“المساواة” في الإرث .. الجزء الظاهر من جبل الجليد
بقلم د. نبيل جزنائي
كثر الكلام مؤخرا عن موضوع الدعوة إلى “المساواة” في الإرث، بعدما صادق مجلس الوزراء التونسي على مشروع قانون الأحوال الشخصية الذي يتضمن أحكاما بالمساواة في الإٍرث بين الرجل والمرأة، حيث سيعرض هذا المشروع على البرلمان التونسي للمصادقة عليه في الأشهر المقبلة.
وقد تجاوز هذا الخبر حدود تونس، فوصل صداه إلى كثير من البلدان، ولاسيما تلك المجاورة كدول المغرب العربي ومصر، وهي بلدان وجد فيها في السابق من يدعو إلى هذه المساواة.
ورغم أن كثيرا من العلماء قد بينوا بطلان هذه الدعوة وتهافتها من الناحية الشرعية، في مشارق الأرض ومغاربها، وهو ما فعله عندنا جماعة من أهل العلم، كالعلامة محمد التاويل رحمه الله تعالى، والسادة الدكاترة مصطفى بن حمزة ومحمد الروكي وأحمد الريسوني وغيرهم، إلا أنه لا زال بعض المشوشين يثيرون بين الفينة والأخرى هذه القضية.
كما أن هذه الدعوة لا تقوم على أسس علمية ولا على معطيات دقيقة أو دراسات ميدانية، وإنما أقصى ما تحسنه هو اللعب على وتر حقوق المرأة، مع تنميق غلافها وتلميعه بلفظة “المساواة”.
فإن كان الأمر كذلك فما الذي يجعل دولة مثل تونس تسعى إلى سن هذا القانون ؟ وما الذي يدفع بعض الفئات إلى تبني هذا المطلب؟
هذه الدعوة التي هي في الحقيقة دعوة إلى تحريف أحكام الإرث التي جاءت مفصلة في القرآن الكريم، ترجع أصولها الأولى إلى ما دعا إليه بعض المستشرقين مع بداية القرن العشرين، ومبناها الأساس هو زعزعة قطعية النص الديني، إما بالتشكيك فيه من حيث هو، أو محاولة نزع القداسة عنه، أو القول بتاريخيته.
وهي دعوة خرجت من رحم الحداثة التي يمكن اختصارها في كونها فكرا عقلانيا ماديا، والتي من أهدافها “أنسنة” الوحي، وجعل الفكر يتمحور حول الإنسان عوض أن يتمحور حول الله تعالى.
ثم تلقف هذه الدعوة حداثيون عرب، وعلى رأسهم محمد أركون الذي سعى إلى التشكيك في الوحي من حيث أصله وثبوته، وعبد المجيد الشرفي الذي اعتبر النبوة مجرد حالة نفسية كانت تعتري نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ونصر حامد أبو زيد الذي وإن لم يسلك مسلك أركون والشرفي في التشكيك في الوحي ومصدره، إلا أنه قال بتاريخية النص القرآني، أي أن أحكامه تتعلق بظروف تاريخية محدودة، لا تخرج عنه ولا تتجاوزه، ومن ضمنها أحكام الميراث.
هكذا بتفكير سطحي وانتقائي، وخدمة لأيديولوجيات معينة ومعروفة يتم تحريف أحكام قرآنية قطعية الثبوت والدلالة، لذلك نفهم تهافت هذا الفكر ونفهم خطورته، فما هذه الدعوة إلى تغيير أحكام الإرث إلا ذريعة إلى رفع القداسة عن النص الديني، وإخضاع القرآن لما وقع للتوراة والإنجيل، والسير بالفكر الإسلامي وراء الفكر الغربي.
فهي قضية تجر معها رؤية معرفية تقوم على العقلانية المادية والقراءة التاريخية للنص الديني، شأنها كشأن الجزء الظاهر من قطعة الجبل الجليدي الذي يخفي تحت الماء أغلب أجزائه.
فالأمر جلل، والقضية كما وصفها النبي صلى الله عليه وسلم حين قال مَثَلُ القَائِمِ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ وَالوَاقِعِ فِيهَا كَمَثَلِ قَوْمٍ اسْتَهَمُوا عَلَى سَفِينَةٍ، فَأَصَابَ بَعْضُهُمْ أَعْلاَهَا وَبَعْضُهُمْ أَسْفَلَهَا، فَكَانَ الَّذِينَ فِي أَسْفَلِهَا إِذَا اسْتَقَوْا مِنَ المَاءِ مَرُّوا عَلَى مَنْ فَوْقَهُمْ، فَقَالُوا: لَوْ أَنَّا خَرَقْنَا فِي نَصِيبِنَا خَرْقًا وَلَمْ نُؤْذِ مَنْ فَوْقَنَا، فَإِنْ يَتْرُكُوهُمْ وَمَا أَرَادُوا هَلَكُوا جَمِيعًا، وَإِنْ أَخَذُوا عَلَى أَيْدِيهِمْ نَجَوْا وَنَجَوْا جَمِيعا.
(المصدر: هوية بريس)