مقالاتمقالات مختارة

المسلمون الروس.. بين ماضٍ قيصري وتحديات الحاضر

المسلمون الروس.. بين ماضٍ قيصري وتحديات الحاضر

بقلم د. عبد الكريم إبراهيم السمك النعيمي

كانت الكنيسة الأرثوذكسية وما زالت وراء الإبادات الجماعية التي نزلت بمسلمي روسيا في العهود الثلاثة: القيصري، والشيوعي السوفيتي، والجمهوري، وقد شاهد العالم أجمع عبر وسائط الإعلام الروسية الصليبية البطريرك كيريل[1]، كبير أساقفة الكنيسة الروسية، وهو يحمل الصليب مباركاً للجنود الروس ذهابهم لسوريا، والجنود تقبل الصليب الذي يحمله، ليبعث فيهم نزعة العداء للإسلام،  ما يعيد للذاكرة تاريخ الحملات الصليبية على الشرق الإسلامي في العصور الوسطى، حيث كانت تقودها الكنيسة، ويلهب مشاعر الأوربيين بطرس الناسك الذي رافق أول حملة صليبية على بلاد الشام.

الوجود الإسلامي في روسيا وتاريخه:

عرفت أراضي روسيا الإسلام قبل ظهور روسيا كدولة وأمة في جغرافيتها وشعوبها، وذلك في منتصف القرن السابع للميلاد، فقد وصلت طلائع المسلمين أراضي أذربيجان سنة ١٨هـ/ ٦٣٨م في عهد عمر ابن الخطاب رضي الله عنه، وذلك بقيادة الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، وعلى يد قائده فرقد السلمي، والذي صالح أهلها بعهد موثق بين فرقد عامل عمر ابن الخطاب على أهل أذربيجان، وهذا العهد مؤرخ بالسنة التي أشير لها، وبعدها دخل الإسلام أرمينيا وجورجيا، وغرب بحر قزوين (بحر الخزر) وشمال إيران، وكذلك خراسان وأفغانستان، على يد الأحنف بن قيس، في عهد الخلفية عمر بن الخطاب بين سنتي ١٨-٢٤هـ، وفي عهد الخليفة عثمان توطدت هذه الفتوحات وتوسعت، وفي عهد معاوية رضي الله عنه، عبر نهر جيحون سنة ٥٠هـ/٦٧٠م القائد عمرو الغفاري، وفتح ما يجاوره من بلدان، وتوالت حركة الفتوحات حتى تم فتح سمرقند على يد قثم بن العباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عملية الفتح هذه سقط شهيداً، ووصل المسلمون حدود الصين بعد أن تم لهم فتح ما وراء النهر على يد قتيبة بن مسلم الباهلي، وتوطد الإسلام في هذه المناطق بين ٨٨ و٩٦هـ/ ٧٠٦ و٧١٤م، وهذا القائد الذي أقسم على أن يطأ أرض الصين بقدميه، فأرسل له ملك الصين طشتاً فيه من تراب الصين ليبر قسمه، وفي العالم التالي دخل الملك وشعبه في الإسلام.

ولا يغيب عنا والي الخليفة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، القائد الجراح بن عبد الله الحكمي سنة ٩٩هـ، ورسالته الموجودة في متحف سان بطرسبرج، والتي توثق جغرافية الدولة الإسلامية في ذلك التاريخ ومركزها دمشق، وحدودها حيث بلاد الصغد، وداغستان وما جاورها، وفي جانب آخر قصة رحلة ابن فضلان في عهد الخليفة العباسي المقتدر ٣٠٩هـ، حيث التقى «آلمشي بن يلطوار» ملك البلغار وكتب عن رحلته هذه، وحمل أخبار الروس وتحدث عنهم وعن بدائيتهم وأشكالهم وقذارتهم وحياتهم الاجتماعية، فجميع الأراضي التي سار فيها بن فضلان كانت تدين بالإسلام، وعلى واقع إسلام التتار وبناء دولتهم في تتارستان وعاصمتها قازان، فقد أصبح دين الدولة الإسلام، وفي بداية القرن الرابع عشر للميلاد امتدت حدود دولة ابن الملك التتري «القاسم»، وبنى مملكة ابن القاسم في «ميتثوار» وسواحل نهر الأوقا، وبنى المسلمون فيها المساجد واستوطنوا هذه الأقاليم، مع العلم أن هذه الأقاليم لم تطأها أقدام الروس.

ومع اجتياح الروس لدولة تتارستان سنة ٨٥٧هـ/ ١٥٥٣م، دخل المسلمون التتر في طور جديد في ظل السيادة الروسية عليهم، من قتل وتطهير ديني وسعي للتنصير فيهم، في عهد إيفان الثالث جد إيفان الرهيب، ليعلن سقوط سيادة قازان على موسكو التي امتدت ٢٤٠ سنة، وهنا تدخل بابا روسيا عند فاسيلي الثالث، والد إيفان الرهيب، لدفعه للقيام بحملات تطهير ضد المسلمين، على غرار ما نزل بهم على يد الإسبان سنة ١٤٩٢م.

العنصرية والنصرانية هما قوام العداء الروسي للإسلام:

في عام ١٩٨٧م وقف الرئيس الروسي غورباتشوف ليحتفل بذكرى مرور ألف عام على اعتناق الروس للنصرانية، وقال في كلمته: «إن أي حرب تخوضها روسياً ستكون باسم الإنسان الأبيض ومباركته ويجب أن تتخذ صورة الحرب الصليبية باسم المسيحية»، وفي سياق حديثه هذا قدم مستندات أوربية في إشهار نصرانيته الروسية في أصولها الأوربية، بالقول: «نحن أوربيون… لقد كانت المسيحية توحد روسيا القديمة بأوربا، وسوف نحتفل في العام القادم (١٩٨٨م)، بمرور ألف عام على دخول المسيحية أرض أسلافنا، وتاريخ روسيا هو جزء عضوي في التاريخ الأوربي العظيم»، وتعقيباً على احتفال الروس هذا، فقد احتفل المسلمون بذكرى مرور ١٤٠٠ سنة على دخول الإسلام روسيا، وهذا يعني أن دخول الإسلام روسيا سبق النصرانية بأربعمئة سنة.

ليس غريباً أن تتحمل روسيا قضية الوكالة العامة في الواقع السوري الذي عاشته سوريا، بين مطارق النظام وإيران وروسيا ممثلة للكنيستين الشرقية والغربية، وتجلى ذلك في المشهد الذي ارتبط بالبطريرك فلاديمير ميخائيلوفيتش، والملقب كنيساً «كيريل»، بعد أن حدد الرئيس السابق غوربا تشوف سياسة روسيا المستقبلية، بالقول: «أوربا بيتنا المشترك»، ففي القضية السورية ظهر جلياً واقع الصدام الحضاري بين الشرق الإسلامي والغرب النصراني الصليبي، بشقيه الروسي والرأسمالي الغربي، على أنهما في خندق واحد تجمعهما النصرانية ضد الإسلام السني، وهذا ما وثقه الصحفي الأمريكي توماس فريدمان في مقالته الصحفية الأمريكية التي يكتب فيها، من أن أمريكا تقتل الشعب السوري بأيدٍ روسية، وذلك على واقع المشاركة الروسية في سوريا، في نزعتها الصليبية التي باركتها الكنيسة الروسية.

وقد وثقت الأحداث السورية التي شارك فيها الروس في حملات الإبادة الروسية للشعب السوري، صورة حملات الإبادة التي قادتها الكنسية الروسية على مسلمي التتر في بشكيريا وقازان وسيبيريا في ذاكرة الشعوب الروسية المسلمة بعد اعتناق الروس للنصرانية في عهد فلاديمير سلافيتش سنة ٣٧٨هـ/ ٩٨٨م، وعلى واقع سقوط القسطنطينية بأيدي المسلمين بقيادة محمد الفاتح سنة ٨٥٧هـ/ ١٤٥٣م، فقد ازدادت حملات القتل والإبادة على المسلمين رافعين لواء الحرب الصليبية ضد المسلمين الروس.

وتاريخياً تجددت الحملة الصليبية الروسية هذه بعد فلاديمير سلافيتش على يد إيفان الثالث، جد إيفان الرهيب، سنة ٨٨٥هـ/ ١٤٨٠م، فقد حقق الروس انتصارات عسكرية على مسلمي روسيا التتر، ودفع بطريرك الكنيسة أمير موسكو «فاسيلي الثالث»، والد إيفان الرهيب لقيادة حملات الإبادة ضد المسلمين في روسيا، وبوفاته استلم حكم روسيا ابنه إيفان الرهيب، الذي جاء على يديه سقوط عاصمة تتارستان قازان سنة ٩٦٣هـ/ ١٥٥٥م، وبعد سنوات من هذا الانتصار سقطت عاصمة المسلمين الثانية إستراخان سنة ٩٧٠هـ/ ١٥٦٢م.

ولازم عملية الانتصارات الروسية هذه ازدياد في حملات الإبادة للمسلمين، وقد وسع إيفان الرهيب حملاته إلى إقليم بشكيريا، والذي كان أهله قد اعتنقوا الإسلام قبل قرنين من حملات إيفان هذا على الإقليم وأهله المسلمين، فاحتل عاصمته أُوفا، وفي عهد هذا المجرم كان قد توج سيرة أسلافه الصليبيين في حرب الإسلام بأكبر حملات التطهير ضد المسلمين الروس، وبمماته انتقل حكم روسيا إلى أسرة آل رومانوف.

روسيا في ظل حكم آل رومانوف:

لم تصل حملات التطهير ضد المسلمين إلى نتيجة مع المسلمين، فقد واجه مسلمو روسيا هذه الحملات بانتفاضات عسكرية ضد حكم موسكو النصرانية، وكان الصدام قد أصبح صراعاً نصرانياً إسلامياً، بعد أن خرج بحر قزوين من ساحة الصراع باعتناقهم اليهودية ديناً، لماضي صراعهم مع بيزنطة، وقد تولى حكم موسكو بعد إيفان الرهيب ومن جاء بعده من أسرته، بطرس الكبير (الأول)، والذي يعتبر مؤسس حكم آل رومانوف والقيصر الأول في هذه الأسرة، وقد استلم الحكم سنة ١٦٨٢ حتى ١٧٢٥م، وقد تتالى على حكم روسيا من أبناء هذه الأسرة أربعة عشر قيصراً، كان آخرهم القيصر نيقولا الثاني، الذي حكم روسيا بين ١٨٩٤ و١٩١٧م، وانتهى حكمه بقيام الثورة البلشفية (الشيوعية)، التي أعدمته مع أربعة عشر فرداً من أسرته.

ففي عهد هذه الأسرة الحاكمة حصلت مواجهات عسكرية بين المسلمين وبين حكومات القياصرة، وخاصة في مناطق القوقاز، داغستان والشيشان وغيرهما من الأقاليم، وكان منها ثورة الشيخ مراد (١٨٣٢م)، وثورة المريدين التي قادها الشيخ شامل، وانتهت ثورة القفقاس عام ١٨٥٩م باستلام الشيخ شامل وذهب الروس في تكريمه وتقديره، في الوقت الذي كان متصوراً أن التقل سيكون جزاءه، فكانت هذه الثورة صورة من عدد من ثورات المسلمين على الحكم القيصري، وهنا لم يجد الحكام الروس سوى الانفتاح على المسلمين، والسماح لهم بممارسة شعائر دينهم وبناء مساجدهم، ويعتبر بطرس الأول هو من فتح باب التسامح مع المسلمين، وكان عهد الإمبراطورة كاترين الثانية (١٧٦٢ – ١٧٩٦م) عصراً ذهبياً للمسلمين في سياسية التسامح، حتى إذا كانت سنة  ١٩٠٥م، وفيها كانت الحرب الروسية – اليابانية، وخسارة روسيا الحرب أمام اليابان، فقد قرر مجلس الدوما (البرلمان) الروسي السماح بحرية الاعتقاد ومنح المسلمين الحرية الكاملة في عباداتهم ومدارسهم وبناء جوامعهم.

وعلى واقع هذا التسامح عاد الكثير من أبناء المسلمين من الذين فرض عليهم النصرانية ضمن سياسة التنصير لدينهم الإسلامي، ومنهم من حافظ على عقيدته الإسلامية قرابة مئتي عام، ثم عادوا وأعلنوا إسلامهم، وفي قازان طبع المصحف الشريف وأُنشئت جامعة قازان الإسلامية في القرن التاسع عشر على واقع سياسة التسامح مع المسلمين.

المسلمون في الاتحاد السوفيتي:

كان نيقولا الثاني قد تحالف مع فرنسا وإنجلترا ضد الدولة العثمانية بقصد استرداد القسطنطينية عاصمة للنصرانية الأرثوذكسية، وإعادة الصليب إلى كنيسة أياصوفيا، والتي حولها محمد الفاتح إلى مسجد بعد فتح القسطنطينية عام ٨٥٧هـ/ ١٤٣٥م.

وقد جند لاستعادة القسطنطينية مليوناً ونصف المليون مسلم من أقاليم القوقاز، بشكل إجباري، كما جند الكثير من أبناء المسلمين للعمل بنظام السخرة في خدمة الجيش، لكن ثورة أكتوبر الشيوعية عام ١٩١٧م قلبت الموازين على دول التحالف، وسقط الحكم القيصري في روسيا، وعندما سارعت بريطانيا لنجدة روسيا، ذهب لينين في نشر اتفاقيات ما قبل الحرب، والمعنية باستعمار دول المشرق العربي، وتقسيمها بين فرنسا وبريطانيا وروسيا، وذلك بقصد بلبلة موقف التحالف الفرنسي البريطاني، إذا ما علم العرب بهذه الاتفاقيات، والتي سيترتب عليها تهويد فلسطين، وتقاسم ولايات دول المشرق العربي، لكن العرب وضعوا مصلحتهم في سلة الإنجليز، ولم يستفيدوا من فضح لينين للاتفاق.

أما بالنسبة للمسلمين الروس فقد خاطبهم طالباً منهم مساعدته في الثورة، وأن الثورة ستكون لصالح المسلمين، بعد الإذلال الذي ذاقوه أيام دولة القياصرة، وقد خاطب لينين الشرق الإسلامي كذلك، والبيان في كامله يقوم على نصرة المسلمين في روسيا، والبيان من أهم وثائق الثورة بسبب خطابه الإسلامي في موضوعه، وسلم لينين مصحف عثمان بن عفان رضي الله عنه للمسلمين في بيتر وغراد حيث كان موجوداً عند القياصرة، وقد رحب المسلمون بالثورة التي ستعيد لهم حقوقهم، لكن لينين كان يريد عبور المرحلة الأولى من عمر الثورة، وقد نجح في خداعهم عندما انساق علماء المسلمين في القوقاز وألهبوا الجماهير المسلمة في تأييد الثورة، وبعد أن استقرت أمور الدولة اللينينية، ذهب لينين في النيل والغدر بالمسلمين، وكانت بداياتها سنة ١٩٢٨م، وبوفاة لينين استلم الحكم المجرم ستالين، وقد قام بحملات قتل وإبادة للمسلمين، وفي سنة ١٩٣٨م قام بتهجير المسلمين إلى سيبيريا بمئات الآلاف، كما أعدم الآلاف بشكل جماعي.

كان هذا في جوانب الإبادة الجماعية، أما الأخطر والأهم كان تدمير المساجد ومنع الشعائر الإسلامية من أن تقام، إضافة إلى تنشئة جيل من أبناء المسلمين على الإلحاد والكفر بالإسلام، وذلك بعد أن فرض نظام التعليم الإلزامي على أبناء المسلمين، والذي بدا أن المسلمين الذين عانوا من حكم القياصرة لم يؤثر فيهم الحكم الشيوعي، فحافظوا على ثقافتهم الإسلامية برغم صعوبة الحياة التي عاشوها، الأمر الذي دفع الدولة إلى التخفيف من سياسة اضطهاد  المسلمين، ولأول مرة سمحت الدولة سنة ١٩٤٥م لمجموعة من المسلمين بالحج إلى مكة، وكانوا في حدود ٢٥ حاجاً، ولم يتكرر بعد هؤلاء السماح لغيرهم بالحج، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي سنة ١٩٩٠م، في عهد غورباتشوف، عاد المسلمون لحياتهم الطبيعية في الصلاة والصيام والحج، وافتتاح المدارس والجامعات الإسلامية، والحمد لله، كما يقام مسابقات لحفظ القرآن، والإسلام بخير إن شاء الله، وقد لمست ذلك من خلال زياراتي المتكررة إلى روسيا، والتي كان آخرها في 2018م، وقد وقفت على صحف إسلامية دعوية توزع مجاناً على أبواب المساجد باللغة الروسية بعد صلاة الجمعة.

 


[1] اسمه الكنسي، أما اسمه الحقيقي فهو فلاديميو ميخائيلوفيتش.

المصدر: مجلة البيان

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى