المسجد الأقصى المبارك هو مركز الصراع بين الأمة والاحتلال الإسرائيلي
بقلم الشيخ د. تيسير التميمي
يقول الله عز وجل {وَلا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَ تَشْعُرُونَ} البقرة 154 ، تعرضت غزة مؤخراً لعدوان غاشم ، وقصفت بالطائرات من قبل جيش الاحتلال الذي استخدم الأسلحة المحرمة دولياً مما أدى إلى ارتقاء مئات الشهداء العظام وآلاف الجرحى من المدنيين والأطفال والنساء والمسنين ، وأدى إلى تدمير هائل طال المباني التجارية والسكنية على رؤوس ساكنيها ، لقد كانت جريمة حرب ضد الإنسانية توجب تقديم مرتكبيها وكل من أسهم فيها إلى محكمة الجنايات الدولية ، ارتكب هذا العدوان كما في كل مرة على مرآى ومسمع من المجتمع الدولي بأسره ، إلا أنه لم يحرك ساكناً كما في كل مرة ، لم يستنكر ولم يشجب هذا الإجرام الهمجي بل أعرب عن تفهمه حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها كما في كل مرة ، لكنه في هذه المرة أصيب بالذهول والدهشة لأن غزة الباسلة ردت الصاع صاعين وأنقذت جزءاً من كرامة الأمة وشرفها ، وأثبتت للقاصي والداني بأن شعوب الأمة ما زالت تدب فيها الحياة ، وما زالت ترى المسجد الأقصى المبارك جزءاً من عقيدتها ، وما زالت ترى القدس وفلسطين قضيتها المركزية وجوهر صراعها مع الاحتلال.
وأما من يشككون في هذه النتائج والمكاسب والإنجازات التي تحققت فهم لا يختلفون كثيراً عمّن يشكك في نتائج غزوة أحد ومكاسبها ، ألا يكفي فيها قوله سبحانه { وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إنْ كُنْتُمُّ مؤْمِنين } آل عمران 139 ، ألا يكفي قوله تعالى بعدها { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ } آل عمران 140 ، نزلت هذه الآية الكريمة عقب غزوة أحد التي كانت ابتلاء صعباً للصحابة رضي الله عنهم ، نزلت في سياق آيات سورة آل عمران التي هدفت إلى الاستفادة من الدروس المستخلصة من هذه المحنة القاسية والتعلم منها ، لكن بأسلوب رفيق رقيق ينطوي على العتاب واللوم على التقصير ، وهكذا يجب أن يكون أسلوب المحب الصادق والمتجرد في الانتقاد أو بيان الآثار والأبعاد ، أما التشكيك والتركيز على نقاط الضعف أو على الخسائر فقط فليس هو الأسلوب الأمثل للتقييم.
وكما كانت غزو أحد ونتائجها فياضة بالعظات والعبر الغوالي ففي غزة أيضاً كانت معركة القدس فياضة بالدروس القيمة الثمينة ، فقد دفع المؤمنون في أحد ثمناً باهظاً بدمائهم وأموالهم وأنفسهم ، وأصيب فيها قائدهم وقدوتهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في بدنه وفي أهله ، وظلوا يعانون جميعاً آثار هذا الامتحان الصعب فترة ليست بالقصيرة ، لكنهم صبروا وثبتوا ونهضوا من كَبْوَتِهِم ، فصاحب القضية يتعرض دوماً للابتلاءات والمحن وهو يشق طريقه مناضلاً للوصول إلى هدفه المنشود يستميت أعداؤه من خلالها في القضاء عليه، ويلوّحون له بالعصا لتنثني عزيمته ويتخلى عن ثوابته ، لكن هيهات لأهل العزم أن يتخاذلوا أمام القهر أو يخنعوا أمام الترغيب والترهيب والتعذيب أو يستسلموا للهزيمة ، فما علم الأعداء أنهم يزيدونه قوة إلى قوته ، وثباتاً إلى ثباته ، وهكذا الشعب الفلسطيني صاحب أعدل قضية.
فالمحنة تثمر التحدي وتصقل الشخصية، وتمتحن الصبر والإيمان بالقضية ، فالقضية تبدو عزيزة عند أتباعها بقدر ما يبذلون من أجلها ، بل ستعظُمُ في عيون غيرهم وربما تحولوا إلى أنصار أو أتباع ، أما إن كانت رخيصة فسيهون عليهم التنازل عنها ولن يحتملوا لأجلها أدنى الشدائد . وبذلك تترسخ جذور القضية في أعماق الأرض، وتبقى خالدة لا تموت إذا قدمت التضحيات العظيمة في سبيلها ، لأن كل شهيد يسقط يزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة ويحرك ضمير الأمة لتدافع مخلصة عن مبادئها وقضاياها ، وهكذا القضية الفلسطينية . والشدائد هي التي تظهر معادن الناس وتنقّي صفوفهم، فالله سبحانه يبتلي عباده بما يناسب قوة إيمانهم ، سئل صلى الله عليه وسلم {أي الناس أشد بلاء قال الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلباً اشتد بلاؤه} رواه الترمذي.
والمؤمن لا يخاف المحنة ؛ بل يستبشر بها لأن ثباته قوة يصغُرُ أمامها كل قمع وكيد ، وقد هيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه لهذه التعبئة النفسية ؛ قال خبّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه {شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه فما يصده ذلك عن دينه والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون} رواه البخاري.
