بقلم د. محمد عياش الكبيسي
شاء الله سبحانه وتعالى أن يجعل المسجد الأقصى معياراً لحال الأمة ووزنها أمام الأمم الأخرى، فكلما كانت مهابة عزيزة الجانب كان الأقصى مهاباً عزيزًا والعكس بالعكس أيضاً.
فلم يكن هنالك من يجرؤ على أن يمس المسجد الأقصى بأدنى سوء أيام عبد الملك بن مروان وعمر بن عبد العزيز، ولا أيام الرشيد والمأمون والمعتصم، ولا أيام محمد الفاتح وسليمان القانوني وعبد الحميد الثاني، فلقد كانت الأمّة من أقصاها إلى أقصاها تطير خلف هؤلاء لنجدة امرأة واحدة ولتأديب باغ واحد فكيف لو فكّر أحد ما، مهما علا شأنه وكثر قومه، أن يقترب من أسوار الأقصى وترابه الطاهر؟
نعم حصل ذلك أيام غياب الأمّة وتحوّلها إلى إمارات متناحرة متخاصمة فامتدّت يد الأوربيين تحت شعار الصليب لتخطف المسجد الأقصى وتعيث فيه خراباً وفساداً، وقد بقي على هذه الحال لعقود طويلة معبّراً بصدق عن حال الأمة في هوانها وشتاتها، حتى بدأت صحوتها من جديد على يد آل زنكي ثم الأيوبيين، وبدأت تجمع شتاتها وتستصرخ إيمانها ونخوتها، وقد كانت صرخة صلاح الدين في ذلك الوقت «إن فتح الموصل إلى بيت المقدس موصل»، وكان مستشاروه يستحثونه على إكمال مشروعه في النهوض بالأمة وتوحيد قواها قبل التوجّه إلى القدس، ومن لطائف القدر أن تكون الموصل وحلب المقدّمتين الكبيرتين لفتح القدس، حيث سار صلاح الدين بعد فتح الموصل إلى حلب ومن حلب إلى القدس فقال شاعره آنذاك:
وفتحكم حلب الشهباء في صَفر
مبشّر بدخول القدس في رجب
لقد تمكن صلاح الدين من بناء جبهة قويّة تمتد من مصر إلى الشام والعراق كل ذلك وهو في هدنة مع الصليبيين لم يحسم أمره معهم حتى جمع أشتات أمته وقضى على الفتن الداخلية وبنى منارات العلم والتقى ومحاضن التربية الإيمانية النقيّة الصحيحة، فكان فتحه للقدس ودخوله المسجد الأقصى تتويجاً لهذا المشروع النهضوي الوحدوي الكبير.
اليوم حينما تتجرّأ حفنة من شذّاذ الآفاق على الأقصى فإنهم في الحقيقة لا يتجرؤون على الأقصى ولا على المقدسيين أو الغزّاويين وإنما هي صفعة على قفا هذه الأمة الغافلة التائهة المبعثرة بملايينها الممتدة من جاكرتا إلى نواكشوط ومن اسطنبول إلى حضرموت.
إن الأمة التي تتفرّج على نسائها الهائمات على وجوههنّ في الموصل وحلب، وعن الآلاف الذين يزحفون يومياً قاصدين اللجوء إلى أوربا، وعن مئات المآذن والقباب التي تهدّم على رؤوس المصلين، كيف يرجى منها أن تلتفت إلى حواجز يقيمها اليهود على مداخل الأقصى أو رصاصة تخترق جسد طفل أو طفلين في القدس أو غزة؟
إنه ليس عيباً على الضعيف أن يتغلب عليه القويّ، فالزمن هكذا دوّار وغدّار، إنما العيب حينما يستمتع المغلوب بحاله، ويضحك ملء شدقيه ورأسه تحت حذاء ظالمه، فلا يحس بألم في صدره ولا بثقل على رأسه.
