المربط الصفوي مقاربات عقدية وسوسيولوجية وسياسية وتاريخية 18
إعداد أكرم حجازي
المبحث الرابع
إيران واعتراض الثورات العربية
بالمقارنة مع نظم اليوم؛ فلم يكن الحجاج بن يوسف الثقفي مستبدا عادلا بقدر ما اتصفت سيرته بالظلم والجور وسفك الدماء. لكن المؤكد أن شرعيته لم تكن جزء من شرائع وضعية، ولا من تحالفات مع قوى دولية مهيمنة خارج الحضيرة الإسلامية. لكن في عصر الحكم الجبري الذي نعيش، فإن الشرعية الأبرز للنظم السياسية العربية هي تلك التي تتيحها الشرائع الوضعية المهيمنة على العالم، عبر ما يسمى بالنظام الدولي ومؤسساته التابعة. وبالتالي فالاستبداد الشائع محاط بحماية دولية غير مسبوقة. وتبعا لذلك فإن المعادلة القائمة، بين السلطة والأمة، ليست أصيلة ولا حقوقية ناهيك أن تكون شرعية، إلا في حدود الاجتماع القائم على العصبية القبلية أو الأسرية التاريخية أو المصلحية.
وتبعا لذلك ثمة حديث رسمي لا ينقطع عن الوحدة الوطنية رغم أنه مصطلح وضعي انتهازي لا علاقة له بالشريعة ولا بالحق ولا بالحقيقة. ولم يكن في يوم ما رابطا اجتماعيا. وهو في الواقع دائما ما يتوجه إلى الداخل، باعتباره رابطا أمنيا صرفا، لا وظيفة له إلا ضبط العلاقة بين النظام السياسي والمجتمع. لذا؛ من الطبيعي أن تضعه أشد النظم استبدادا ودموية في مقدمة خطوطها الدفاعية لتبرير استمرار تمسكها بالسلطة، بموجب معادلة « الأمن مقابل الاستبداد» … هبة النظم السياسية العربية للشعوب. وتبعا لذلك؛ فإن أية محاولة احتجاج شعبية أو نقابية، ولو ذات طابع مطلبي أو حقوقي، ستكون متهمة تلقائيا بخرق الوحدة الوطنية واستهداف الأمن والاستقرار وتهديد السلم الاجتماعي. لكن إذا ما ضعفت القبضة الأمنية، لأي سبب، تشظت المرجعيات المصطنعة للمصطلح، كالتعايش والتوافق والاعتدال والوسطية وغيرها من الترهات. واتجهت ذات القوى، السياسية والاجتماعية، التي كانت تدافع عن الوحدة الوطنية نفاقا، إلى الاستقطاب وتصفية الحسابات.
من الحتمي، مع هكذا شرعيات ومعادلات حكم، أن تنفجر الصيغة القائمة عاجلا أم آجلا. وهكذا كان في
17/12/2010، حين انطلقت الشرارة من محمد بوعزيزي، المثقف الذي يعمل بائعا على عربة خضار، في تونس. وفي أقل من شهر على اندلاع الاحتجاجات، سقط أحد أعمدة الاستبداد في العالم العربي. ولأن المشكلات متماثلة، فقد مثلت هذه الشرارة نموذجا يحتذى لدى الشعوب العربية، حيث انطلقت الاحتجاجات تباعا في مصر وليبيا واليمن وسوريا والعراق والأردن والبحرين والمغرب، وسط « همهمات» شعبية في دول أخرى كالجزائر والسعودية وموريتانيا والكويت ولبنان. بل أن صدى ما أُطلق عليه الربيع العربي بلغ مشارق الأرض ومغاربها، لاسيما دول أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية.
أدرك العالم خطورة ما يحدث في المنطقة. فلأول مرة يتحرك عامة الناس كفاعل استراتيجي ظل مغيبا منذ عشرات السنين. وجاءت أعمق ردود الفعل الدولية، عبر ذلك التصريح المبكر في 5/2/2011، الذي أدلت به وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلينتون، في مؤتمر ميونخ الأمني، حين قالت بأن: « منطقة الشرق الأوسط تواجه عاصفة بكل معاني الكلمة»[1]. أما بعد مضي خمس سنوات على « العاصفة» فقد صار الحديث يجري عن « زلازل» تنبئ بـ « انهيار النظام الدولي» ونهاية عصر معاهدة « سايكس – بيكو» التي حكمت المنطقة قرابة المائة عام. فكيف قرأت إيران وقائع العاصفة؟ وكيف تفاعلت مع حراك « المستضعفين» و « المظلومين»؟
لا شك أن إيران، شاءت أم أبت، ستكون في قلب الحراك ما لم تتحرك لاحتوائه، لاسيما أن حراك انتخابات 2009 المزورة لم يبرد بعد، من شدة القمع الذي ووجه به. وكان أول رد فعل إيراني من قبل خامنئي صدر في 4/2/2011، في أعقاب سقوط الرئيس المصري الأسبق، حسني مبارك، حين قال: « إن الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 التي أطاحت بالشاه المدعوم من الولايات المتحدة مثال للشعوب التي تعيش في ظل أنظمة دكتاتورية مشابهة». وفي خطبة الجمعة أمام المصلين في طهران، قال:« صحوة شعب مصر الإسلامي هي حركة تحرير إسلامية، وأنا باسم الحكومة الإيرانية أحيي الشعب المصري والشعب التونسي»[2].
ومع انفجار الاحتجاجات الشعبية في ليبيا واليمن وسوريا والبحرين، سارعت إيران إلى الاستثمار في الثورات الشعبية، عبر تأسيس ما أسمي بـ « مؤتمر الصحوة الإسلامية». وعشية افتتاحه الأول في طهران، في 17 – 18/9/2011، أعلن وزير الخارجية الأسبق، علي أكبر ولايتي، في مؤتمر صحفي، أن المؤتمر سيناقش خمسة محاور رئيسية، هي: (1) أسس الصحوة الإسلامية ومفاهيمها، و (2) دور الأشخاص المؤثرين فيها، و (3) تعريف التيارات، و (4) دراسة المخاطر التي تهدد الصحوة الإسلامية، و (5) توحيد صفوفها، بالإضافة الى مناقشة أهداف الصحوة الإسلامية وتداعياتها ومستقبلها.
المهم؛ أنه خلال الافتتاح، ألقى مرشد الثورة، علي خامنئي، كلمة قال فيها: « إن الهبات العربية استلهمت من
الثورة الإسلامية الإيرانية مفاهيمها ومعانيها»، وأن « أهمية هذه الهبات تكمن في أنها تنبثق من الجماهير لا من مجموعة معينة قليلة من الناس»، وأن: « تونس واليمن والبحرين سوف تجري على منهاج واحد من إحياء العزة والكرامة الوطنية لنيل مطالبها كما أن ما نعرفه عن مصر تاريخا وشعبا هو الذي دفع الشعب المصري إلى النزول إلى الساحة لقول كلمته». ثم وجه كلمته لأنصار الثورات العربية قائلا: « لا تثقوا بأميركا والناتو والأنظمة الإجرامية مثل بريطانيا وفرنسا وإيطاليا التي قسمت من زمن بعيد أراضيكم ونهبتها، ولا تصدقوا ابتساماتهم ووعودهم التي تختبئ خلفها المؤامرات والخيانة»[3].
لم يغب « مثال» خامنئي عن المؤتمر، فقد أتى على تفصيله وزير الخارجية، علي أكبر صالحي، في كلمته. ونقلت وكالة « إرنا» الإيرانيةللأنباء عنه القول، مبدئيا،: « إن إيران ترى بأن الثورات الأخيرة في المنطقة هي حركات شعبية أصيلة لها أهداف ودوافع إسلاميه عالية وهي نتاج الصحوة الإسلامية في العهد الراهن، ولم تتفاجأ إيران به». لكن هذه الأصالة بشروط! وبحسب صالحي فإن: « الحركات الشعبية بحاجة الى عنصري النموذج والحافز»، ولعله من باب اختصار الوقت، قدم صالحي عرضا صريحا للثورات العربية يقول فيه: « إن إيران التي حققت انجازات ملفتة بكافة الميادين تعتبر نموذجاً مناسباً»[4].
وفي الإجمال فإن كل الاحتجاجات في العالم العربي بحسب خامنئي هي بمثابة « الصحوة الإسلامية التي تسير على الطريق الذي رسمه الرسول»، باستثناء الثورة السورية التي لم تعد شعبية ولا أصيلة، لا لشيء إلا لأنه يعتبرها مجرد « نسخة مزيفة عن الثورات في مصر وتونس واليمن وليبيا، … لأن يد أمريكا في أحداث سوريا مكشوفة بوضوح» بخلاف الحال في البحرين، حيث الاحتجاجات هناك، بحسب خامنئي، هي: « النضال الحقيقي المماثل لحركة الشعب المصري والتونسي واليمني»[5]. لذا، وبطبيعة الحال، لم يكن للثورة السورية أي حضور أو تمثيل في المؤتمر.
فشلت إيران، التي تتمتع بمكر ودهاء كبيرين، في الاختبار فشلا ذريعا. ووقعت في فخ الثورات الشعبية العربية، فلم تأت الثورات على هواها، بما يوافق وما سبق وأعلنه الرئيس الإيراني السابق، أحمدي نجاد، صراحة في تصريحات نقلتها وكالة «إيرنا» الإيرانية، خلال حفل توديع وزير الأمن الإيراني السابق وتقديم الوزير الجديد، عن حقيقة دولة « ولاية الفقيه» من أن: « هدف النظام الإيراني هو نشر التشيع في العالم، ورفع راية المهدي المنتظر»، وأن:« نشر هذه المهمة في العالم يقع على عاتق الجمهورية الإيرانية»، وأنه:« في النظام الولائي فإن الجميع هم جنود إمام العصر المهدي المنتظر»، وأن:« ولاية الفقيه هي حلقة الاتصال مع الأمام المهدي»، وأن:«
هدفنا الغائي هو تحقيق الأسرة العالمية المهدوية»[6].
هكذا انكشفت خطط إيران ومساعيها في فرض الوصاية على الثورات أو احتوائها. وتبين بأبلغ الأدلة، لعامة المسلمين فضلا عن خاصتهم، أن « المستضعفين» و « المظلومين» في العالم ليسوا سواء، مثلما هو حال « المستكبرين». وبلا أية مبالغات تُذكر؛ فإن إيران نجحت حين استثمرت في التشيع وآل البيت، وحياكة العلاقات الخفية مع «إسرائيل» والولايات المتحدة وروسيا وعموم الغرب، والتحالفات الدولية، وتسقيط البلدان الإسلامية، وفي النظم السياسية، والجماعات الإسلامية وحركات المقاومة الإسلامية في فلسطين، والأيديولوجيات القومية، والمشروع النووي وغيرها. لكن استثمارها في الثورات العربية مثل أنكى هزيمة لها منذ انتصاب « ولاية الفقيه» على رأس السلطة في إيران.
لا شك أن أطروحة إيران الزاعمة بأنها لم تفاجأ بالثورات الشعبية، باعتبارها، كما يقول صالحي « نتاج الصحوة الإسلامية في العهد الراهن»، لم تعد ذات جدوى، بعد أن أتت عليها الثورات الشعبية من الجذور، وأطاحت برصيدها في العالم الإسلامي إلا من بعض الدوغمائيين من القوميين العرب، ورموز إسلامية لو وجد بعضها له موطئ قدم في مكان آخر لما بقي أحد منهم يندب حظه العاثر أمام العتبات المقدسة. بل أن الثورات العربية التي أطاحت بالأيديولوجيا الناعمة لتصدير الثورة، أغلقت الأبواب أمام إيران، ودفعتها لمزيد من الانكشاف عبر التدخلات المباشرة، وقيادة الثورات الطائفية المضادة، إلى الواجهة، وباستعمال مكشوف لكافة أدوات القوة، الأمنية والعسكرية والديمغرافية، وعبر تفعيل الطابور الخامس من طوائف الشيعة في العالم الإسلامي، والزج بهم في مواجهات طاحنة.
لذا؛ لم يعد لإيران أية فرصة للحديث عن محور مقاومة وممانعة، وهي التي سلمت أفغانستان والعراق لـ « الشيطان الأكبر» وصغاره، وهدمت سوريا، وشردت أهلها وأعملت فيها مذابح صفوية، وانقضت على الثورة اليمنية عبر حركة الحوثيين، واستولت على العراق ولبنان، وتهدد بالمزيد من التوسع.
ولا يمكن لإيران أن تتوارى خلف أطروحة المقاومة والممانعة، وحرب « المستضعفين» ضد « المستكبرين»، وهي تعترض مسار الثورات العربية بوحشية دموية، خاصة في سوريا والعراق واليمن، وفي نفس الوقت تخوض، مع أدواتهان حروبا توسعية تصفها بـ « المصيرية» تارة و « الوجودية» تارة ثانية و « الدفاعية» تارة ثالثة.
ولا يمكن أن تتأسى الثورات العربية بنموذج ثورة الخميني، لتصبح، هي والأمة، مطية للتوسع الفارسي
المجوسي، وسبيلا لهدم الإسلام … تلك الثورة التييزعمون أن الله عز وجل« يريدها شيعية المنطلق إسلامية الصيغة عالمية الأهداف».
باختصار؛ انتهى عصر الخداع. فكان على إيران أن تختار بين الهزيمة المنكرة التي تلقتها من الثورات الشعبية أو الانكشاف التام، والتوجه نحو الداخل الإسلامي بكل ما أوتيت من أدوات للقوة، وتحالفات صريحة مع النظام الدولي. فكان الخيار الثاني بدايةً لصراع علني سياسي انتقامي حاقد، يستلهم وقائعه التاريخية من مكانة الإمبراطورية الفارسية قبل الإسلام، وما حل بها من زوال في بداية التاريخ الإسلامي. لكنه صراع، وإنْ شعر بقليل من النشوة والطموح في التوسع، بذات الحيثية التاريخية التي كانت تتوسع بها الإمبراطورية الفارسية، إلا أنه يظل مشوبا بالخوف والقلق في ظل معادلة « لا كسرى بعد كسرى». فلنتابع أبرز مفرداته عبر بعض التصريحات لقادة إيران ومعمميها.
[1] « كلينتون: الشرق الأوسط في عاصفة»، 5/2/2011، موقع«الجزيرة نت»: http://cutt.us/aH5h
[2] « خامنئي يشيد بالانتفاضة الاسلامية في العالم العربي»، وكالة« رويترز» للأنباء، 4/2/2011. على الشبكة:http://cutt.us/b3o8M
[3] « خامنئي يمتدح الثورات ويتجاهل سوريا»، 17/9/2011، موقع «الجزيرة نت»، على الشبكة: http://cutt.us/3sxW6
[4] « وزير الخارجية الإيرانية: لم نتفاجأ بتطورات المنطقة»، صحيفة« الرياض» السعودية، 19/9/2011، على الشبكة: http://cutt.us/A7By
[5] « خامنئي يرى الاحتجاجات في البحرين حقيقية وفي سوريا انحرافاً»، 30/6/2011، موقع « العربية نت»، على الشبكة: http://cutt.us/y1UKW وجاءت توصيفاته هذه في خطاب له بمناسبة يوم البعثة النبوية حسب التقويم الشيعي.
[6] « نجاد: هدفنا نشر « التشيع» ورفع راية « المهدي المنتظر»، 9/9/2009، صحيفة « الوطن»، على الشبكة: http://cutt.us/N167s
(المصدر: رسالة بوست)