إذن فالمؤمن موقن أن لا مفر له من الأزمات والنائبات ، فقد أصابت رسل الله وأنبياءه وأتباعهم ، فهي العاصمة له من التخبط في ظلمات الفتن وليل المحن ، وهي الحامية له من الذهول عند الابتلاءات إذا استنارت روحه بضياء الصبر وتحرر فؤاده من رهبة القنوط والخوف ، وإذا أخذ أهبته لئلاَّ تباغته النوازل أو تفاجئه على حين غفلة ، فمن علم أن الله سيبدله رضاً نفسياً وسكوناً قلبياً صحَّ إيمانه وخلص قلبه بحيث لا يجتمع الإيمان بالله والسخط على أقداره ، فالله تعالى لم يقدر المحنة لتهلك المؤمن بل لتمتحن صبره ، ولم يكتب فتنة الابتلاء إلاَّ لتميز المؤمنين وتنقي صدورهم وصفوفهم ، فمراتب الكمال منوطة بالصبر. والله سبحانه يضاعف الأجر والثواب لعبده على صبره وإخباته لابتلاء ربه ، ولا يحسبن المبتلى ما دام طائعاً عابداً أن ربه عز وجل غاضب عليه ، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا أحب الله قوماً ابتلاهم ، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط} رواه الترمذي. وأما من جزع فله الجزع ، والجزع هو قلة الصبر وضعف الهمة عن الاحتمال ، وإكثار الشكوى والتظلم من البأساء والضراء ، قال صلى الله عليه وسلم: {ما يصيب المسلم من وصبٍ ولا نصبٍ ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم ، حتى الشوكة يشاكها إلا كفَّرّ الله بها من خطاياه} رواه البخاري.
وهذا ما حدث في حرب غزة كما حدث في أحد ؛ حيث كان المصاب عظيماً أليماً لكنه كشف الولاء الحقيقي للمؤمنين وأظهر أعداءهم ؛ وفضح من اخترق جماعتهم من المنافقين بالجبن والنكوص قبل أن يكشف القرآن الكريم نفاقهم فافتضحوا أمام أنفسهم وأمام الناس ، فالمواقف من أقوال وأفعال هي ترجمان لحقيقة ما في القلوب ، قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ} آل عمران 179، فالدعوات أثناء امتدادها وانتصارها تغري الكثيرين من الأدعياء بالانضواء تحت لوائها فيختلط المخلص بالمغرض والأصيل بالدخيل ، فلا بد لها في هذه الحالة من امتحان يهزها لينقي صفوف أتباعها.
وأولى من نتمثل ونقتدي بهم في الصبر على البلاء بكل صوره هم الرسل والأنبياء ، وأعظمهم في ذلك أولوا العزم الذين لاقَوْا منه ما رفع مكانتهم ومنزلتهم عند ربهم جلا وعلا ، فجعلهم قدوة لمن بعدهم ، قال تعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنْ الرُّسُلِ} الأحقاف35 ، فاقتدى بهم صلى الله عليه وسلم ، بل ضرب لنا هو وصحبه أروع الأمثلة في الصبر ، فالصبر من صفات الرجولة الناضجة والبطولة الفارعة، فإن عظائم الحياة وأثقالها لا يحملها صغار النفوس وضعاف الهمم والقلوب ، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم ، ولا ينهض بالمهام الكبرى إلاَّ العمالقة ، لذا كان الصبر من معالم العظمة ومن دلائل هيمنة النفس واستعلائها على الخوار أو الانهيار أمام الأقدار.
والرضا قرين الصبر ، أما الصبر فهو فرض , وأما الرضا فهو فضل , فإذا اجتمع الصبر والرضا اجتمع مع التكفير الثواب لأن المصائب كفارات للذنوب قطعاً ، قال صلى الله عليه وسلم: {ما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض ما عليه خطيئة} رواه الترمذي ، ويحسن بالمؤمن أن يرتقي إلى ما هو أعلى منزلة من الصبر والرضا ، إنه الشكر ، فيرى المحنة منحة ، وأن الله جل شأنه إذا ابتلى عبده لم يرد هلاكه ، وإنما أراد إما تمحيص ذنوبه، وإما تبليغه منزلة لم يبلغها بعمله ، لأن من اشتد خوفه بكى ، ومن اشتدت مصيبته دعا ، وهذا الوقت عصيب ، وهو ساعة إجابة وساعة صدق في الطلب وما دعا صادق إلا أجيب ، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} البقرة 186.
إن فلسطين غالية ولا يضحي في سبيلها إلا أبناؤها الغوالي ، وعزاؤنا أن شهداءنا ضحوا من أجل أعدل قضية ، وارتقوا إلى بارئهم في عليين مع الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين والصالحين ، ومن هنا فإن دماء هؤلاء الشهداء الأبرار ومن قبلهم تستصرخ أبناء الشعب الفلسطيني ليتوحدوا ويكونوا على قلب رجل واحد لمواجهة الحرب الضروس التي تستهدف دينه وقضيته وهويته ووجوده على أرضه ، فطائرات العدو وصواريخه وقنابله لا تفرق بين فصيل وآخر ، وهذا الخطر الداهم يقتضيهم أن يجتمعوا ويتوحدوا ويرص صفوفهم ، قال تعالى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} الأنفال 46.
ولْنعلم أننا بصمودنا وصبرنا وثباتنا وإيماننا بالله عز وجل وعدالته سنتغلب على كل المحن ، وسنقهر المحتل ومن يدعمه ويتآمر معه للنيل من قضيتنا العادلة ، وممن يحاول حرف شعبنا عن بوصلته الحقيقية في إنهاء الاحتلال والتمسك بمقدساته وعلى رأسها المسجد الأقصى المبارك ، والتمسك بثوابته وعلى رأسها حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم في فلسطين التاريخية التي هجروا منهم بالحديد والنار ، وأيضاً تحرير أسرانا الأبطال من سجون الاحتلال.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الشيخ الدكتور تيسير رجب التميمي: عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وقاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس.
(المصدر: الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين)