفقت في وضع الحلول الحاسمة للخروج من هذا الوضع، لعلّ أبرز سبب لفشلها عدم فهمها للتراكمات السابقة، وتخطيطها مخططات بعيدة عن السنن التاريخية والاجتماعية والكونية، بل وعدم تفريقها بين قوانين التدافع التي يجب أن تستحضر في مراحل الضعف والتي يجب أن تستحضر في مرحلة القوّة.

ولذلك نقول إننا أمامنا معركة حضارية حقيقة، تستهدف استعادة مسروقات أربع وهي: قطاع التربية والشؤون الدينية، والإعلام والثقافة، لأن مجالها الحيوي هو: الإنسان، أما القطاعات الأخرى فهي قطاعات وظيفية إجرائية إدارية تنظيمية. ولن نتمكن من تغيير واقعنا مادامت هذه القطاعات تحت سيطرة: أنظمة فاشلة، وتخدم أجندات مناقضة لهويّة المسلمين، وتحرص قوى الاستكبار العالمي على تطويعها لصالحها، كما أنّها تحولت من مجالات تستقطب أهل الإبداع والأخلاق والعلم والفكر، إلى مجالات تستقطب أهل الأشكال والأهواء والجهل – غالبا- ثم تحوّلت في المدة الأخيرة إلى قطاعات لتوظيف البطالين، وإسكات الأفواه المطالبة بفرص العمل، فصارت خارج إطارها الحضاري والإسلامي والإنساني والحياتي.

قطاع الثقافة مسؤول عن الأنماط الثقافية التي تحكم شبكة العلاقات الاجتماعية، وصحة هذا القطاع تعني صحة النسيج الثقافي للمجتمع، أما ما نراه اليوم فهو عبارة عن مهرجانات وأمسيات وحفلات تلتهم أموالا طائلة، وتضيع أوقاتا هائلة، وتشوّه معاني الثقافة،  وتحصرها في الرقص واللهو والسهر.

أما قطاع التربية فهو المسؤول عن إعداد الناشئة، وهو القلب النابض للأمم، فإن كان سليما في بنائه وأهدافه العامة وفلسفته المستمدة من هوية الأمة، ومستقلا في وضع منظومته التربوية، مسيّرا من الخبراء وأهل الميدان والتخصص، ومحاطا بالإبداع بدل خنقه بالقوانين والمناشير الإدارية، فهو يتوجه بالمجتمع حتما نحو إيجاد مجتمع سليم.

أمّا قطاع الشؤون الدينية: فهو القطاع المنوط به إعادة تصحيح المسار العام للمجتمع سلوكيا وعقديا وروحيا، وهو المكلف بشحن همم المسلمين نحو تجديد روح البناء والإبداع كل أسبوع، فهو يرافق المسلمين في مسيرتهم الأسبوعية والسنوية، لذلك يجب أن يهتم به اهتماما صادقا بعيدا عن الاستغلال السياسي السلطاني الخانق فهي بيوت الله تعالى، وحق لها أن تنال مكانتها الحقيقية.

أمّا قطاع الإعلام فيلعب دور الصانع للإقناع داخل المجتمع، ويلعب دورا هاما في تلطيف الجو العام للمجتمع وبث الأمن الاجتماعي والنفسي، وهو الكابح للظواهر السلبية والآفات الملوِّثة للبيئة الاجتماعية، فوجب استعادته بعد أن سرقه أهل المال والقوة.

إنّ استعادة هذه القطاعات وإحاطتها بالاهتمام والرعاية خطوة عملاقة نحو إصلاح المجتمع واستعادة زمام الأمور، فهي معركة حقيقية الفائز فيها يحدد مستقبل الأمّة الإسلامية، ولو فاز بها أهل الخير والصدق والبناء لتغيّرت الأمة في سنوات معدودة. أمّا كيفية استعادة هذه المنظومات فهذا يحتاج بالفعل إلى جلسات مطوّلة يعقدها أهل الدراية والشأن حسب كل قطاع؛ حتّى تكون البداية سليمة فمن صحت بدايته صحت نهايته عادة.

المصدر: الاسلام اليوم.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى