مقالات مختارة

المدرسة السياسية في سقيفة بني ساعدة

بقلم الشيخ فرج كُندي

اجتماع سقيفة بني  ساعدة  وأثره في  اختيار الخليفة في الدولة الإسلامية.

 بينما كان الصحابة يستعدون للجهاد في جيش أسامة بن زيد -رضي الله عنه- مرِضَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- ظن الصحابة أنه عارض يصاب به ثم يشفي منه, إلا أن المرض اشتد به وطلب أن يمرّض في بيت زوجته عائشة أم المؤمنين-رضي الله عنها,  ثم شرع يوصي  ويعطي إشارات وكأنه يودع الدنيا عن قريب, وأن أجله قد اقترب, فأوصى بإخراج المشركين من جزيرة العرب, ونهى عن اتخاذ قبره مسجداً وأوصى بالصلاة وما ملكت اليمين.

و خطب في أيام مرضه فقال: (إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده، فاختار ذلك العبد ما عند الله) فبكى أبوبكر، فقال أبو سعيد الخدري-رضي الله عنه-: فعجبنا لبكائه أن يُخبرَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن عبد خُيّر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المٌخيّر, وكان أبوبكر أعلمنا)  .

ولما أشتد المرض بالنبي-صلى الله عليه وسلم- وحضَرته الصلاة فأذّن بلال, قال النبي صلى الله عليه وسلم (مروا أبابكر فليصلّ)   وهذا الأمر فيه دلالة وليس مجرد إشارة على  أفضلية أبي بكر وسبقه وقدرته على تولي أمر المسلمين بعد نبيهم, وكأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- يقول لأمته إذا غبتُ عنكم فقد تركت فيكم من يتولى أمركم.

فقد أمّنته على دينكم وأنا بين ظهرانيكم فمن باب أولى أن يكون الأجدر والأولى أن  يؤتمن على دنياكم وتولي أمركم وسياسة دولتكم.

(فارق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الدنيا وهو يحكم جزيرة العرب ويرهبه ملوك الدنيا ويفديه أصحابه بنفوسهم وأولادهم وأموالهم, وما ترك عند موته ديناراً ولا درهماُ, ولا عبداً ولا أمة ,ولا شيئاً إلا بغلته البيضاء, وسلاحه وأرضاً جعلها صدقة)  .

كانت هذه النازلة التي صدمت المسلمين وجعلتهم يصابون بزلزال عظيم أثّر في نفوسهم, وفي عقيدتهم من جلل الخطب وعظمته؛ فمنهم من غُشي عليه من هول الموقف, ومنهم من أخذه الذهول والحيرة, ومنهم من رفض القول بوفاة الرسول-صلى الله عليه وسلم-  مثل عمر بن الخطاب الذي هدد من يقول بموت الرسول- صلى الله عليه وسلم- بضرب عنقه بالسيف, أو بتقطيع أطرافه؛ بل  قال إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لم يمت وإنما ذهب إلى لقاء ربه كما ذهب موسى إلى لقاء ربه وسوف يعود كما عاد موسى إلى قومه.

وشعر الصحابةُ  في المدينة بفارق بين يوم أن دخلها  فأضاء منها كل شيء, وبين اليوم الذي مات فيه أظلم كل شيء فيها, واضطربت الحال في المدينة إلى أن سمع أبوبكر الصديق الخبر فأقبل على فرس من مسكنه  خارج المدينة (بالسنح)   فلم يكلم الناس حتى دخل حجرة عائشة ( فتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغشى بثوب حبرة  فكشف عن وجهه, ثم أكب عليه فقبله وبكى ثم قال: بأبي أنت وأمي, والله لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها) 1 ثم خرج الصديق على الناس  كرجل مرحلة وزعيم في محنة, وهٌم في سكرتٍهم التي لم يفيقوا منها ليوقظهم ويحيي  في وجدانهم تلك الحقيقة التي هزت قلوبهم ولم تتحملها نفوسهم فأراد أن يوقظ القلوب, ويهز النفوس التي أذهلتها الفاجعة, وكأن كل تلك المقدمات التي تٌهيء الأمة لرحيل رسولها لم تكن ولم تنزل في القرآن  ولا تكلم بها رسول الله في حديثه!!!.

فقام خطيباً بعد أن حمد الله وأثنى عليه فقال قولته الشهيرة التي ثبتت الأمة وأعادت الصحابة إلى رشدهم, وأيقنوا أن الموت حق وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم- قد فارق دنياهم وانقطعت صلة الوحي  بين السماء والأرض وأن الرسول قد ذهب إلى الرفيق الأعلى، وإن كان محمدا قد مات، فإن رب محمد حي لا يموت.

أما بعد فإن من كان يعبد محمداً, فإن محمداً قد مات, ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت، ثم تلا هذه الآية (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ? أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى? أَعْقَابِكُمْ ? وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى? عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ? وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) .

قال عمر بن الخطاب  ما إن سمعت أبابكر يتلو هذه الآية حتى هويت إلى الأرض ما تحملني قدماي، وأيقنت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قد مات.

كانت وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- مصيبة عظيمة، وخطب جلل، وابتلاء شديد، وبداية لمرحلة جديدة لهذه الأمة في مسيرتها بعد نبيها-صلى الله عليه وسلم-  الذي كان بين ظهرانيها يقودها بأمر الله ويوجهها من خلال سنته .

كانت تسير وفق أمره وتتبع خطواته، يوجهها وفق توجيه الله من خلال الوحي الذي ينزل عليه في كل أمور الدنيا والآخرة  سواء بسورة قرآن منزًّل أو سنة مُسددة من الله تعالى.

وبوفاة النبي-صلى الله عليه وسلم- وانقطاع الوحي كان لزاماً على الأمة ان تأخذ بزمام أمرها وتعتمد على نفسها متمسكة بكتاب ربها وسنة رسولها في مواصلة دعوتها واستكمالاً  لمشروعها في الدعوة إلى الله و نشرها في الناس كافة, وفي كافة أصقاع الأرض.

وما أفاق الناس من صدمة خبر وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حتى دخلوا في محنة كبيرة ونازلة جسيمة لها من الأهمية والخطورة بمكان؛ ما جعلهم يتداولونها ويتطارحونها قبل الفراغ من تجهيز الرسول ودفنه في قبره.

لم يترك الصحابة فرصة للمنافقين وأصحاب الأهواء أن يستغلوا فرصة فراغ السلطة وهو ما يمكن أن نسميه اليوم (بالفراغ الدستوري) ليدسوا سمومهم ويستغلوا الظرف الذي تمر به الدولة وما يختلج في نفوس أفراد الأمة من هم وحزن على فراق نبيهم-صلى الله عليه وسلم- ليبثوا روح الخلاف, وينصبوا فخاخ الشقاق في أركان الدولة التي فقدت قائدها ومدبر شؤونها الذي يأتيه وحي السماء مسددا ومقرا أو موجهاً, فكان حوار السقيفة خطوة استباقية لاختيار قيادة جديدة تخلف الرسول-صلى الله عليه وسلم- في إدارة الدولة وتقطع الطريق على كل من تسول له نفسه المساس بوحدة الأمة وسلامة كيانها وبث الشقاق, والفرقة في صفها المتماسك المرصوص.

وقد ذكر السيوطي  قول عمر بن الخطاب عن بيعة أبي بكر في كتاب تاريخ الخلفاء الذي ننقله على طوله لأهميته التاريخية ولنقله الحدث بكل تفاصيله وحقائقه التي لم يكذبها أو يعترض عليها إلا مناكف أشر. لا يستند إلى دليل أو برهان يُنظر إليه. ولكونه يمثل وحدة موضوعية مترابطة تنقل الحدث بدقة كبيرة تجعل كل من يطلع عليها وكأنه يرى الحدث بعينه ويسمع بأذنه  فقال: ( تخلف الأنصار عنا بأجمعها في سقيفة بني ساعدة واجتمع المهاجرون إلى أبي بكر, فقلت له: يا أبابكر انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار فانطلقنا نؤمهم حتى لقينا رجلان صالحان, فذكرا لنا الذي صنع القوم، قالا: أين تريدون يامعشر المهاجرين  فقلت : نريد إخواننا من الأنصار, فقالا: لا عليكم ألا تقربوهم, واقضوا أمركم يامعشر المهاجرين, فقلت: والله لنأتينهم .

فانطلقنا حتى جئناهم في سقيفة بني ساعدة, فإذا هم مجتمعون, وإذا بين ظهرانيهم رجل مُزمّل , فقلت من هذا؟ قالوا: سعد بن عبادة, فقلت: ماله؟ قالوا: وجٍع, فلما جلسنا قام خطيبهم  فأثنى على الله بما هو أهله وقال:

أما بعد: فنحن أنصار الله وكتيبة الإسلام, وأنتم يا معشر المهاجرين رهط منا, وقد دفت دافة منكم يريدون يختزلونا من أصلنا  ويحضون من الأمر.

فلما سكت أردت أن أتكلم, وكنت قد زورت مقالة أعجبتني أردت أن أقولها بين يدي أبي بكر وكنت أداري منه بعض الحد, وهو كان أعلم مني, والله ما تركت  من كلمة أعجبتني في تزويري إلا قالها في بديهيته مثلها وأفضل منها حتي سكت, فقال:-

أما بعد: فما ذكرتم فيكم من خير فأنتم أهله, ولم تعرف العرب هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش, هم أوسط العرب نسباً وداراً, وقد رضيت لكم أحد هاذين الرجلين, فبايعوا أيهما شئتم, وأخذ بيدي وبيد أبي عبيدة بن الجراح, وهو جالس بيننا فلم أكره مما قال غيرها.

وكان والله, أن اٌقًّدم فتضرب عنقي لا يقربني ذلك من إثم أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم ابو بكر.

فقال قائل من الأنصار: أنا جٌذيلها المُحكك, وعُذيقها المُرجب, منا أمير ومنكم أمير يا معشر قريش, وكثر اللغط, وارتفعت الأصوات حتى خشيتُ الاختلاف, فقلت أبسط يدك يا أبا بكر، فبسط يده, فبايعته, وبايعه المهاجرون، ثم بايعه الأنصار، أما والله ما وجدنا فيما حضرنا أمراً هو أوفق من مبايعة أبي بكر, خشينا إن فارقنا القوم ولم تكن بيعة، فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى, وإما أن نخالفهم فيكون فيه فساد )

من خلال استعراض أحداث السقيفة يتضح لكل من أراد أن يصل إلى الحقيقة ويطلع على مستوى النضج السياسي الذي ترك عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمته قبل أن يغادر الدنيا الحقائق التالية:

أولها أن رسول الله قد مهد, وجهّز أمته  لمرحلة جديدة وهي استمرارها وسيرها بعد غيابه عن الدينا بعد أن ترك فيها ما لن تضل بعده أن تمسكت بهما وهما كتاب الله وسنة رسوله.

وجود قيادات عسكرية وسياسية ودينية تتحمل مسؤولية الدولة وتحافظ علي الدين وكان على رأسهم أبوبكر الذي تولى القيادة ( الإمامة بالناس ) قبل وفاة الرسول-صلى الله عليه وسلم-  وهذا ما يمكن أن نطلق عليه التدريب والتمرين والتأهيل والتعلم و الخبرة.

التسليم لنصوص الشرع المتمثلة في الكتاب والسنه والالتزام بما جاء فيهما, وقد ظهر جلياً حين قال أبوبكر: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول ( إن هذا الأمر في قريش) فلم يناقشه أحد من الأنصار ( سمعنا وأطعنا ) وفيه دلالة على مكانة الصديق في نفوس الأنصار, فلم يسجل أي اعتراض من الصحابة على قوله هذا, وهو إقرار بصدق وتصديق أبي بكر من كافة الصحابة الذين حضروا النقاش في السقيفة حول الخلافة.

البعد السياسي لدى الصحابة في أهمية وجود القيادة التي تحكم الأمة وتقودها وإدراك خطورة الفراغ الذي يخلّفه التأخير في إقامة الخلافة وسد (الفراغ السياسي) الذي يخلفه الغياب المفاجئ للحاكم .

ونخلص إلى أن اجتماع السقيفة أنتج نظاماً سياسياً جديداً عُرف بنظام الخلافة الإسلامية وهو نظام لم يعرف تاريخ البشرية مثيلاً له من قبل . يتم فيه انتقال السلطة الدنيوية بطريقة سلسة وفق نظام جديد يختلف عن النظام الوراثي الذي تتحكم فيه القرابة وتحدد حصر انتقال السلطة بين الأقارب من الأب الي الابن أو الأخ أو الأقرب وهذا المعيار السائد والمهيمن على نظام الحكم في ذلك الوقت سواء في المناطق ذات النظام القبلي أو المناطق التي يسود فيها نظام الحكم الملكي والقيصري والكسروي الذي يعتمد على منطق الشوكة والغلبة, والذي ينعدم فيه معيار القدرة والصدق والأمانة وهو المعيار الذي عززه الإسلام, وقرره المجتمعون في السقيفة الذين اعتمدوا معيار اختيار الحاكم الذي يتمثل في  الصدق والسبق والقوة والأمانة, والمفاضلة- بين المهاجرين والأنصار ثم بين أبي عبيدة وعمر–  دون إكراه ولا غلبة ولا شوكة.

  وهذه نقلة لم تَسبق إليها أمةٌ في التاريخ البشري أمةَ الإسلام، جعلت من السقيفة نموذجاً تهفو إليه الأنفس التواقة للحرية وتهوي إليه أفئدة العقول الطامحة إلى اعتماد نموذج مثالي، فيه من المرونة ما يواكب تطورات العصر، ويعطي للأمة حرية اختيار من يحكمها أو من ينوب عنها في تقرير مصيرها، ويحقق طموحاتها ويلتزم بتحقيق عقد بيعتها الذي تعهد  بالالتزام به وبذل الجهد في تحقيقه.

——————————————-

قائمة المصادر والمراجع : 

1- القرآن الكريم

2- صحيح البخاري, أبي عبدالله محمد بن اسماعيل البخاري, دار الفكر

3- فتح الباري , المطبعة السلفية , الطبعة الثانية , 1401 هجري

4- العواصم من القواصم , ابوبكر ابن العربي , تحقيق محب الدين الطيب , دار الثقافة ,الدوحة الطبعة 2 , 1989م

5- تاريخ الخلفاء, الامام السيوطي , وزارة الاوقاف , قطر , الطبعة الثانية , 2013 م

المصدر: رابطة العلماء السوريين.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى