أن يكون طالب العلم مع عطائه العلمي ذا مروءة تامة يبذل المعروف ويواسي المحتاج ويكسب المعدوم ويسلي الحزين ويعين على نوائب الحق فهذا فتح إلهي وتوفيق رباني إذ المروءة عزيزة المطلب منيعة الجانب وقد وصفها أبو الطيب بأنها تؤذي وذلك حين يقول:
تلذ له المروءة وهي تؤذي ومن يغرم يلذ له الغرام
وقد برز في هذا الباب أئمة من أهل العلم وفي طليعتهم الإمامان الليث بن سعد وعبدالله بن المبارك وقد كان الإمام مسلم يلقب بـ (محسن نيسابور) وقد أخذ شيخ الإسلام ابن تيمية من ذلك بحظ وافر فقال عنه الذهبي (وسائر العامة تحبه لأنه منتصب لنفعهم ليلاً ونهاراً بلسانه وقلمه) وسيرة الإمام ابن باز في بذل المعروف حافلة فهو ابن بجدته وطلاع أنجدته.
وما قصة اشتراء العلامة بكر أبو زيد رحمه الله بيتاً للعلامة عبدالقادر الأرناؤوط رحمه الله إلا من هذا القبيل والقصة مدونة في ملتقى أهل الحديث وأثبتها الدكتور المفيد علي العمران في كتابه “نثار السيرة” والقصة حقيق أن يحتفى بها فهي درس في المروءة يغني عن كثير من دروس التنظير وكم من إنسان سخي اللسان ولكنه عند المحاققة تخالف أقواله أفعاله.
وقد كنت قبل أيام مع بعض الأصحاب في زيارة لجمهورية كوسوفا فالتقينا الشيخ عبدالقادر بن محمود بن عبدالقادر الأرناؤوط فطلبت منه الحديث مفصلاً عن هذه الحادثة التي حصلت مع جده إذ أهل البيت أدرى بما فيه فتفضل الشيخ عبد القادر بسرد ذلك فرأيت أن أكتب روايته لما فيها من البسط الذي لا يوجد عند غيره والله المستعان.
ففي مطلع عام ١٤١٤هـ زار الشيخ بكر أخاه الشيخ عبدالقادر في سوريا وكانت هذه هي الزيارة الأولى فوافاه الشيخ بكر في شقته في منطقة يقال لها أبو حبل تقع في حي الميدان وكانت الشقة في ممر ضيق لا تكاد تعبر معه السيارة وكانت الشقة مكونة من ثلاث غرف ودورة مياه وصالة وكانت عائلة الشيخ عبدالقادر كبيرة وكان يقضي معظم وقته مع أولاده في هذه الشقة وقد اتخذ إحدى غرفها الثلاث مكتبة له وكانت تحفل دوماً بطلاب العلم والمستفتين وفي ختام هذه الزيارة ذكر الشيخ بكر بأنه كثير الزيارة لسوريا وأنه يريد أن يتخذ فيها سكناً يكون مقراً له وطلب من الشيخ عبدالقادر أن يُعْمل البحث عن أفضل سكن في أفضل حي فرحب الشيخ عبدالقادر بالفكرة وطفق يبحث عن طلبه فوقع على بيت فخم البناء واسع الأرجاء يقع في كورنيش الميدان أفضل مكان في الميدان في بناء تطيف به الحدائق يتكون من صالتين وأربع غرف كبيرة وشرفة واسعة مطلة فاتصل الشيخ عبدالقادر بالشيخ بكر وأخبره أنه وجد بغيته وطلب مجيئه فاعتذر الشيخ بانشغاله وطلب من الشيخ عبدالقادر أنه ينهي إجراءات اشترائه وكان مبلغ الشراء ٨,٠٠٠,٠٠٠ ملايين ليرة سورية أي ما يعادل ١٥٤ ألف دولار آنذاك وأفاد الشيخ عبدالقادر الشيخ بكر بأن البيت على الهيكل وأنه بحاجة لإكماله وتجهيزه بالأثاث فطلب منه أن يكمله على أحسن حال فأكمله وجهزه بالأثاث بما يقارب ٤,٠٠٠,٠٠٠ ملايين ليرة سورية أي ما يعادل ٧٧ ألف دولار آنذاك ثم جاء الشيخ بكر فذهب به الشيخ عبد القادر إلى البيت فمشى فيه فرآه على أحسن حال ثم جلسا في شرفته وقد كانت محاطة بالأزهار المختلفة مغطاة بعريش العنب وقد تدلت عليه عناقيده المثمرة وسلمه المفتاح فما كان من الشيخ بكر إلا أن أعاده عليه وقال له هذا البيت لك فإني لما زرتكم وجدت بيتكم يضيق بالطلاب والمستفتين وأنتم مأوى للناس فلعلكم أن تتوسعوا بهذا البيت فكان شعور الشيخ عبد القادر بهذه الهدية العظيمة يقصر الوصف دونه وتأمل حال الكريم إذا أكرمته كيف تكون وقد كان هذا البيت للشيخ عبدالقادر بمثابة حبيب جاء على فاقة وطلب الشيخ بكر من الشيخ عبد القادر كتمان الأمر فلم يستطع الشيخ ذلك لعظم هذا المعروف ورأى أن من الوفاء للشيخ بكر أن يذكر القصة حتى يدعو الناس له ولم يزل الشيخ عبدالقادر إلى أن توفي ممتناً للشيخ بكر ذاكراً نعمته هاته موصياً أولاده دوماً بالدعاء له وما أجمل المعروف حين يصيب أهله.
وأكرم بطالب علم تكون هذه المعاني حاضرة عنده ولقد أوصى بذلك الشيخ بكر رحمه الله في كتابه حلية طالب العلم بقوله (تمتع بخصال الرجولة من الشجاعة وشدة البأس ومكارم الأخلاق والبذل في سبيل المعروف حتى تنقطع دونك آمال الرجال).
وكما يتعلم طالب العلم مسائل العلم فكذلك ينبغي له تعلم أصول المروءة وخصال الرجولة فإذا هما اجتمعا لنفس مرة حازت من العلياء كل مكان وكل يبذل على قدر سعته لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها والله الموفق يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
وكتبه
أ.د.صالح بن فريح البهلال
١٤٣٩/١١/٨هـ
أستاذ الحديث في كلية التربية بالزلفي
وخطيب جامع الحسين بالزلفي