إنه لمن المؤلم والمحزن أن تتحوّل قضية الأقصى إلى ورقة للمتاجرة، يتاجر بها الطغاة قبل غيرهم وهم الذين أضعفوا الأمّة وأهانوها ومزّقوا جسدها وقطّعوا أوصالها، فإنك لو جمعت «الخطابات التاريخية» التي ألقيت في المناسبات الوطنية والقومية والدينية من أولئك «الزعماء التاريخيين» لأدركت أن هؤلاء على كثرة اختلافاتهم وخصوماتهم قد اجتمعوا على شيء واحد وهو المتاجرة بالأقصى، واتخاذه أداة من أدوات التسويق لسياساتهم الفاسدة والترويج لبضائعهم الكاسدة، والشعب الفلسطيني يتطلع إلى هذا وإلى هذا؛ جيش القدس، ويوم القدس، وحزب الله وآية الله، وجبهة المقاومة ومحور الممانعة، فيحصل المساكين على الفتات بينما يذهب الزخم الأكبر لضرب الأمة وتدميرها والإجهاز على ما تبقى من مقوّمات الصمود وأسباب النهوض فيها.
لا أنسى تلك السيّدة الفاضلة التي لقيتها في بيروت سنة 2006 يوم كان كبار العلماء والدعاة يتنادون لمناصرة حزب الله، استقبلتني في مكتبها وتحدّثت حديثاً مطوّلاً لا زلت أتذكره وهي تستغرب من حال هؤلاء اللاهثين خلف كل سراب، وكان مما قالت: «عن أي مقاومة يتحدّثون بعد أن دمّروا بغداد؟ هذه عمائمهم وراياتهم وفتاواهم تدخل مع الجيش الأميركي لتستبيح العراق ثم نصدّق أنهم يريدون تحرير فلسطين؟.. يقولون لنا لماذا لا تساندون المقاومة؟ فقلنا لهم أعلنوها مقاومة باسم الأمة لا باسم الحزب ولا الطائفة ولا باسم أية راية فئوية أو عنصرية وسنكون في مقدمة الصفوف، نحن نريد مقاومة باسم الأمة ولا نريد أن نكون وقوداً رخيصاً للمشاريع المشبوهة التي تتخذ من القضية الفلسطينية مركباً لها».
نعم إن أخطر ما يمكن أن تتعرّض له القضية الفلسطينية هو هذا، لقد كنت أستمع لأحدهم وهو يعقّب على انتهاكات الصهاينة المجرمين في الأقصى: «لقد انشغلت الأمة بقضايا جانبية»، وهو يشير إلى ما يجري في العراق وسوريا واليمن! هكذا، فمحو مدينة مثل الموصل أو مثل حلب لا يراه هذا الأخ يستحق الانشغال، وهو بهذا يظن أنه يخدم قضيته الوطنية «فلسطين»، ولست أدري من هي هذه الأمة التي يعنيها إن أسقط منها العراق والشام واليمن؟
يا أخي والله إن بداية الطريق لتحرير الأقصى لن تكون إلا بهذا الانشغال الذي تشكو منه والذي هو غير موجود أصلاً، ويا ليتك شكوت من انشغال الناس بالترهّات التي يغدق عليها من ثروات الأمة ما لو أنفق بعضه لأنقذ الملايين المشردين من إخوانك وأخواتك في الموصل وحلب وتعز، ولسدّ حاجة أهلك في القدس وغزة، أما إن كنت تظن أن الميليشيات الطائفية التي دمّرت كل هذه الحواضر الإسلامية أنها ستساعدك في استرداد أرضك فأنت واهم.
نعم إن دعم صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته الأسطورية الشجاعة هو واجب كل مسلم على أقل تقدير لبقاء القضية حية في الضمائر، ولمشاغلة العدو لأطول مدة ممكنة، وأخطر ما يرد في هذا السياق هو عزل هذه القضية وتشويه نصاعتها وبياض ثوبها بتجاذبات وتحالفات تجعل هذه القضية المقدّسة وكأنها بالضد من قضايا الأمة وجراحها النازفة.
إن كل قضية تحتمل قدراً من المجازفة وفق قانون الربح والخسارة، ومقولة أهل مكة أدرى بشعابها إلا قضية الأقصى فإن قوتها بقداستها وربحها ببقائها حيّة متجددة في ضمير أمتها.
(المصدر: موقع الأمة)