مقالاتمقالات مختارة

المخطوطات الإسلامية ومراتب تحقيقها وصيانة نصوصها

بقلم د. أحمد بن فارس السلوم

لعل من نافلة القول التذكير بعظمة التراث الإسلامي في مختلف المعارف الإنسانية، والعلوم التطبيقية، ويمكن إدراك ذلك من نظرة عجلى على فهارس المخطوطات الموضوعية، بحيث ترى الكم الهائل من عناوين المخطوطات الطبية والهندسية وغيرها.

في هذا المقال سأتحدث عن المخطوطات التي تُعنى بعلوم الشريعة، ولا سيما علوم القرآن والسنة، بحكم تخصص راقمه وممارسته لها، وتجريبه مناهج ذوي الاختصاص فيها، فإن الحال كما قيل: شاممناهم ثم ناوشناهم!.

ولم أكتب هذه الإضمامة لأتحدث عن المخطوط نفسه، فتلك «حِرفة» لأهلها، و«صنعة» لأربابها، ولا أختار لطالب العلم الاشتغال بها، ولا عن طُرق جمع المخطوط وكيفية لمِّ شَعثه، وأين مظانّ وجوده، فتلك «وِراقة» يأخذ طالب العلم منها حاجته بقدرها، ويستعين بأهل الخبرة في تحصيلها، ولا أجدني هاهنا قادرًا على وضع منهج لبعث المخطوطات في عالم الطباعة، فذلك يطول جدًا، وهو أمر شاق بالنسبة لي، إذ تختلف أنظار الناس فيه -ولا أدل على ذلك من أنَّ قارئ هذه الوريقات ممَّن اعتنى ولو بمخطوط واحد في يوم من دهره سينتقد بعض ما أذكر؛ ويقول: ليته قدم هذا وأخر ذاك، وقال هذا ولم يقل ذاك- فضلاً عن أنه أمر تأخذ الخبرة والممارسة زمَامه، وهو أظهر في العمل والإخراج؛ والطباعة والإبراز؛ منه في القول والتنظير، ولكني في هذا المقال أحاول أن أصنِّف مراتب إبراز المخطوط وبعثه في عالم المطبوعات.

وهذا أمر من الأهمية بمكان، وذلك لأمور:

الأول: أننا نشهد بين الفينة والأخرى طباعة كتاب واحد أكثر من مرة من أكثر من معتنٍ في نفس مرتبة الإخراج والإبراز، مع تفاوت يسير، ليس بذي بال، وكم في هذا العمل من تضييع جهد، وخسارة وقت، وبذل مال.

الثاني: أنَّ المخطوط الإسلامي يختلف في المضمون والمنهج، وليس هو على نمطٍ واحد، ولا وتيرة مستوية، ومرتبة الإبراز والاعتناء التي تناسب كتابًا مطوَّلاً ليس بالضرورة أنْ تُناسب كتابًا مختصرًا، وكذا تختلف مرتبة إبراز كتب السنة عن كتب الفقه، وهكذا.

الثالث: أن إبراز المُعْتَني مرتبة إخراجه للمخطوط -على طُرَّة طبعته- تختصر على طالب العلم بيان منهجه، وتكشف له ميزة طبعته، فمرتبة الإخراج كالمصطلح، يُستغنى بكلمة منها عن شرح طويل.

فإذا قلنا: إن اشتغال المعتنين بالمخطوط يهدف إلى إخراجه لعالم الطباعة الحديثة بأنماطها الجديدة، فإنَّ صورة هذه العناية والصيانة على درجات، وذلك ما عنيتُ «بمراتب» طباعة المخطوط وتحقيقه، ويمكنني أن ألخصها في ثلاث مراتب:

المرتبة الأولى: النسخ.

ونسخ الكتاب: نقل صورته المجردة إلى كتاب آخر، وذلك لا يقتضي إزالة الصورة الأولى بل يقتضي إثبات مثلها في مادة أخرى، وهو والاستنساخ سيان.

قال الزبيدي: نسخ الكتاب كتبه عن معارضة، وفي التهذيب: النسخ اكتتابك كتابًا عن كتاب حرفًا بحرف، كانتسخه واستنسخه. والكاتب ناسخ ومنتَسِخ، والمكتوب المنسوخ منه: النُّسخة، بالضم، وهو الأصل المنتَسخ منه. أهـ.

وحقيقة هذه المرتبة: إخراج النص المخطوط من الأصول المستنسخة كما هو، معتمدا على أصل يثق به.

وشرطها: المقابلة والمعارضة، كي يصحح متن الكتاب.

وتصلح هذه المرتبة: للكتب المطولة، كشروحات السنة، والتفاسير المطولة، ولا سيما التي يغلب عليها صناعة الرأي، وكذا الكتب التي تولى مصنفوها تحقيقها وتنقيحها.

وهذه المرتبة يمكن من خلالها لكل خبير بالمخطوط العربي؛ عارف بلسان العرب؛ أن يشتغل بأصناف العلوم المختلفة، فالمؤرخ يشتغل بمخطوطات الحديث، وكتب تراجم الرواة، والنحوي يشتغل بمخطوطات التفسير والقراءات، لأنَّ هذه المرتبة تتوقف على أمرين:

الأول: الدربة على قراءة الخطوط، ومعرفة مصطلحات النُّساخ وأساليبهم المستخدمة في الكتابة، ومعاني رموزهم ومدلولاتها، كالتصحيح والتضبيب والتمريض وما كُتب أصلاً وما كتب لحقًا، وتمييز ذلك من التهميش والتحشية.

والثاني: معرفة مصادر العلوم لموضوع المخطوط ومَرَاجعه.

فمن عرف هذين استطاع أن يشتغل بالمخطوط العربي، وقد تجد منهم من لا يعدو أن يكون زاملة، كما روى الخطيب –في الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع- عن مطر: «وسأله رجل عن حديث فحدثه فسأله عن تفسيره، فقال: لا أدري إنما أنا زاملة، فقال له الرجل: جزاك الله من زاملة خيرًا فإنَّ عليك من كل حلو وحامض»، وقد تجد منهم من هو مشارك أصلاً في هذه العلوم فقد يحسن إلى درجة كبيرة.

لكن الكيِّس -من غير أهل الفن- من وقف عند هذه المرتبة، ولم يتجاوزها، فإنه إنْ فعل فسيقف بين الباب والدار عند أول تعليق!، ولا سيما إن كان المخطوط يستحق مرتبة أخرى من مراتب الاعتناء فإنه سيوقع نفسه في ورطات، إذ يتوقع لمختص في الفن أن يعتني به أكثر من عناية هذا.

ويكتفى في هذه المرتبة: بتخريج الآيات والأحاديث، وتوثيق الأقوال المنقولة إن تيسر ذلك.

فهذه أقل مراتب العناية بالمخطوطات، فإن انعدمت هذه العناية كان عمله وِراقة ليس أكثر، وكثير من كتب التراث مطبوعة في دور النشر على هيئة الوراقة، وهذه الهيئة -وإن كانت موجودة واقعًا- إلا أني لم أذكرها في مراتب إخراج المخطوط وطباعته لأنه إخراج كلا إخراج! فهي في الحقيقة نسخة من جملة النسخ -إن لم تكن من أسوء النسخ- لهذا الكتاب.

والمقترح لمن كانت طبعته في هذه المرتبة أن يكتب على الطرة: نسخه، أو قرأه فلان بن فلان..

المرتبة الثانية: التحقيق.

مشتق من الحق، وأصل الحقِّ: المطابقة والموافقة، يقال: أحققت كذا أي أثبته حقًا، أو حكمت بكونه حقًا، كذا قال الراغب وغيره، وفي معجم المقاييس: يقال حَقَقْتُ الأمرَ وأحقَقْتُه، أي كنتُ على يقينٍ منه، وفيه: يقال ثوب محقق إذا كان محكم النسج أهـ وللمخطوط المحقَّق من ذلك نصيب، فإنَّه لا يسمى محققا حتى يكون محكمًا..

وهذه المرتبة تتطلب جهدًا أكثر من مرتبة النسخ، ولا ينهض بها إلاَّ ذو اختصاص بالفن، وبهذه المرتبة والمرتبة الآتية تُعرف مكانة المُعْتني في الفن.

وذلك لأنها تتضمن عدة أمور:

الأول: تصحيح نصِّ المخطوط.

والتصحيح نوعان:

• تصحيح كتابة:

بمعنى أنْ يُصحَّح النص كما كتبه مصنفه، إذ أن النسخ قد تختلف فيما بينها، لأسباب ترجع إمَّا إلى الناسخ وإمَّا إلى الأصل المنسوخ منه، فعلى المُعتني ألا يقف عند ذكر الخلاف بين النسخ فحسب، بل عليه أن يجتهد في تصحيح الكتابة كما أرادها المؤلف، ولهذا الاجتهاد أدوات كثيرة، وطرق متعددة، وسيد ذلك كله: الخبرة والاطلاع، ومعرفة نوع المخطوط.

• تصحيح إحقاق:

وذلك بإثبات أنَّ ما صح كتابة قد ثبت حقًّا، فهو حُكم من المعتني بكونه حقًا في ذاته. وهذا شيء فوق تصحيح الكتابة.

وتصحيح الإحقاق لا يكون لكل نص، بل لنص يعلمه المُعتني ذو الاختصاص بالفن، ضابطه: أنه مما يُظن فيه ضعف الحجة، أو مما يكون فيه اختلاف بين أرباب الصنعة.

واختلافهم في النصوص المحتاجة لذلك: يخضع للعلم بالفن، فهم فيه بحسب بروزهم واطلاعهم، فكم من عبارة مرَّت على معتنٍ وهي مُرَّة، فلم يشعر بمرارتها، ولا تأوه من حرارتها، فمرَّرَها كما مرت، في حين وقف عندها معتنٍ آخر، فخضد شوكها، ورفع معرَّتها، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

الثاني: الاعتناء بالنص، من حيث تخريج آياته وأحاديثه، وتوثيق نقولاته، وما شابه ذلك.

ويختلف اعتناء المعتنين بحسبهم، وبحسب ما تسمح به أوقاتهم، بل هم في الأمر الواحد مختلفون، فمعتنٍ يخرج الحديث ولا يبين حكمه، وآخر يتجشم ذلك.. الخ.

ويختلفون كذلك في خدمة النص وتقريبه للقارئ، وغاية ذلك والمنتهى منه: التنوق في الفهارس التي تقرب الكتاب من الأخذ باليد، حتى كأنه الماء الزلال لشاربه!

الثالث: تجلية النص، وذلك بكشف غامضه، وبيان مشكله، وتقريب فكرة المؤلف للقارئ الوسط لا الغَمر المبتدئ، مما يعني تجاوز المصطلحات المشهورة -مثلا- وعدم الوقوف عندها وما شاكلها، إلا إن كان الكتاب في أصل وضع مؤلفه إنما وضعه للمبتدئين.

ومما يتبع تجلية النص: بيان غلط المؤلف لا مغالطته، فغلطه: الخطأ المحض، كنسبة حديث إلى الترمذي وليس هو فيه، وإنما هو في ابن ماجه، وأما مغالطته: كأن يكون لكلام المؤلف وجه من الصحة فيغالطه في مراده.

فهذه الأمور الثلاثة هي الحد الأدنى من صناعة التحقيق، ثم يظهر للمعتني أشياء تختلف من مخطوط لآخر، يعرفها بذوقه، تزيد من صيانته للكتاب، وتعزز درجته في طبقات المحققين.

والمتقدمون كانوا يُحشُّون على الكتب والمتون، فالحواشي بنات الكتب، والمحقق -باصطلاحنا اليوم- هو كأصحاب الحواشي، إلا أنه: كم من حاشية صارت كتابًا، وكم من بنتٍ غدت أمًّا!

والمقترح أن يكتب على طرة طبعته: تحقيق، أو تحقيق وتعليق..

المرتبة الثالثة: الشرح.

الشرح هو الفتح والكشف والبيان، وهذه المرتبة مهمة، لكن الأهم مناسبة المخطوط لها، ولا يُشترط أن يكون المخطوط صغير الحجم قليل الورقات، أو أن يكون متنًا في فنٍّ، بل ربما كان مجلدات كثيرة، بل ربما كان كتاب رواية، كطبعة الشيخ شعيب الأرناؤوط ورفاقه لمسند الإمام أحمد، فإنه يصح أن يطلق عليها: شرح وتحقيق، مع أن الكتاب طويل وأحاديثه كثيرة.

وكذا تحقيق الشيخ أحمد شاكر للمسند من قبلُ، فإنه تحقيق وشرح، وقد كان الشيخ شاكر يُسمي تعليقه على المسند وسنن الترمذي شرحًا، وإذا أحال إلى تحقيق سنن الترمذي في المسند أطلق على طبعته اسم الشرح، كقوله: «وقد حققت ذلك تحقيقًا وافيًا في شرحي للترمذي».

قال الشيخ حامد الفقي –مقرظًا شرح وتحقيق الشيخ شاكر على المسند-: «فهذا العمل العظيم حقاً، ليس وليد القراءة العاجلة، أو إزجاء الفراغ فيما يلذ ويَشُوق ويسهل. وإنما هو نتاج الكدح المتواصل، والتنقيب الشامل، والتحقيق الدقيق، والغوص العميق في بطون الكتب وثنايا الأسفار. وقد أنفق فيه صديقي نحو ربع قرن من الزمان، لو أنفقه في التأليف أو في نشر الكتب الخفيفة لكان لديه منها الآن عشرات وعشرات، ولجمع منها مالاً جزيلا، وذكراً جميلا..».

وتتضمن هذه المرتبة ما سبق ذكره في المرتبتين السابقتين، وتزيد عليها: «الكشف والبيان».

ولا ضابط يمكن وضعه لهذا الكشف لاختلاف المُعتنين فيه، واختلاف مداركم وذائقتهم، إلا أن المعتني يجب أن يفرق:

بين المخطوط الذي وضعه مؤلفه للمبتدئين، والذي وضعه للمتوسطين، والذي وضعه للمنتهين، ثم يُعالج من الشرح والبيان بحسب ذلك، وهذا كله بعد تحقيق المخطوط.

والمقترح أن يكتب على طرة طبعته: شرح وتحقيق..

فهذه المراتب الثلاث يُنزل المعتني الثَّقِف مخطوطه منها بحسبه، ويختار له ما يناسبه، وليس في تفريق المراتب إلى ثلاث دنوٌ ولا بُعد، ولا تَطامنٌ ولا سُمو، بحيث يأنف أن يلحق مخطوطًا يستحق مرتبة النسخ بمرتبته، ظنًا منه أن ذلك من النقص فيه، بل النقص شرح المشروح، وتكلف ما لا يحتاج إلى التكلف.

نعم، قد يعرض للمعتني شيء –كفرط تعلق بمخطوط، أو موافقة في منهج وطريقة- يجعله يُطيل فيما حقه الإقصار، فيحتمل للصبِّ الهائم ما لا يحتمل للغافل النائم!

وهذه المراتب الثلاث لها على المحقِّق ثلاثة حقوق، إذ أنه لا بدَّ فيها من صحة المخطوط: «عنوانًا، ومؤلفًا، وشرعًا».

فصحة العنوان:

أي عنوان الكتاب المُعتنَى به، فيحقق اسمه بالطرق المتبعة، والمخطوط من أوثق الطرق في تصحيح اسم الكتاب، دون الفهارس والأثبات وكتب التراجم والبرامج.

وصحة المؤلِّف:

أي مؤلف المخطوط، فيستوثق النِّسبة، كي لا ينسب لشخص ما ليس له، أو ينفي عن مؤلف حقَّ أبوته، فقد قيل: كتاب العالم ولده المخلد، وذِكره الذي لا ينقطع، وما أحسن ما قال الشاعر:

يقولون ذكر المرء يبقى بنسْلِه     وليس له ذِكرٌ إذا لم يكن له نسلُ

فقلت لهم نسلي بدائع حكمتي     فمن سرَّه نسلٌ فإنا بذا نسلو

وصحته شرعًا:

أي أنَّ محتوى المخطوط من العلوم الجائزة، فلا يُقدم على تحقيق ما لا فائدة فيه، فضلاً عما يَحْرم نشره وإذاعته بين المسلمين، ككتب السحر والشعوذة، ومنها: كتب الفرق الضالة التي تُفسد عقائد المسلمين.

والمُعتني بالمخطوط هو من يقوم بذلك كله، ويتحمل تبعته، والأمثلة على إخلال محققين بهذه الثلاثة الحقوق كثيرة.

وهذه نبذٌ تساعد المعتني بالمخطوط على اختيار مرتبة العناية المناسبة له، وتوضح له ملامح المنهج المناسب للتحقيق، فأقول:

أولاً: لا بدَّ من فهم المخطوط، ومن إدراك غرض مؤلِّفه منه، هل قصد مؤلفه التحقيق والتنقيح والشرح والبيان، أم أنه أراد الجمع كيف اتفق، أم ماذا كان مراده، وبمعرفة مراده تعرف كيف تعتني بكتابه.

ثانيًا: معرفة كيفية تأليف المخطوط، وذلك لأنَّ كتب التراث على أنواع، وأكثر ما يعالج المشتغل بعلوم الكتاب والسنة ثلاثة:

1-كتبٌ كتبها مؤلفوها وحرروها: ثم أخرجوها للناس فانتسخوا منها نسخًا، وهذا هو الأصل، وهو الغالب، فهاهنا تخضع الأصول للمفاضلة من عدة جوانب، منها: تقديم ما خُطَّ بقلم المؤلف، ثم ما قُرئ عليه، ثم ما نُسخ من نسخة المؤلف، ثم فروعها، وهكذا..

وتاريخ النسخة مهم، لكنه ليس كل شيء، فمثلاً: في مقارنة نسخةٍ نسخها غمرٌ أو مجهول في عهد قريب من المؤلف مع نسخة تأخرت كثيرًا لكن نسخها عالم بالفن عن أصل منقول من أصل المؤلف، فإنه ولا ريب يقدم الثاني على الأول، وهكذا يعتبر المحقق أوجه التفاضل فيقدم ما يستحق التقديم ويؤخر ما يستحق التأخير.

ثم لو قدر مثلاً أن وقف المحقق على نُسخ عدة بخط المؤلف فإن المفاضلة تدخل بينها أيضًا، ولا تستوي هذه النسخ كلها على قدم واحد، تأمل قول السيوطي (في المزهر) مستعرضًا نسخ كتاب الجمهرة لابن دريد: «وقال بعضهم: أمْلَى ابنُ دُرَيْد الجمهرَة في فارس، ثم أَمْلاها بالبَصْرة وببَغْداد مِنْ حِفْظه، ولم يستَعِنْ عليها بالنظر في شيءٍ من الكُتُب إلاَّ في الهَمزةِ واللفيف، فلذلك تختلف النسخ، والنُّسْخَة المعوَّل عليها هي الأخيرة، وآخرُ ما صحَّ نسخة عبيد الله بن أحمد لأنه كتبها من عِدَّةِ نسخ وقَرَأَها عليه.

قلت: ظَفِرْتُ بنسخة منها بخطِّ أبي النمر أحمد بن عبد الرحمن بن قابوس الطرابلسي اللُّغوي وقد قرأها على ابن خالويه بروايته لها عن ابن دُرَيد وكتب عليها حواشٍ من استدراك ابن خالويه على مواضع منها ونبَّه على بعض أوهامٍ وتصحيفات.

وقال بعضهم: كان لأبي علي القالي نسخةٌ من الجمهرة بخطِّ مؤلفها وكان قد أُعْطِي بها ثلاثمائة مثقال… »الخ.

ولا شك أن أصح النسخ عن المؤلف ما كتبه آخرًا، إلا أنَّ هذا لا يلغي أهمية النسخة الأولى، إذ أنها الأصل الذي ينطلق المؤلف منه لتحرير كتابه، وقد يكون فيها نقص استدركه في النسخة الأخيرة، وقد يكون فيها زيادة حذفها في النسخة الأخيرة، إمَّا رغبةً عنها، أو طلبًا للاختصار، لكن هذه الزيادة تمثل مرحلة مهمة من مراحل بناء هذا الكتاب وبناء صاحبه، ولا بد من إخراجها.

فمثل هذه الكتب يحرص على تصحيح النص من مختلف الأصول، حتى يخرج الكتاب في أصح ما يمكن، ثم بعد ذلك ينظر في الحاجة إلى الاقتصار على النسخ أو التحقيق أو الشرح والبيان.

2- من الكتب ما يكون إملاءً من المؤلف، فيقع فيه زيادات -بأغراض مختلفة- من الناسخ أو الراوي. مثل تفسير ابن عرفة، فإنه إملاء وتقييد من أصحابه، ولذا تجد في نص المخطوط ما يقطع بعدم إضافته لمن نُسب إليه الكتاب، كقوله في مقدمته -في بيان حد التفسير-: «وحقيقته هو العلم بمدلول القرآن وخاصية كيفية دلالته وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، فقولنا: خاصية كيفية دلالته هي إعجازه ومعانيه البيانية، وما فيه من علم البديع الذي يذكره الزمخشري ومن نحا نحوه.

قيل لابن عرفة: غيره من المفسرين لم يذكرها كالطبري الذي هو إمام المفسرين؟ فقال: كان مركزًا في طبعه وإن لم يكتبه..».

فمن واجبات المحقق تمييز هذا من هذا، ويضاف على ما ذكرنا من تصحيح الكتابة والإحقاق هنا: «تصحيح النسبة» فلا يَنسب له من القول ما ليس له.

ومن هذا القبيل -أعني تصحيح النسبة- التفريق بين المتن والحاشية، وما يصح لحقًا في موضعه وما لا يصح، وليس هو بالشاق على المحقق الخرِّيت، فإنَّ كثيرًا من العلماء والنساخ قد يهمشون ويحشون على الكتاب، ثقة منهم بنباهة الناسخ -المحقِّق اليوم- إذ أن شأن الحاشية غير شأن الأصل.

قال الذهبي في ترجمة أبي الفضل بن خيرون الحافظ –من ميزان الاعتدال-: «قال ابن الجوزي: قد كنت أسمع من مشايخنا أن الخطيب أمر ابن خيرون أن يلحق وريقات في كتابه ما أحب الخطيب أن تظهر عنه. قلت –أي الذهبي-: كتابته لذلك كالحاشية، وخطه معروف، لا يلتبس بخط الخطيب أبدا، وما زال الفضلاء يفعلون ذلك».

3-كتب وصلت إلينا بروايات كثيرة، وهذا أشد ما يكون على المحقق وأصعبه، وهو شيء تجده في اثنين: الكتب القديمة، وكتب الحديث.

فنمط تحقيق هذا النوع مختلف عن سابقيه، إذ يزاد على كاهل المحقق –غير تصحيح الكتاب والإحقاق والنسبة: «تصحيح الرواية»، أو سمها إن شئت: «تحقيق الرواية» فمتون هذه الكتب لا يصلح لها الخلط والتلفيق بين الأصول، لأنه إن فعل ذلك فسيتولد مسخ من الكتب، ولا سيما كتب المتقدمين حيث إن الرواية قد تتغاير مع الرواية الأخرى حتى كأن كل واحدة كتاب، وانظر مثلاً في كتاب تراجم الشعراء لابن قتيبة لترى كيف أن الرواية تختلف مع صاحبتها حتى كأنك تقرأ في كتابين، وكذلك كتاب الجمحي طبقات فحول الشعراء وغيرها من المصنفات، هذا في كتب الأدب التي تناقلتها الرواة، فما بالك بالعلم الذي هو أصلا علم الرواية: أعني علم الحديث.

لقد اتخذ علماؤنا المتقدمون «تصحيح الرواية» منهجًا في نسخ كتب السنة، وملخصه:

تصنيف الأصول بحسب رواياتها ورواتها، ثم المحافظة في المتن على رواية واحدة، يحققونها على اختلاف أصولها، ويلحقون بالهامش فروق الروايات، فيخلص لك بذلك كتبا في كتاب.

فمثلاً: لصحيح البخاري روايات عدة ونسخ كثيرة، وبعض هذه النسخ -ولا سيما القديمة- إنَّما هي رواية واحدة، وقد تكون في مجلدات، ثم تجد نسخة أخرى في مجلدات كذلك لرواية أخرى، وهكذا، فإذا اعتمد المُعتني منهج أهل الحديث في «تحقيق الرواية» جمع هذه المجلدات في مجلد وهذه النسخ في نسخة، دون أن يخل بالروايات، فيجعل لك الفِربري كله في متناول يدك، مع أن كل رواية عنه كانت نسخة وكتابًا مستقلاً.

ولو اتخذت مثالاً على ذلك: نسخة صحيح البخاري المحفوظة في مجموعة منجانا فإنَّ ناسخها اعتمد في الأصل رواية أبي زيد المروزي، ثم ساق إسناد روايات أخرى ليست في أصل الكتاب، فذكر رواية كريمة وأبي الوقت، وهما مقيدان عنده في كتاب آخر، ثم اطلع على نسخة أي ذر ولم يكن له فيها إسناد فيذكره -وهذا كتاب آخر- فتحصل له نحو أربعة كتب -أي نسخ- من صحيح البخاري، فاختار كتاب أبي زيد لما عرف عنه وعن روايته؛ ولحسن خطها وضبطها؛ فاعتمدها أصلاً للتحقيق، ثم عمد إلى نسخ البخاري فرمز لها رموزًا، وأثبت في هوامش النسخة الأصل فروقات هذه النسخ، فاستغنى بكتاب عن أربعة كتب، جمع فيه ما تيسر له من روايات البخاري.

وقد وُجد بالاستقراء أن الاختلاف بين النسخ يكون: بإبدال كلمة مكان كلمة، أو زيادة أو نقصان، أو تقديم أو تأخير، وقد تعامل نساخ البخاري مع هذه الفروقات، فالكلمة المختلف فيها يعيدون كتابتها في الهامش بالرواية الأخرى ويكتبون فوقها رمز الرواية.

والسقط يرمزون له بـ: س، ويحددون أوله بـ: من لا، أو: ليس ثم يذكرون النسخة مرموزا لها، ويحددون آخره بـ: إلى ونحو ذلك.

وأما التقديم والتأخير فيضبطونه كتابةً في الهامش.

وإذا اختلفت النسخ في ضبط الكلمة بحيث لا يمكن جمع الضبط في المتن فصل في الهامش، كما في هذه النسخة المشار إليها لما ضبط «كخ كخ» بتنوين الكسر والضم وبالإسكان كتبه كله بالهامش مفصلاً.

وكذلك ما كان مضروبًا عليه يكتب ضرب عليه في نسخة كذا من إلى.

مثاله: قول البخاري: «وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ فِي الْمُرِي ذَبَحَ الْخَمْرَ النِّينَانُ وَالشَّمْسُ» هذا ثابت في رواية أبي زيد وغيره ولكن في أصل القابسي مضروب عليه، وهو ثابت في أصل الأصيلي، بيَّن ذلك تلميذهما المهلب بن أبي صفرة في كتاب المختصر النصيح، ثم علل ضرب القابسي عليه في نسخته بأنه لم يعرف معناه إذ كان قد تصحف عليه!

وغالب نسخ البخاري المطبوعة والمنتشرة بين الناس هي عبارة عن نسخ سقيمة، لأنها لا تعتمد على أصل مسند، فهي مجهولة الهوية، ثم لُفقت من عدة روايات فهي محرفة أيضًا.

ومثل اختلاف الروايات -في الحاجة إلى فقهٍ في الإخراج- الكتب التي ألفها مؤلفوها مرة بعد مرة، وهذا شيء قليل، لأن العادة أنَّ المؤلفين والنساخ يعتنون بالكتب التي استقر رأي أصحابها عليها، لكنه موجود حتى لدى المتأخرين، مثل اختلاف طبعتي معرفة القراء الكبار للذهبي، وطبعات تفسير القرآن العظيم لابن كثير، ولن يعجز المحقق الثّقِف عن إخراجها بطريقة صحيحة تجمع شعث الكتاب كاملا.

بعد هذا قد يقول قائل: متى ترى أن يُحققَ المُحقَّق؟

والجواب: في ضوء ما ذكرنا يكون ذلك في حالتين:

الأولى: إذا كان عمل المُعتني ليس إلاَّ وراقةً أو كالوراقة، فإنَّ الكتاب يحقق، ولا بأس بتسجليه في رسائل جامعية، فإنَّ كونه مطبوعًا لا يعني أنَّه محقق، وردُّ بعض أساتذة الجامعات تحقيق مثل هذه الكتب في رسائل الجامعية بحجة أنها مطبوعة تعنتٌ لا ينم إلاَّ عن جهل بمراتب الإخراج والاعتناء، نقيضه تمامًا تضييع وقت الطلاب والباحثين بتحقيق كتاب استوفى حقه من العناية والتحقيق!.

والتعلل بأنه ظهرت له نسخة لم يعتمدها المحقق السابق غير كافٍ، فالنسخ كثيرة، والعبرة ليس بالنسخة بل بمكانتها وما فيها من زيادات، ثم هب أنه ظهرت لكتاب محققٍ تحقيقًا علميًا على عدة نسخ وروايات نسخةٌ فيها شيء من الزيادات تفردتْ به على سائر النسخ، فهل تقبل هذه الزيادة؟ في ذلك نظر، حتى لو كان الناسخ ثقة، من جهة مخالفته مجموعة نُسخ الثقات، ومثل هذا في مجال الرواية لا يقبل، ويسمون حديثه بالشاذ، والنُّسخ لها شيء من الرواية فإنها تقاربها من جهة الوجادة، فإن تفردت نسخة –ولو كان ناسخها ثقة- من بين مجموع نسخ كثيرة؛ ثم لم تحتف هذه الزيادة بما يقويها ويثبتها؛ لم يلتفتْ إليها.

الثانية: إذا كان الكتاب طُبع في مرتبة من الاعتناء غير مرتبته التي يستحق، كأن يكون قد طبعه معتنٍ في مرتبة النَّسخ والقراءة، وحقه أنْ يكون في مرتبة التحقيق والتعليق، أو الشرح والتبيين، فمثل هذا يمكن إعادة تحقيقه، بشرط أن ينزِّله المرتبةَ التي يستحقها من العناية والإبراز، ولا يعيده إلى المرتبة التي كان فيها.

وهنا – أيها الباحث الكريم – إذا تبين لك أنَّ في طبعة الكتاب ما ذكرنا آنفًا؛ وكنتَ من أهل الصنعة؛ ولك رغبة في تحقيق الكتاب؛ فلا تمنعك طبعته تلك من الاشتغال به، بحسب سلَّم الأولويات لديك، فإن كان مقدَّمًا عندك فشمر ساعد الجد، واكسر خاطر التردد، وجرِّد قلم التحقيق والتجرد، ثم دع عنك جانبًا مماراة المحققين ومماحكاتهم، فإنَّ كثيرًا من المحقِّقين غير مُحقِّين، وبعضهم له نصيب من قول القائل:

فإنَّ جميع الناس إمَّا مكذب     يقولُ بما يهوى، وإمَّا مصدقُ

يقولون أقوالاً ولا يعلمونها،     وإن قيل: هاتوا حققوا، لم يحقِّقُوا

فالعلم ليس ملكًا لأحد، لكنه منشود لكل أحد.. والله الموفق،،

(المصدر: شبكة الألوكة)

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى