مقالاتمقالات مختارة

المد والجزر في الإسلام (1)

المد والجزر في الإسلام

 

بقلم أبو الحسن الندوي

 

حال العرب قبل الإسلام

كان العرب قبل الإسلام أمة كادت تكون منعزلة عن العالم، قد فصلتها عن العالم المتمدن المعمور البحار من ثلاثة جوانب، وصحراء من جانب، وكانت من الانحطاط والضّعَة والخمول بمكان لا تطمع فيه حينًا من الدهر إلي غزو البلاد، ولا تحلم بالانتصار علي الدول المجاورة لها في المنام، ولا تَحَدَّث به يومًا من الأيام.

هذا، ودولتا فارس والروم يومئذ سيدتا العالم، وزعيمتا الشرق والغرب، وقد أحاطت ممتلكاتهما بشبه جزيرة العرب، إحاطة السِّوَار بالمعصم، وإنما زهد الفرس والرومان في فتح هذه الجزيرة لوعورتها، وقلة خيراتها وموارده، وما يكلفهم ذلك من رجال وأموال، وفي هذه الأمة الفقيرة، وإنما اكتفوا برقابتهم السياسة عليها، وبإمارتهم التي أنشؤوها علي ثغور هذه الجزيرة الواسعة ولَهَواتها.[i]

هكذا كانت هذه الأمة التي ما كانت لتمثل دورًا مدهشًا في تاريخ العالم عن قريب، كانت أمة بدوية موهوبة- ولكن مواهب ضائعة- لا يرفع الناس بأفرادها في العراق والشام ومصر رأسًا، إذا مرّوا بهم تجارًا أو ممتارين[ii]، ولا يحسبون لهم حسابًا، ولا يهمهم شأنهم إلا ما يهم أهل المدن شأن الأعراب المستعربين في اللباس، والصورة واللسان، ولا يذكرونهم- إذا ذكروهم- إلا بذَلاقة لسانهم، وفصاحة منطقهم، وشجاعته، وجودة خيلهم ووفائها، إلي غير ذلك مما قد تعرفه الأمم المتمدنة عن الأمم البدوية.

آراء رجال ذلك العصر في العرب

وإذا أردت أن تعرف منزلة العرب عند أهل العالم، قبل الإسلام، والنظرة التي كان ينظر إليهم بها جيرانهم في الشرق والشمال[iii]، فاستعرض الآراء التي أبداها رجال ذلك العصر، من أهل البصر والمعرفة، ووافق عليه العرب أنفسهم وزادوا عليها.

فمما حفظه لنا التاريخ من هذه الآراء، ما قال إمبراطور الدولة الفارسية لسفراء المسلمين.

جاء في كتاب البداية والنهاية لابن كثير الدمشقي بعد ما ساق حديث رُسِل المسلمين في مجلس يزدجر:

قال:” فتكلم يزدجر فقال: إني لا أعلم في الأرض أمة كانت أشقي ولا أقل عددًا، ولا أسوأ ذاتِ بَيْن منكم، قد كنا نوَكِّلُ بكم قري الضواحي ليكفُوناكم، لا تغزوكم فارس، ولا تطمعون أن تقوموا لهم؛ فإن كان عددكم كثر، فلا يغرّنكم منا، وإن كان الجَهد[iv] دعاكم، فرضنا لكم قوتًا إلي خصبكم وأكرمنا وجوهكم، وكسوناكم، وملَّكنا عليكم ملكًا يرفق بكم”.

فقال المغيرة بن شعبة:

“أيها الملك، إنك قد وصفتَنا صفة لم تكن بها عالمًا، فأما ما ذكرتَ من سوء الحال، فما كان أسوأ حالًا منا، وأما جوعنا فلم يكن يشبع الجوع، كنا نأكل الخنافس والجِعْلان، والعقارب والحيّات، ونري ذلك طعامنا. وأما المنازل فإنما هي ظهر الأرض، ولا نلبس إلا ما غزلنا من أوبار الإبل وأشعار الغنم.

ديننا أن يقتل بعضنا بعضًا، وإن كان أحدنا ليدفن ابنته وهي حية، كراهية أن تأكل من طعامه، وكانت حالنا قبل اليوم علي ما ذكرتُ لك، فبعث الله إلينا رجلًا…إلخ”[v].

وجاء في هذا الكتاب أيضًا:

“…وقد بعث أمير الفرس، يطلب رجلًا من المسلمين ليكلَّمه، فذهب إليه المغيرة بن شعبة، من عِظَم ما رأي عليه من لبسه، ومجلسه، وفيما خاطبه به من الكلام في احتقار العرب، واستهانته بهم، وأنهم كانوا أطول الناس جوعًا، وأبعد الناس دارًا، وأقذر الناس قذرًا، وقال: ما يمنع هؤلاء الأساورة[vi] حولي أن ينتظموكم[vii] بالنشّاب، إلا تنجسًا من جِيَفكم، فإن تذهبوا نُخَلِّ عنكم، وإن تأبَوا نُزرْكم مصارعكم. قال: فتشهَّدْتُ وحمدت الله وقلت: لقد كنا أسوأ حالًا مما ذكرت حتى بعث الله رسوله…إلخ”[viii].

وفي هذا الكتاب أيضًا:

“وذكر الوليد بن مسلم: أن (ماهان) طلب خالدً ليبرز إليه فيما بين الصَّفَّين، فيجتمعا في مصلحة لهم، فقال ماهان: إنا قد علمنا أن ما أخرجكم من بلادكم الجهد والجوع، فهلُمُّوا إلي أن أعطي كل رجل منكم عشرة دنانير، وكسوة وطعامًا، وترجعون إلي بلادكم. فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها”[ix].

وهذا كله يدل علي ما كان يساوي العرب عند الروم، وعلي ما كان لهم من قيمة ومنزلة عندهم.

***

تغيُّر حال العَرب بالإسلام

ولكن سرعان ما تغيرت الأحوال، وانقلبت الحقائق، وبطلت التجارب السابقة، وتاه العقل؛ إذ خرج هؤلاء الأعراب من صحرائهم، يفتحون، ويقهرون، ويغلبون، ويُخضعون. تدفق هذا السبيل من مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم عاصمة العرب الإسلامية، لإحدى عشر سنة للهجرية النبوية، واثنين وثلاثين وست مئة لميلاد المسيح، فغلب كلَّ شيء اعترضه في الطريق، وطما[x] علي السهل والجبل، ولم تكن جيوش فارس والروم ومصر وغيرها المعدودة بمئات الألوف، الشاكَّة السلاح[xi]، الشديد البطش، التي كانت الأرض تزلزله بها زلزالًا، لم تكن هذه الجنود المجندة إلا حشائش في هذا التيار الجارف، فلم تعق سيره، ولم تغيِّر مجراه، حتي فاض في مروج الشام، وفلسطين، وسهول العراق وفارس، وربوع مصر والمغرب الأقصى، وأودية هملايا، سال هذا السيل القرى بالمدنيات العتيقة، والحكومات المنظمة القوية، والأمم العريقة في المجد والسلطان، فأصبحت خبرًا بعد عَيْنِ:(فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ)  {سبأ:19}.

خرج العرب من جزيرته فاحتكُّوا بالفرس والروم، وكان العرب يكرهون وجوههم[xii] ويرهبون سطوتهم في ديارهم؛ ولكن هانوا عليهم في هذه المرة، فغزوهم في عقر دارهم، ونزلوا لساحتهم، فما لبثوا أن مزقوا جموعهم شر ممزّق، وثَلُّوا عروشهم[xiii]، ووطئوا تيجان ملوكهم، وسبَوا ذراريهم، ومزَّقوا رداء فخرهم وعظمتهم، فلم يرقع أبدًا، وكسروا شوكتهم، فلم تعد أبدًا، وهلك كسري فلا كسري بعده، وهلك قيصر فلا قيصر بعده(وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا)  الأعراف:137).

خرج هؤلاء العرب من جزيرتهم في ثياب صَفِيقة[xiv] مرقَّعة، ونعال وضيعة مخصوفة[xv]، يتقلَّدون سيوفًا بالية الأجفان[xvi]، رثة المحامل،علي خيل بعضها عارية الظهور، متقطعة الغرز[xvii]، قد بلغ بهم البعد عن المدنية إلي حد أنهم كانوا يحسبون الكافور ملحًا، وربما استعمله بعضهم في العجين[xviii].

فما لبثوا أن ملكوا الدنيا، وامتلكوا ناصية أمم بعيدة الشأو في المدينة، انقلب رِعاءُ الشام والإبل، رعاة لأرقي طوائف البشر في العلم والمدنية والنظام، وصار هؤلاء أساتذتهم في العلوم والآداب، والأخلاق والتهذيب، وحقت كلمة الله:(وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ)  {القصص:5}.

***


[i] لهواتها: أطرافها البعيدة.

[ii] الممتار: من يجلب الميرة، وهي الصعام.

[iii] كان جيران العرب في الشرق الفرس، وجيرانهم في الشمال الرومان

[iv] الجهد: المشقة والبلاء

[v] البداية والنهاية\41-42.

[vi] الإسوار والأسوار عند الفرس: القائد، جمعه أساور وأساورة.

[vii] ينتظموكم: يَشُكّوكم.

[viii] البداية والنهاية:7\109.

[ix] البداية والنهاية7\10.

[x] طما: علي وغطّي

الشّاكة السلاح:التامة السلاح أو الحادّة السلاح[xi]

[xii] قال الطبري:”عندما أراد عمر فتح فارس تخوَّفوا من الرس وعجبوا كيف يستطيعون أن يحاربوهم! وكان وجه فارس من أكره الوجوه إليهم، وأثقلها عليهم؛ لشدةة سلطانهم وشوكتهم، وعّهم وقهرهم الأمم”  (تاريخ الطبري:4\61).

[xiii] ثلوا عروشهم: هدموها.

[xiv] صفيقة: كثيفة النسيج

خصف النعل: خرزها وضم بعضها إلي بعض.[xv]

[xvi] الجفن: غمد السيف، أي بيته.

[xvii]: ركاب من جلد يضع الرجل قدمه فيه ثم يمتطي دابته. الغْرز

[xviii] قال بن كثير:”كان المسلمون يجيئون بعض تلك الدور، فيجدون البيت ملآنا إلي أعلاه من أواني الذهب والفضة، ويجدون من الكافور شيئًا كثيرا، فيحسبونه ملحًا، وربما استعمله بعضهم في العجين، فوجدوه مرًّا حتي تبينوا أمره”.(البداية والنهاية:7\67).

 

(المصدر: موقع “الإيمان أولاً”)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى