مقالاتمقالات مختارة

المرويات الحديثية عند الشيعة الإمامية

المرويات الحديثية عند الشيعة الإمامية

بقلم عايض بن سعد الدوسري

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

كيفيَّة ثبوت نسبة الكتاب أو المرويات الحديثيَّة عن “أئمة المعصومين”، عند علماء مذهب الطائفة الإماميَّة: دراسة لحالة أنموذجيَّة، متمثلة في: كتاب (فقه الإمام الرِّضى) وهو المعروف بـ (الفِقهَ الرِّضَويَّ) عند الشيعة الإماميَّة.

هو كتابٌ تنسِبهُ الإماميَّةُ للإمامِ المعصوم الثامنِ عندهم، وهو عليِّ بنِ موسى الرِّضَى (203ﻫ) رحمه الله، وهو كتابٌ يشتمِلُ أحكاماً في الفُرُوعِ الفِقهيَّةِ، يقُولونَ إنه من تأليفِ الإمامِ الرِّضَى نفسِه!

هذا الكتابُ لم يذكُرْه أو يشِر إليه أحدٌ من الأوائلِ قطُّ إلى نهايةِ القرنِ العاشر. وإنما ظَهَرت نُسخةٌ منه بقُمَّ على يدِ أناسٍ مجهُولينَ في القَرن الحادي عَشَرَ زَمَنَ المحدِّثِ المَجلسِيِّ الأوَّلِ (1070ﻫ).

ومع هذا فقد قَبِلَ الكتابَ طائفةٌ كبيرةٌ من رؤساءِ المذهبِ، وزَعَمَ جماعةٌ منهُم أن خطَّ الإمامِ المعصُومِ مَوجُودٌ على تلك النُّسخَةِ التي ظهَرت بغتةً!

مع أن العَقلَ يُحيلُ أن يكونَ لدى الطَّائفَةِ كتابٌ بخطِّ إمامٍ معصُومٍ، ثم يختفِي تسعةَ قُرونٍ، ولا يكونُ له ذكرٌ ولو بالاسمِ، إلى أن تظهرَ نُسخَتُه الأصِيلةُ في القرنِ الحادي عَشَرَ.

وقصةُ الكتابِ تدلُّ على أن نسختَه خرجت للوجُودِ على أيدي أناسٍ مجاهيلَ قدِموا بها من قُمَّ إلى مكةَ، فاستَنسَخَها منهُم رجلٌ يقالُ له (أميرُ حُسَين)، ثم أتى بنُسخَتِه للمجلسيِّ الأوَّلُ، فقَبِلَها منهُ، واستَنسخَها عنه، ثم شَاعَ الكتابُ -بعد ذلك- بين عُلماءِ الطَّائفَة.

يقول المَجْلسِيُّ الثاني (1111ﻫ) حاكياً قصَّةَ ظُهُورِ الكتابِ: “أخبرني به السَّيدُ الفاضلُ المحدِّثُ القاضي أميرُ حُسينٍ-طابَ ثراهُ- بعدَما وَرَدَأصفَهَان قالَ: قد اتفَقَ في بعضِ سِنيِّ مجاوَرَتي بيتَ اللهِ الحرامَ أن أتاني جماعةٌ من أهلِ قُمَّ حاجِّينَ، =

وكان معهُم كتابٌ قديمٌ يوافقُ تاريخُه عصرَ الرِّضى عليه السلام، وسمعتُ الوالدَ(يعني المَجْلسِي الأول) أنه قالَ: سمعتُ السِّيدَ يقولُ: كانَ عَليه خَطُّه عليه السلام، وكانَ عَليهِ إجازاتُ جَماعةٍ كثيرةٍ من الفُضَلاءِ. وقال السَّيدُ: =

حَصَلَ لي العِلمُ بتلكَ القَرائنِ أنه تأليفُ الإمَامِ عليه السلام!، فأخذتُ الكتَابَ، وكتبتُه، وصحَّحتُه. فأخذَ والدي -قدَّس اللهُ روحَه- هذا الكتابَ من السَّيدِ، و استَنسَخَه، وصحَّحه”.اﻫ

وهذا (السيِّدُ) الذي ظهرَ الكتابُ على يَدَيه، لم يبيِّن كيفَ استطاعَ مَعرِفةَ خطِّ الإمامِ الرِّضى، وكيفَ حصلَ له العلمُ بصَحَّةِ نُسخةٍ وجَدَها مع حُجَاجٍ من أهل قُمَّ في القرنِ الحادي عَشَرَ، تنسَبُ للإمامِ المعصُومِ في القَرنِ الثاني!

والغريبُ أنَّ هذا النُّسخةَ اليَتيمةَ التي وُلدَتْ في القَرنِ الحادي عَشَرَ، لم تلبَث يَسِيراً حتى خَرَجَ لها أخواتٌ. فالمَجْلسِيُّ الأبُ كان يتحدَّثُ عن نُسخةٍ واحدةٍ فَريدةٍ، ويذكُرُ أنه استنسَخَها من ذلك السيِّدِ الذي تلقَّفَها من بعض حُجَّاجِ قمَّ.

أما المَجْلسِي الابن فصار يتحدَّثُ بعد ذلك عن نُسَخٍ للكتابِ، وليس عن نُسخةٍ واحدةٍ وحسبُ. فقد رأيتُه في مَوضِعٍ من أبوابِ الحج في كتابه (بحار الأنوار) يقولُ:

وجَدتُ في بَعضِ نُسَخِ الفِقهِ الرِّضويِّ عليه السلام فصُولاً في بَيانِ أفعَالِ الحجِّ وأحكامهِ. ولم يَكُنْ فيما وَصَلَ إلينا من النُّسخةِ المصَحَّحةِ التي أوردَنا ذكرَها في صَدرِ الكتابِ“.

ثم يتطوَّرُ الأمرُ حتى ينقُلَ الطَّهرانيُّ (1389ﻫ) عن بَعضِ شُيوخِ المذهَبِ من أصحابِ الإجَازاتِ أن كتابَ (فقه الرِّضى) من المتَواتراتِ!

ويبقَى الحالُ على هذا طيلَةَ قَرنَينِ من الزَّمانِ إلى أن يأتيَ محمدُ حسينٍ الحائريُّ(1254ﻫ) فيُنكِرَ نسبةَ الكتابِ للرِّضى، مُعتمِداً على عَدَمِ ذِكرِ الأوائلِ له، عِلاوةً على اشتمَاله على أخبارٍ متعارِضَةٍ.

ثم يأتي النوريُّ الطَبَرسي فيذكرُ أنه رأى على ظَهرِ نُسخةٍ من (فقه الرِّضى) إنكار َثبوتُه بخطَّ باقرٍ الشَّفْتي(1260ﻫ). ويتابعُ الشَّفْتيَّ على الإنكارِ تلميذهُ محمدُ باقرٍ الخَوانْساريُّ (1313ﻫ)، ويزيدُ فيَلمِزُ المَجْلسِيَّ الأولَ بأنه أيقَظَ فِتنةً نائِمةً بإشاعتِه الكتابَ.

ثم يجيءُ أخُوه محمَّدُ هاشمٍ الخَوانْساريُّ (1318ﻫ) ليكتُب رسالةً في تحقِيقِ حالِ الكتابِ، ويذكُرَ في مطلَعِها أن عُلماءَ المذهَبِ اختلفوا فيه “اختلافاً شَديداً”! وأنَّ “الكلامَ في اعتبارِه وعَدِمه مَوقوفٌ على بَسطٍ وتحقِيقٍ، وتَطويلٍ وتَدقيقٍ، وتأمُّلٍ عميقٍ“!

وبعدَ حكايةِ الأقوالِ والخلافِ انتهَى الخوانساريُّ إلى تَضعيفِ نسبةِ الكتابِ للرِّضى، واستظهَرَ أنه من تَصنيفِ بَعضِ القُدَماءِ منالرُّواةِ. لكنَّه يُضيفُ، فيقرِّرُ أن هذا لا يمنعُ من الانتفاعِ به في مَقامِ تعارُضِ الأخبار! ولأجلِ هذا جَعَلَ عنوان رسالته:

(رسالةٌ في تحقيقِ حالِ فقهِ الرِّضى، وإثباتَ أنه صَالحٌ لتَقويَةِ أحَدِ المتعَارِضَينِ).

وفي منتصفِ القرنِ الرابعَ عشَر كتَبَ حسن الصدر (1354ﻫ) رسالة بعنوان (فَصل القَضا في الكتابِ المشتَهِر بفِقه الرِّضَى)، ذَكرَ في مُقدَّمتها أن الكتابَ “صَارَ مَعركةً للآراءِ بينَ أولي الألبابِ، وكتَبُوا في تحقيقهِ الكتاباتِ، مُختصَراتٍ ومُطَوَّلاتٍ، مُنفَرَداتٍ ومُنضَمَّاتٍ…”.

وبعد مقارناتٍ أجراها لمضمون الكتاب انتهى إلى أنه عين كتابِ (التكليفِ) للشَّلْمَغاني، المعروفِ بابن أبي العَزاقرِ (323ﻫ)، الذي ينقُلونَ أن الإمامَ المهديَّ الغائبَ ذمَّه ولَعَنه، وحكم بارتدادِه عن الإسلام! وقد جوَّز المعاصِرُ محمد تقي التستري (1415ﻫ) هذا الاحتمالَ، ولم يجزِم به.

ومع مرورِ الوقت بدأت تتزايد الأسماء المتردِّدةُ في إثبات الكتاب عن الإمام الرِّضَى، وقد يجزم بعضهم بنفيه وإنكارِه. لكن هذا التردُّدَ والإنكار –مع قلَّته- جاءَ مُتأخِّراً بعدما أخذَ الكتابُ مكانه في المكتبة الإماميَّةِ، وبعدما شاعَ الاستدلالُ والنَّقلُ عنه في مُصَنَّفاتِ علمائها.

ذلك أنه عندَ خُروجِه حَظِيَ بتأييدِ وقَبولِ أعيانِ المذهَبِ ورؤسَائه، وقد وافَقَ ذلك وقتَ ازدهارِ حَرَكةِ التأليفِ في صُفُوف الإماميَّةِ في ظِلِّ دَولة الصَّفَويِّينَ، فقد صحَّحَ الكتابَ واعتمدَه من كبار علماء وفقهاء ومتكلمة الإماميَّة من أمثال:

المَجلسِيُّ الأول (1070ﻫ)، وابنه المجلسيُّ الثاني (1111ﻫ)، والمحدِّثُ نعمةُ اللهِ الجزائريُّ(1112ﻫ)، والميرزَا عبدُ اللهِ الأفَنديُّ(1130ﻫ)، ويوسُفُ البَحرانيُّ(1186ﻫ)، والوُحِيدُ البَهْبَهانيُّ(1205ﻫ)، وعَليٌّ الطَّباطَبائيُّ(1231ﻫ) صاحبُ (رياض المسَائل)، =

والميرزَا أبو القاسم القُمِّيُّ(1231ﻫ)، والمولى أحمدُ النَّراقيُّ(1244ﻫ)، والميرزا النُّوريُّ الطَبَرسيُّ(1320ﻫ)، والفاضلُ الهنديُّ(1337ﻫ)، وآخرونَ غيرُ هؤلاء.

ومن الكبارِ الذين أثبَتُوا الكتابَ محمدُ مهديٍّ بحرُ العُلومِ(1212ﻫ) في فوائده الرِّجاليَّةِ، وقالَ: “على ذلك جَرَى جَماعةٌ من مَشَايخِنا الأعلامِ”. وله رسالةٌ بعنوان (الفوائد الأصُوليَّة) أفردَ مَبحَثاً بآخرِها لإثبات الكتابِ.

وهؤلاء هم مشاهيرُ الطَّائفَةِ وأعيانها وقتَ خُرُوجِ الكتابِ، ولم أجد مُعيَّناً أنكرَه وقتَ ظهورِه. اللهُم إلا موقِفاً رَخواً اتخذه الحرُّ العامليُّ (1104ﻫ)؛ إذ كانَ يقُولُ إن الكتابَ في “سَنَده تأمُّلٌ!…فإذا كانَ فيه مَسألةٌ ليس لها دليلٌ في غَيرِه ينبغِي التوقُّف فيها“!

وإن من العجيبِ أن يقع التأمُّلُ أو التردُّدُ في مثلِ هذا الكتابِ المنسوبِ لمن تعتقدُ الطَّائفَةُ إمامتَه وعِصمَتَه وحُجِّيةَ أقواله وأفعاله، مع أن ظُهورَه جاءَ على أيدي أناسٍ مَجاهيلَ بَعد وَفَاةِ الإمامِ بتسعَةِ قُرونٍ!

فلو أنَّ عالماً مَعرُوفاً مَوثُوقاً في أيِّ فن من الفُنونِ، نَسبَ لعالمٍ آخرَ مُتقدِّمٍ عنه بقُرونٍ كتاباً لم يذكُره أحدٌ في ترجمته، ولا أشارَ إليه أحدٌ من أصحَابه وأهلِ زَمانه، لكانَ حَريَّاً بالرَّد والتشكيكِ، فَكيفَ بكتابٍ يُنفَرِدُ به مجاهيلُ، وينسبُونَه لمعصوم مفترض الطاعة؟!

فالتساهُلُ في قَبُول الكتُبِ والنُّسخِ عند الإماميَّةِ مسلكٌ ظاهرٌ، يتنافى مع ما يُفترَضُ من الحذَرِ والتحرِّي عند نسبةِ الأقوالِ لمن تعتقِدُ الطائفةُ عصمتَهم. ومن الغرائبِ التي تُذكَرُ هنا -والتي يصعُبُ رؤيتُها عند غيرِ الإماميَّةِ- ما نقله نعمةُ الله الجزائريُّ (1112ﻫ) =

عن شيخه المحدِّثِ عبدِ عليٍّ الحُوَيزيِّ أنه كانَ يقُولُ: “يجوزُ أن يكونَ هذه الأقوالُ المنقولَةُ في كتُبِ الفُقهاءِ التي لا يُعلَم قائلُها قَولاً للإمامِ ألقَاها بين أقوالِ العُلمَاءِ حتى لا يُجمِعُوا على الخطأ“.

قالَ الجزائريُّ: “وكانَ -قدَّسَ اللهُ ضَريحه- يذهَبُ إلى اعتبارِ تلك الأقوالِ المجهُولةِ القائلِ“.

قلتُ: والكتب والرويات الشبيهة بكتاب (الفقه الرضوي)، التي قبلتها الإمامية كثيرة ومتعددة، ويمكن الرجوع للمزيد منها إلى هذه الدراسة الفريدة والمتميزة في هذا الباب، والتي تم نقل التغريدات السابقة بتمامها منها، نسأل الله أن ترى النور قريبًا.

 

-كتاب أصول الحديث وعلم الرجال عند الإمامية – رسالة مقدمة لنيل درجة الدكتوراه في السنة وعلومها – من إعداد بندر بن عبدالله الشويقي – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – كلية أصول الدين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

(المصدر: موقع مداد)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى